آية واحدة تبيّن لنا ما هي أقسام أهل الكتاب وما موقفهم من الإسلام ظاهرا وباطنا ومن هو الفائز منهم
آية واحدة تبيّن لنا ما هي أقسام أهل الكتاب وما موقفهم من الإسلام ظاهرا وباطنا ومن هو الفائز منهم:
كل هذا تبيّنه لنا آية واحدة من سورة النساء، هي الآية 162:
يقول الله تعالى: {(لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما)} .
والآن من خلال إعراب الآية سيتضح لنا كل شيء:
لكن: أداة استدراك، تُهمل حين تأتي مخفّفة، فلا تؤثر فيما بعدها. الراسخون: مبتدأ مرفوع.
في العلم منهم: جار ومجرور متكرّر.
والمؤمنون: الواو حرف عطف، المؤمنون: معطوف مرفوع. والمراد بالمؤمنين: المؤمنين حقا من الذين هادوا، فإن إيمانهم يهديهم للإيمان بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أُنزل من قبله، برغم عدم رسوخهم في العلم مثل الأوّلين، والأمر كما قال تعالى في موضع آخر من القرآن: {(يهديهم ربهم بإيمانهم)} .
يؤمنون بما أنزل إليك: وهذا هو الخبر (وهو عبارة عن جملة فعلية). وهذا الإيمان يبدو أنه إيمان قلبيّ فقط من غير دخول في الإسلام.
وما أنزل من قبلك: معطوف على ما قبله.
انتبه جيّدا لهذا التعبير، ذلك أن من كفر بالقرآن فقد كفر بالتوراة والإنجيل. لماذا؟ لأن ذكر محمد ص موجود في التوراة والإنجيل، وهم مأمورون بالإيمان به عند بعثته، فإن لم يفعلوا لم يكفروا فقط بما أُنزل إلى محمد ص، وإنما كفروا أيضا بما أُنزل من قبله من الكتب السماوية.
والمقيمين: الواو لابتداء جملة جديدة لكنها متعلقة بما سبق، المقيمين: مفعول به منصوب بفعل محذوف تقديره: أخصّ.
الصلاة: مفعول به منصوب لفعل محذوف حلّ محله اسم الفاعل (المقيمين). والمراد صلاة المسلمين طبعا.
إذن عندنا فريقان من أهل الكتاب: الراسخون في العلم، والمؤمنون (فريقان متغايران ولهذا عطف بينهما بالواو). أخبر الله عن الفريقين بأنهم يؤمنون بما أُنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وما أُنزل من قبله. ثم اقتطع الله تعالى من كل فريق طائفة هم الذين يقيمون الصلاة (صلاة المسلمين) ليخبرنا أنه خصّهم بشيء. بماذا خصّهم؟
مهلا، يريد الله تعالى أن يضيف وصفَيْن آخرَيْن لهذه الطائفة قبل أن يخبرنا بماذا خصّهم.
والمؤتون: خبر مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم، والمبتدأ محذوف تقديره: هم.
الزكاة: مفعول به منصوب لفعل محذوف حلّ محله اسم الفاعل (المؤتون). والجملة الإسمية (المؤتون) معطوفة على (المقيمين) في محل نصب. والمراد زكاة المسلمين طبعا.
والمؤمنون: خبر مرفوع بالواو أيضا، والمبتدأ محذوف تقديره: هم. والجملة الإسمية (المؤمنون) معطوفة على جملة (المؤتون) في محل نصب.
بالله واليوم الآخِر: الباء: حرف جر، ولفظ الجلالة: مجرور، والواو: حرف عطف، واليوم: معطوف مجرور، والآخِر: صفة مجرورة. لكن لماذا ذكر الله هنا المؤمنين بالله واليوم الآخر، مع أنهم في الأصل يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك؟ والجواب: لأن المراد الإيمان الصحيح الذي عند المسلمين.
تأمل معي قوله تعالى في سورة التوبة آية 29-31:
{(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون. اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)} .
لاحظْ أنه يوجد من الذين أوتوا الكتاب: مَن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ومنهم مَن ينسب الولد إلى الله، ومنهم مَن يتخذ أحباره ورهبانه أربابا من دون الله، فكان لا بدّ في آية النساء من النصّ على الإيمان بالله واليوم الآخر أي الإيمان بالله إلها واحدا لا إله إلا هو.
ففريق الراسخين في العلم من الذين أوتوا الكتاب وفريق المؤمنين منهم قد يكونان – برغم إيمانهما بما أُنزل إلى محمد وما أُنزل من قبله – ملوّثَيْن بأمور من الشّرك أو عندهما خلل في الإيمان بالله واليوم الآخر.
والآن سيخبرنا الله تعالى بماذا خصّهم. يقول سبحانه:
أولئك: مبتدأ في محل رفع، وهو اسم إشارة إلى القوم المخصوصين الذين حقّقوا الصفات الثلاث جميعا (المقيمين الصلاة، والمؤتون الزكاة، والمؤمنون بالله واليوم الآخر).
سنؤتيهم أجرا عظيما: خبر المبتدأ (والخبر عبارة عن جملة فعلية).
والأجر العظيم هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «مَن أسلم من أهل الكتابيْن فله أجره مرتين» … الحديث”. صحيح برقم 22234 في مسند أحمد.
التفصيل الدقيق في هذه الآية من جهة، والبراعة النحويّة المستخدمة في الآية من جهة أخرى، لا يمكن أن يخطرا ببال محمد صلى الله عليه وسلم، لو أنه هو الذي ألّف القرآن، ولا ببال أحد على الإطلاق، فسبحان الله مولانا العظيم.
حسين البيضاني
Source link