التخويف من الرياء وبيان علاجه – محمد بن علي بن جميل المطري

«قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»

 

قال الله تعالى: { {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} } [الكهف: 110].

أي: قل – يا رسول الله – لجميع الناس: إنما أنا إنسان مثلكم لا علم لي بالغيب، وقد أوحى الله إلي أن أبلغكم أن معبودكم معبود واحد لا ثاني له ولا شريك له، فمن كان يرجو في الآخرة رؤية الله وثوابه ويخشى عقابه فليعمل في الدنيا عملا صالحا خالصا لله موافقا لشرعه، ولا يرائي في عبادة الله أحدا من الخلق بل يجعل عبادته خالصة لله وحده([1]).

وقال سبحانه: {{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} } [هود: 15، 16].

أي: من كان يقصد بعمله الصالح الحياة الدنيا وزينتها من الأموال والبنين والنساء نُعجِّل لهم ثواب أعمالهم في الدنيا بسعة الرزق والصحة ودفع المكاره، ولا يُنقِصُهم الله ثواب أعمالهم في الدنيا. أولئك الذين يريدون بعملهم الصالح الحياة الدنيا لم يكن لهم في الآخرة إلا نار جهنم يدخلونها، وذهب ما عملوا من الأعمال الصالحة في الدنيا فلا يثابون عليها في الآخرة، وذاهبٌ ما كانوا يعملونه من الخير لغير الله فلا ينفعهم يوم القيامة عند الله([2]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» ([3])

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهِد، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهِدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار! ورجلٌ تعلم العلم، وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به، فعرَّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقي في النار! ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرَّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه، ثم أُلقي في النار» !))([4]).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: «((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟!)) قال: قلنا: بلى، فقال: ((الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل))» ([5])

وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جُزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟!))» ([6])

وعن أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ((إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك))» ([7]).

وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به))([8]).

قال ابن حجر رحمه الله: (المراد بالرياء: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها، والسُّمعة المراد بها نحو ما في الرياء لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر، .. وقال بن عبد السلام: الرياء أن يعمل لغير الله، والسُّمعة أن يُخفي عمله لله ثم يُحدث به الناس)([9]).

وقال النووي رحمه الله: (قال العلماء: معناه من رايا بعمله وسمَّعه الناس ليكرموه ويعظموه ويعتقدوا خيره سمَّع الله به يوم القيامة الناس وفضحه)([10]).

وعن أُبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بشر هذه الأمة بالسناء، والنصر، والتمكين، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب))([11]).  

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «((من تعلم علما مما يُبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرْف الجنة يوم القيامة)) » يعني ريحها([12]).  

وعن الضحاك بن قيس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «((إن الله يقول: أنا خير شريك, فمن أشرك بي أحدا فهو لشريكي. يا أيها الناس أخلصوا الأعمال لله, فإن الله عز وجل لا يقبل من العمل ألا ما خلص له, ولا تقولوا: هذا لله وللرحم, فإنه للرحم, وليس لله منه شيء, ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم, فإنه لوجوهكم, وليس لله عز وجل منه شيء))» ([13])

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر، ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيء له)) فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا شيء له)) ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، وابتُغي به وجهه))» ([14]).  

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: « يا رسول الله، رجلٌ يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا أجر له))، فأعظم ذلك الناس، وقالوا للرجل: عُدْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلك لم تُفَهِّمْهُ، فقال: يا رسول الله، رجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا، فقال: ((لا أجر له))، فقالوا: للرجل عُدْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الثالثة، فقال له: ((لا أجر له))» ([15]).

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: ((أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟! قال: قولوا: ((اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم))([16]).  

وعن شهر بن حوشب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: رجل يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يُحمد، قال: (ليس بشيء، إن الله يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه)([17]).

وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية)([18])

وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}} [المائدة: 27])([19]).

وعن إسماعيل بن كثير السليمي قال: قيل لعطاء السليمي: ما الحذر؟ قال: (الاتقاء على العمل ألا يكون لله)([20]).   

وعن الفضيل بن عياض في قول تعالى: {{لِيَبلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} } [هود: 7] قال: أخلصه وأصوبه، قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يُقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يُقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السنة)([21]).   

وعن معقل بن عبيد الله الجزري قال: كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض أنه: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه)([22]).

قال ابن تيمية رحمه الله: (كل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله، وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله، فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصا لوجه الله تعالى، والشرك غالب على النفوس، وكثيرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له وإخلاص دينها له)([23]).  

وقال ابن تيمية أيضا: (إذا كان العبد مخلصا لله اجتباه ربه فأحيا قلبه واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، بخلاف القلب الذي لم يخلص لله فإن فيه طلبا وإرادة وحبا مطلقا، فيهوى ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن أي نسيم مر به عطفه وأماله، فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيرا عبدا لمن لو اتخذه هو عبدا له لكان ذلك عيبا ونقصا وذما! وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق! وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها، فيتخذ إلهه هواه، ويتبع هواه بغير هدى من الله. ومن لم يكن خالصا لله عبدا له قد صار قلبه معبدا لربه وحده لا شريك له بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلا له خاضعا وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين فكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله. وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه. فالقلب إن لم يكن حنيفا مقبلا على الله معرضا عما سواه وإلا كان مشركا قال تعالى: { {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}} [الروم: 30 – 32]([24]).   

وقال ابن القيم رحمه الله: (الناس منقسمون إلى أربعة أقسام: أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة، فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا هربا من ذمهم، بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، .. وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه، .. فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، على متابعة أمره، وما عدا ذلك فهو مردود على عامله، يرد عليه أحوج ما هو إليه هباء منثورا، وفي الصحيح من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد))، وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا، فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء.

 الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، فليس عمله موافقا لشرع، وليس هو خالصا للمعبود، كأعمال المتزينين للناس، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق، وأمقتهم إلى الله عز وجل.

الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكنها على غير متابعة الأمر، كجهال العباد، والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر، وكل من عبد الله بغير أمره، واعتقد عبادته هذه قربة إلى الله فهذا حاله.

الضرب الرابع: من أعماله على متابعة الأمر، لكنها لغير الله، كطاعة المرائين، وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة، ويحج ليُقال، ويقرأ القرآن ليُقال، فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها، لكنها غير صالحة، فلا تُقبل)([25]).   

وقال ابن القيم أيضا: (الرياء كله شرك، قال تعالى: {{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }} [الكهف: 110]. أي: كما أنه إله واحد، ولا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرَّد بالإلهية يجب أن يُفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة. وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.

وهذا الشرك في العبادة يُبطل ثواب العمل، وقد يُعاقب عليه إذا كان العمل واجبا، فإنه يُنزله منزلة من لم يعمله، فيُعاقب على ترك الأمر، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته عبادة خالصة، قال تعالى: {{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}} [البينة: 5]. فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور به، فلا يصح ولا يُقبل منه، ويقول الله: «((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به، وأنا منه بريء))» ([26]).

وقال ابن رجب رحمه الله: (اعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضا، بحيث لا يُراد به سوى مراءات المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، .. وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة. وتارة يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «((يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشريكه))» .. وممن رُوي عنه هذا المعنى، وأن العمل إذا خالطه شيء من الرياء كان باطلا: طائفة من السلف، منهم: عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم .. ولا نعرف عن السلف في هذا خلافا، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين. فإن خالط نية الجهاد مثلا نية غير الرياء، مثل أخذه أجرة للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة، أو التجارة، نقص بذلك أجر جهادهم، ولم يبطل بالكلية، وفي  صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الغزاة إذا غنموا غنيمة، تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئا، تم لهم أجرهم))، .. وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ودفعه، فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه، فهل يحبط به عمله أم لا يضره ذلك ويُجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يُجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره، .. وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج، فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وإنفاق المال ونشر العلم فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية، .. فأما إذا عمل العمل لله خالصا، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك، لم يضره ذلك)([27]).  

وقال ابن رجب أيضا: (من أحب شيئا وأطاعه وكان غاية قصده ومطلوبه ووالى لأجله وعادى لأجله فهو عبده، وكان ذلك الشيء معبوده وإلاهه .. فمن أحب شيئا مما يكرهه الله أو كره شيئا مما يحبه الله لم يكمل توحيده وصدقه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما كرهه مما يحبه الله، وما أحبه مما يكرهه الله .. اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11]، ومتى قويت المعرفة والمحبة لم يرد صاحبها إلا ما يريد مولاه .. لا ينجو غدا إلا من لقي الله بقلب سليم ليس فيه سواه، قال الله تعالى {{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}} [الشعراء: 88، 89] .. أول من تُسعر به النار من الموحدين العباد المراؤون بأعمالهم! وأولهم: العالم، والمجاهد، والمتصدق للرياء؛ لأن يسير الرياء شرك .. ما نظر المرائي إلى الخلق بعلمه إلا لجهله بعظمة الخالق! من صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه، ولم يرج سواه، ولم يخش أحدا إلا الله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يبق له بقية من آثار نفسه وهواه، ومع هذا فلا تظنوا أن المُحِب مُطالبٌ بالعصمة، وإنما هو مطالب كلما زل أن يتلافى تلك الوصمة)([28]).  

علاج الرياء وأسباب تحصيل الإخلاص:

  1. تحقيق الإيمان اعتقادا وقولا وعملا، قال الرازي رحمه الله: (لا يمكن تحصيل الإخلاص إلا بعد تحصيل الإيمان، فمن اهتدى بالإيمان زاده الله الهداية بالإخلاص)([29]).  
  2. استحضار عظمة الله ومعرفة استحقاقه للعبادة وحده.
  3. استحضار اطلاع الله على نية العبد ونظره إلى قلبه.
  4. الخوف من حبوط العمل الصالح بسبب الرياء والسُّمعة.
  5. ترك مراقبة الناس وعدم حب مدحهم، وعدم الخوف من ذمهم، وعدم الطمع في أموالهم، فمدح الناس لا يزيد في رزق الإنسان ولا في عمره، وذمهم لا ينقص من رزقه ولا عمره، فالأرزاق والأعمار مقسومة لا تزيدها مراءاة الخلق، قال ابن القيم رحمه الله: (لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص)([30]).   
  6. معرفة حقيقة الدنيا الفانية والآخرة الباقية، وأن الآخرة خير وأبقى.
  7. مجاهدة النفس على الإخلاص لله، واستحضار النية الطيبة عند الأعمال الصالحة، ومراقبة القلب أثناء العبادة، ومدافعة الرياء عند عروضه، قال الله تعالى: {{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}} [العنكبوت: 69].
  8. المداومة على تلاوة القرآن وتدبره في كل حين؛ فهو شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وثبت في الحديث الصحيح أن قراءة سورة الكافرون عند النوم براءة من الشرك، فعن نوفل الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (( «اقرأ قل يا أيها الكافرون ثم نَم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك» ))([31]).   
  9. الإكثار من القراءة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه ومن اتبعهم بإحسان من العلماء والعباد المخلصين الصادقين.
  10. الإكثار من ذكر الموت، والتفكر في قرب لقاء الله.
  11. التعود على إخفاء بعض الأعمال الصالحة التي يمكن إخفاؤها كالصلاة النافلة وبعض الصدقات، والحرص على عدم إظهار ما وفقه الله إليه من علم وعمل صالح إلا لمصلحة دينية راجحة، ويجب الحذر من ترك العمل الصالح خوفا من الرياء، فهذا من مكائد الشيطان، بل على المؤمن أن يُظهر بعض أعماله الصالحة كالصلاة جماعة، وما يرجو أن يقتدي الناس به، وقد مدح الله الذين يدعونه أن يجعلهم للمتقين إماما، وأثنى على ينفقون في سبيل الله سرا وعلانية، وقال سبحانه: {{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً}} [إبراهيم: 31].
  12. الإكثار من دعاء الله أن يجعل أعمالك خالصة، والتعوذ بالله من الرياء والسُّمعة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (( «اللهم إني أعوذ بك من الشرك والنفاق، والسمعة والرياء» ))([32]). وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يقولوا: (( «اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم» ))([33]).   

نسأل الله أن يهدينا إلى طريق الخلاص بالإخلاص، وأن يجنبنا الرياء والسمعة، وأن يعيذنا من أن نشرك به شيئا نعلمه، ونستغفره لما لا نعلمه.

 

 


([1]) يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/ 605)، ((تفسير ابن جرير)) (15/ 439)، ((تفسير القرطبي)) (11/ 69)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/ 462) و (28/ 177)، ((تفسير ابن كثير)) (5/ 205)، ((تفسير السعدي)) (ص: 489)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/ 55).

([2]) يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/ 6)، ((تفسير ابن جرير)) (12/ 346، 353)، ((الوسيط)) للواحدي (2/ 567)، ((تفسير البغوي)) (2/ 442)، ((تفسير ابن عطية)) (3/ 156)، ((تفسير الخازن)) (2/ 476)، ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 163، 164)، ((تفسير أبي السعود)) (4/ 194)، ((تفسير الشوكاني)) (2/ 553، 554)، ((تفسير القاسمي)) (6/ 82)، ((تفسير السعدي)) (ص: 379).

([3]) رواه مسلم (2985).

([4]) رواه مسلم (1905).

([6]) رواه أحمد (23630) وصححه الألباني وحسنه الأرناؤوط.

([7]) رواه الترمذي (3154) وحسنه الألباني وصححه الأرناؤوط.

([10]) يُنظر: شرح النووي على صحيح مسلم (18/ 116).

([11]) رواه أحمد (21223) وصححه الألباني والأرناؤوط.

([12]) رواه أبو داود (3664) وصححه الألباني.

([13]) رواه البزار كما في كشف الأستار (3567) وابن قانع في معجم الصحابة (473)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2764).

([14]) رواه النسائي (3140) وصححه الألباني.

([15]) رواه أحمد (7900) وأبو دواد (2516) والحاكم في المستدرك على الصحيحين (2436) وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني والأرناؤوط.

([16]) رواه أحمد (19606) وحسنه الألباني، وروى البخاري نحوه في الأدب المفرد (716) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه وصححه الألباني.

([17]) رواه ابن أبي شيبة (34811).

([18]) رواه أبو داود في الزهد (352) وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/268) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 703).

([19]) رواه ابن أبي الدنيا في الإخلاص والنية (20).

([20]) رواه ابن أبي الدنيا في الإخلاص والنية (21).

([21]) رواه ابن أبي الدنيا في الإخلاص والنية (22).

([22]) رواه ابن أبي الدنيا في الإخلاص والنية (25).

([23]) ((العبودية)) لابن تيمية (ص: 120- 122) باختصار.

([24]) ((العبودية)) لابن تيمية (ص: 124، 125) باختصار.

([26]) ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) لابن القيم (ص: 132).

([27]) ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 79 – 83).

([28]) ((كلمة الإخلاص وتحقيق معناها)) لابن رجب (ص: 27، 29، 35، 38، 39، 45).

([29]) ((تفسير الرازي)) (21/ 562).

([30]) ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 149).

([31]) رواه الترمذي (3403) وأبو داود (5055) وصححه الألباني والأرناؤوط.

([32]) رواه ابن حبان (1023) والحاكم في المستدرك (1944) وصححه الألباني والأرناؤوط.

([33]) رواه أحمد (19606) وحسنه الألباني.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الغزو الفكري دسائس اليهود والنصارى ضد المسلمين

إن العدو من خلال هذا الغزو لا يأتيك عياناً بياناً بل هو مختفٍّ يأتيك من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *