يستحب ويشرع صيام الأيام التسع الأول من شهر ذي الحجة، وهو من جملة الأعمال الصالحة الوارد ذكرها في الحديث، وصومها محل اتفاق لدى الأئمة الأربعة
يستحب ويشرع صيام الأيام التسع الأول من شهر ذي الحجة، وهو من جملة الأعمال الصالحة الوارد ذكرها في الحديث، وصومها محل اتفاق لدى الأئمة الأربعة: الحنفية والمالكية، والشافعية والحنابلة، كما هو مقرر وثابت في كتب الفقهاء؛ حيث قالوا: ويستحب صوم الأيام الثمانية الأول من شهر ذي الحجة، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول الظاهرية؛ [الفتاوى الهندية (1/201)، وحاشية الدسوقي (1/515، 516)، والمجموع للنووي (6/386)، وكشاف القناع للبهوتي (2/338)، والمحلى لابن حزم (7/19).
واستدلوا على ذلك بحديث عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما سالف الذكر.
ولقد أفتى ثلة من العلماء المعاصرين بجواز واستحباب صيام الأيام التسع الأول من شهر ذي الحجة، وقرروا أن صيامها من جملة العمل الصالح الوارد في الحديث، ومنهم فضيلة العلامة ابن باز، وفضيلة العلامة ابن عثيمين، رحمهم الله تعالى، وغيرهم من العلماء المعاصرين.
قال ابن عثيمين: ولنسأل: هل الصيام من الأعمال الصالحة؟ الجواب: نعم بلا شك، ولهذا جعله الله من أركان الإسلام، فالصيام بلا شك من الأعمال الصالحة حتى قال الله تعالى في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به»، وإذا كان كذلك، فإن الصوم مشروع، ومن زعم أن العشر لا تُصام، فليأتِ بدليل على إخراج الصوم من هذا العموم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»… وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصُمْها، فهذه قضية عينٍ، ربما كان لا يصوم؛ لأنه يشتغل بما هو أنفع وأهم، لكن عندنا لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام: «ما من أيام العمل الصالح فيهنَّ أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، على أنه قد رُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يَدَعُ صيامها، وقدَّم الإمام أحمد هذا – أعني: أنه لا يدع صيامها – على رواية النفي، وقال: إن المثبت مقدم على النافي، لكن على فرض أنه ليس هناك ما يدل على أنه يصوم، فإنه داخل في عموم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»؛ (اللقاء الشهري، لابن عثيمين، 34).
وقال ابن باز: ولكن عدم صومه صلى الله عليه وسلم العشر لا يدل على عدم أفضلية صيامها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تعرض له أمور تشغله عن الصوم، وقد دلَّ على فضل العمل الصالح في أيام العشر حديث ابن عباس المخرج في صحيح البخاري، وصومها من العمل الصالح، فيتضح من ذلك استحباب صومها في حديث ابن عباس، وما جاء في معناه؛ (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز، 15/ 417).
وأما الاستدلال بما رواه مسلم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط))، فقد أجاب عنه أهل العلم، كما ذكر الإمام النووي: قول عائشة: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط))، وفي رواية: ((لم يصُمِ العشر))، قال العلماء: هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يُتَأوَّل، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحبابًا شديدًا، لا سيما التاسع منها؛ وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله… فيتأول قولها: (لم يصُمِ العشر) أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تَرَهُ صائمًا فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، الاثنين من الشهر والخميس»؛ (رواه أبو داود وهذا لفظه، وأحمد، والنسائي)؛ (شرح النووي على مسلم، 8/ 71).
وقد يترك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صيام العشر الأول من شهر ذي الحجة لعارض يعرَض له من سفر أو مرض أو غيرهما من الأعذار.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وأما حديث عائشة قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط))، وفي رواية: ((لم يصم العشر))؛ (رواهما مسلم في صحيحه)، فقال العلماء: وهو متأول على أنها لم تَرَهُ، ولم يلزم منه تركه في نفس الأمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكون عندها في يوم من تسعة أيام، والباقي عند باقي أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، أو لعله صلى الله عليه وسلم كان يصوم بعضه في بعض الأوقات، وكله في بعضها، ويتركه في بعضها لعارض سفر أو مرض أو غيرهما، وبهذا يجمع بين الأحاديث؛ [المجموع، للنووي (6/441)].
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: تقدمت أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة على العموم، والصوم مندرج تحتها، وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة أنها قالت: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط))، فقال العلماء: المراد أنه لم يصُمْها لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أن عدم رؤيتها له صائمًا لا يستلزم العدم، على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها، كما في حديث الباب، فلا يقدح في ذلك عدم الفعل؛ [نيل الأوطار، الشوكاني، (4/283)].
وربما يترك النبي صلى الله عليه وسلم العملَ وهو يحب أن يعمله؛ خشية أن يفرض على أمته.
قال ابن حجر: لاحتمال أن يكون ذلك؛ لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله؛ خشية أن يفرض على أمته؛ [فتح الباري، 2/ 460].
Source link