القدس بين نبوءات اليهود، وعقيدة المسلمين، وفوضى الطائفية

قال الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله:
“معركتنا مع إسرائيل ليست معركة حدود، بل معركة وجود.”

 

بقلم: أبو أحمد فريد

القدس ليست مجرد حجر على خارطة الصراع السياسي، بل هي عنوان لمعركة عقدية تتشابك فيها نبوءات أهل الكتاب، ومقدسات الإسلام، وأوهام الطامعين. إنها مدينة يجتمع فيها الإيمان بالتاريخ، وتتنازع عليها القوى باسم النبوءة والدين، حتى غدت محطَّ أطماعٍ ومسرحًا لمشاريع متعددة المصادر، متباينة الأهداف، متناقضة المبادئ.

نبوءات اليهود

في العقيدة اليهودية، تُعد القدس محورًا لنبوءات توراتية قديمة لا تزال تحرّك المخيلة السياسية والدينية في إسرائيل المعاصرة. تتحدث هذه النبوءات عن بناء “الهيكل الثالث” في آخر الزمان، في الموضع نفسه الذي يقوم عليه المسجد الأقصى المبارك، ليعود “الشعب المختار” إلى “أرض الميعاد”، وتتحقق وعود الرب كما يزعمون. وقد أسس الصهاينة لهذا الحلم مؤسسات ومراكز متخصصة، على رأسها “معهد الهيكل”، الذي يعمل على تصنيع أدوات العبادة الكهنوتية، وتدريب الكهنة استعدادًا لإقامة طقوسهم المزعومة عند إزالة المسجد الأقصى، لا قدّر الله.

ولا يخفى أن هذا المشروع يتغذى من دعم ديني آخر قادم من الغرب، حيث يشكّل “الإنجيليون الصهاينة” في الولايات المتحدة أحد أقوى الداعمين لبناء الهيكل، استنادًا إلى عقيدتهم في عودة المسيح بعد قيام دولة إسرائيل وبناء الهيكل واندلاع معركة “هرمجدون”. ولهذا رأينا ساسة غربيين كبارًا، يقرّون نقل السفارات إلى القدس، في خضوع صريح للمعتقد الديني المتطرف.

عقيدة المسلمين

في المقابل، ينظر المسلم إلى القدس من منطلق عقائدي راسخ، فقد بارك الله أرضها، وجعل فيها ثالث الحرمين الشريفين، ومسرى النبي الكريم ﷺ. قال تعالى في سورة الإسراء:
{﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾} ،
فهي أرض مباركة، وأولى القبلتين، وثالث المساجد التي لا تُشدّ الرحال إلا إليها، كما قال رسول الله ﷺ:

«“لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى”» .

القدس في الإسلام ليست قضية وطنية، ولا رمزًا تراثيًا، بل هي جزء من هوية الأمة وعقيدتها. فالتفريط بها تفريط في الدين، والسكوت عن احتلالها جريمة في حق الرسالة الإسلامية، والتهاون في الدفاع عنها تضييع لأمانة عظيمة حملها المسلمون منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يوم دخلها فاتحًا بلا دماء، وكتب لأهلها العهد العمري الذي لا يزال يُدرّس في التسامح والعدل..

وكما أن اليهود ينتظرون بناء هيكلهم المزعوم بنبوءات محرّفة، فإن للمسلمين نبوءات صادقة في وحيهم عن عودة القدس وفتحها من جديد. لكنها نبوءات مقرونة بالعمل الصالح والجهاد والإيمان، لا بالأوهام والأساطير. فقد بشّر النبي ﷺ أن الإسلام سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وأن هذا الدين سيظهر على الدين كله. وقال ﷺ:
«“لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”» ،
وفي رواية:
«“وهم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس”» [رواه أحمد والطبراني بسند صحيح].

وقد فسّر العلماء هذه البشارة بأنها دليل على أن أرض فلسطين ستبقى موطن الرباط والجهاد، وستعود إلى حضن الأمة بعد طول احتلال. وقال ابن كثير في تفسيره لسورة الإسراء، معلّقًا على وعد الله لبني إسرائيل:
{﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾} ،
إن في الآية إشارة إلى تكرار العقوبات على من يعصي، وفيها أيضًا بشارة للمؤمنين بعودة الأمر إليهم إن عادوا إلى ربهم ودينهم.

فالنبوءة في الإسلام ليست سردًا غيبيًّا منفصلاً عن الواقع، بل وعد مشروط، قال تعالى:
{﴿وَعْدَ اللَّهِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ﴾} ،
فكلما قويت الأمة في عقيدتها وعملها، اقترب النصر، وإن تخلّت عن دينها، طال زمن التيه.

فوضى الروافض

غير أن الجرح لا يتوقف عند الاحتلال، بل يتعمق حين يُستغل هذا الجرح من قِبل أطراف أخرى تزعم النصرة وتخون الفكرة. فمن المؤسف أن نرى بعض التيارات الرافضية قد رفعت شعار “القدس” لتُلبس مشروعها الطائفي لباس المقاومة، في حين أن أولى سهامها وُجّهت إلى صدور أهل السنة في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. فلم تُطلق ميليشيات الحشد الشعبي، ولا فيلق القدس الإيراني، ولا الحوثيون رصاصة واحدة على تل أبيب، لكنهم أفرغوا ما في جعبتهم على مساجد أهل السنة، وبيوتهم الآمنة، ومخيمات اللاجئين، فأقاموا فيها من المجازر ما فاق جرائم الاحتلال.

أما بعض المناوشات و المسرحيات التي يُعلنون عنها باسم “المقاومة”، فما هي إلا تلميع لصورة الراعي الإيراني، أو دفاع عن هيبة مشروعهم إذا مُسّ، وليس دفاعًا عن فلسطين أو عن أرض القدس كما يروجون.

هذه التيارات التي ترفع شعار “الموت لإسرائيل” إنما تعيش ازدواجية فاضحة؛ ففي الوقت الذي تُعلن فيه العداء للكيان الصهيوني، نراها تتحالف – بشكل مباشر أو غير مباشر – مع أنظمة وكيانات خدمت إسرائيل أكثر مما أضرتها. ويكفي أن نذكّر بأن “يوم القدس العالمي” الذي أطلقه الخميني لم يكن في تاريخه إلا غطاءً لتمرير النفوذ الإيراني الطائفي، بينما بقيت فلسطين تحت الاحتلال، بلا دعم حقيقي يُذكر.

أما في الفكر الشيعي الإمامية، فلا مكانة حقيقية للقدس؛ فهي لا تُذكر في كتبهم، ولا تُقدَّم على كربلاء أو النجف. بل قال الخميني صراحة: كربلاء أعظم من مكة والمدينة”.

فكيف يُنتظر من قوم لا يرون في الأقصى قدسية تُذكر أن يكونوا حماة له أو مقاومين من أجله؟! بل هم في حقيقتهم يستثمرون الجرح الفلسطيني لأغراض مذهبية توسعية، ويرفعون لافتة القدس ليخفوا مشروع “ولاية الفقيه” الذي يمد أذرعه في المشرق العربي.

لقد حذّر علماء الأمة من هذا التلاعب الطائفي، ومنهم الشيخ ابن باز، والشيخ الألباني، والشيخ يوسف القرضاوي، ورابطة علماء المسلمين، وكلهم شددوا على أن تحرير القدس لا يكون على يد من يُكفّر الصحابة ويطعن في عرض النبي ﷺ، بل على يد الأمة السنية الموحّدة، التي تعتقد بقدسية الأرض، وتعمل لتحريرها من منطلق العقيدة لا من باب الشعارات.

إن ما يحدث اليوم هو قلب للحقائق، وتزييف للوعي، ومحاولة لصرف الأمة عن عدوها الحقيقي. فمن أراد تحرير القدس، فعليه أن يبدأ بتحرير عقيدته من الخرافة، ونيّته من التزييف، وسلوكه من الطائفية. القدس لا تُحررها القصائد، ولا المؤتمرات، ولا البيانات، بل تُحررها سواعد الموحدين، وجهاد الصادقين، وبصيرة العلماء الربانيين. فالقدس ليست قضية فئة، ولا حركة، ولا دولة، بل قضية أمة.

انها معركة الوجود

وأخيرًا، من يظن أن التطبيع مع الاحتلال، أو ترسيم الحدود، أو تقديم التنازلات لمخططاته، أو تأمين أمنه عبر تفاهمات سياسية، سيؤدي إلى كفّ عدوانه أو إنهاء أطماعه في أرض المسلمين، فإنه يعيش في وهمٍ من السراب، وغفلة عن سنن التاريخ والواقع. فهذه الاتفاقات – مهما حملت من تواقيع – تبقى حبرًا على ورق، لا تصمد أمام حقيقة المشروع الصهيوني القائم على الاستعلاء، والتوسع، والهيمنة.

وهل يُعقل أن تؤمّن أمة على مستقبلها قومًا وصفهم الله بقوله:
{﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾} [البقرة: 100]،
{﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ…﴾} [المائدة: 13]؟
فهم أهل غدرٍ بنص القرآن، لا يقيمون عهدًا، ولا يلتزمون ميثاقًا، وتاريخهم شاهد على الخيانة.

ورغم محاولات البعض تبرير هذه الانزلاقات بتفسيرات سياسية أو مصالح ظرفية، فإن الواجب على الأمة أن تستفيق، وتتهيأ لما هو آتٍ لا محالة. فالمعركة لم تنتهِ، والعدو باقٍ. وكان لزامًا على الأمة أن تتغيّر من داخلها لتواجه هذا التحدي، بعقيدتها لا بضعفها، وبتاريخها لا بانهزامها، وبثباتها لا بتنازلاتها.

كما قال الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله:
“معركتنا مع إسرائيل ليست معركة حدود، بل معركة وجود.”

 

 

 

 

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

زمن صنع السفينة – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة إرادة الله أن يكون عذاب قوم نوح فيما لم يخشوه يومًا، ونجاة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *