هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ – خالد سعد النجار

هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

{بسم الله الرحمن الرحيم }

 

يقول تعالى في سورة آل عمران:

{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) }

{{أَفَمَنِ}} الاستفهام للنفي الإنكاري، أي إنكار الوقوع، فهو بمعنى لا يستوون.

{{اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ}} يتبع كل ما يرضي الله عز وجل بالطاعة.. والإتباع هنا «التطلب»: شبه حال المتوخي بأفعاله رضا الله بحال المتطلب لطلبه فهو يتبعها حيث حل ليقتنصها، وفي هذا التشبيه حسن التنبيه على أن التحصيل على رضوان الله تعالى محتاج إلى فرط اهتمام.

{{كَمَنْ بَاءَ}} رجع {{بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} } السَّخَط: الغضبُ الشديدُ الذي يصحبه أو يترتب علية العقاب بسبب المعاصي كالغالّ ومن شاكله.. تمثيل لحال صاحب المعاصي بالذي خرج يطلب ما ينفعه فرجع بما يضره، أو رجع بالخيبة.

وقد علم من هذه المقابلة حال أهل الطاعة وأهل المعصية، أو أهل الإيمان وأهل الكفر.

{{وَمَأْوَاهُ}} أي مرجعه، يأوي إليه إيواء لا مغادرة بعده {{جَهَنَّمُ}} اسم من أسماء النار – أعاذنا الله منها- وسميت بهذا الاسم المشتق من الجهمة، وهي تتضمن السواد ولأن جهنم سوداء عميقة بعيدة العمق.

** وفيه التنبه لأمر يتكلم فيه الناس كثيراً، يقولون: إذا مات الرجل فإنه يرجع إلى مثواه الأخير، وهذا لو أخذنا بظاهره، لكان يتضمن إنكار البعث، مع أن القبر ليس المثوى الأخير، وإنما المثوى الأخير الآخرة الجنة أو النار، والقبر مزار.

{{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} } أي وبئس المصيرُ جهنمُ.

وهذه لها نظائر في القرآن كثيرة كقوله تعالى: {{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} } [الرعد:19] وكقوله: {{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}} [القصص:61].

{هُمْ} الضمير يعود على من اتبع رضوان الله، وعلى من باء بسخط من الله.

{{دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}} متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنة، ودركاتهم في النار، كما قال تعالى: {{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}} [الأنعام:132] {{عِنْدَ اللَّهِ}} تشريف لمنازلهم

والدرجة هي الرتبة والمنزلة، ومنهَا الدرج بمعنى السلم، لأنه يُعلى عليه رتبة بعد رتبة، وأكثر ما تكون كلمة الدرجة في القرآن بمعنى المنزلة الرفيعة، ومن ذلك قوله تعالى: {{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}} [الزخرف:32]، وأما المنزلة غير الرفيعة فيعبر عنها سبحانه بالدركة؛ ولذا يقول تعالى: {{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}} [النساء:145].

قال الراغب الأصفهاني في «المفردات»: “الدرك كالدرج، لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل درجات الجنة، ودركات النار”.

وإطلاق {{درجات}} على الفريقين وفيهم الأشرار من قبيل التغليب، وهو تغليب له مغزاه؛ إذ هو تغليب الخير على الشر، وتغليب رضا الله على سخطه، وتغليب الأبرار على الفجار.

والآية الكريمة تشير إلى معنى جليل، وهو تفاوت درجات الأبرار، وتفاوت دركات الأشرار.

** وفيه أن الناس عند الله منازل مختلفة، ويتفرع على هذه الفائدة :أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن زيادة الدرجات بعد زيادة الإيمان باليقين والعمل الصالح، هي زيادة لليقين والأقوال والأفعال.. فاليقين يتفاضل، والأقوال تتفاضل، ليس من قال: لا إله إلا الله عشراً كمن قالها عشرين مثلاً، والأفعال كذلك تتفاضل، ليس من صلى ست ركعات كمن صلى عشر ركعات، وهذا ما جرى عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد باليقين والقول والفعل.

{{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}} أي أن الله سبحانه وتعالى يعلم عمل كل إنسان علم من يراه ويبصره، فلا يغيب عنه سبحانه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وأنه سبحانه سيجزي كل نفس بما كسبت، على مقتضى علمه الكامل، وأن هذه الدرجات التي يضع الناس فيها هي بمقتضى علمه جل شأنه.

{لَقَدْ} جملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي القسم المقدر و(اللام)، و(قد). وتقدير الكلام : والله لقد منّ الله على المؤمنين.

والداعي للقسم ليس هو الإنكار أو الشك من المخاطب، بل قد يكون الداعي للقسم أهمية المقسم عليه، وإن لم يكن هناك شك، وهذه الآية من هذا النوع؛ فالمقصود بذلك بيان أهمية هذه المِنّة العظيمة التي لا يُعادلها شيء.

ومن ذلك قوله تعالى: {{ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} } [المؤمنون:١٥] فأكد مع أن الموت محقق، ولكن يُقال لما كان بعض الناس غافلاً كأنه لن يموت، أكد.

{{مَنَّ اللَّهُ} } المنَّان -في صفة الله تعالى-: المُعْطِي ابتدءاً من غير طلب عِوَضٍ، أي: أنعم وأعطى ووهب.

والمنّ إنما كان مذموما في البشر لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه، وتعداد النعمة على المنعم عليه مثل الذي في قوله تعالى: {{لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} } [البقرة:264] والكل محمود من الله تعالى لأن طول الله ليس بمجحود.

{{عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ} } أصل البعث الإنشاء، وسميت الرسالة بعثاً؛ لأنها إخراج للناس من حال إلى حال، فكأنهم بعثوا خلقاً جديداً، وأنشئوا خلقاً جديداً.

{{فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}} من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به.

كما قال تَعالَى: {{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} } [الجمعة:٢] {{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}} [الكهف:110] {{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ} } [الفرقان:20] {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}} [يوسف:109] {{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}} [الأنعام:130] فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسل إليهم منهم، بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فَهْم الكلام عنه.

قال الرازي : وفي قوله تعالى: {{مِّنْ أَنفُسِهِمْ} } وجه آخر من المِنّة، وذلك أنه صار شرفاً للعرب، وفخراً لهم، كما قال سبحانه: {{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} } [الزخرف:44].

وذلك لأن الافتخار بإبراهيم -عليه السلام- كان مشتركاً فيه بين اليهود والنصارى والعرب، ثم إن الأولين كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل. فما كان للعرب ما يقابل ذلك. فلما بعث الله محمداً، وأنزل عليه القرآن، صار شرف العرب ذلك زائداً على شرف جميع الأمم.

قال ابن عاشور: {{مِنْ أَنْفُسِهِمْ}} المماثلة لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سببا لقوة التواصل، وهي هنا: النسب، واللغة، والوطن.

والعرب تقول: فلان من بني فلان من أنفسهم، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بولاء أو لصق، وكأن هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربيا يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه.

وكونه يتكلم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به، وكونه جارا لهم وربيا فيهم يُعَجِّلُ لهم التصديق برسالته، إذ يكونون قد خبروا أمره، وعلموا فضله، وشاهدوا استقامته ومعجزاته.

وعن النقاش: قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا تَغْلِبَ، وبذلك فسر: {{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}} [الشورى:23].

وهذه المِنّة خاصة بالعرب ومزية لهم، زيادة على المنة ببعثة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على جميع البشر، فالعرب هم الذين تلقوا الدعوة قبل الناس كلهم، لأن الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقوه التلقي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر، فيكونوا أعوانا على عموم الدعوة، وَلِمَنْ تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب الْمَزِيَّةِ وَهُوَ مُعْظَمُهَا، إذ لم يفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكملان لحسن التلقي، ولذلك كان المؤمنون مدة حياة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العرب خاصة بحيث إن تلقيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقر الدين.

{{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}} يقرأ عليهم آيات القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية، لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي.

وسميت جمل القرآن آيات لأن كل واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى.. فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان.

{{وَيُزَكِّيهِمْ} } يُطهرهم حساً ومعنى. أما الطهارة حسا فقد أمرهم بالوضوء عند الصلاة، وأمرهم بالغسل من الجنابة وأمرهم بإزالة النجاسة، بل حث على النظافة عموماً.

وأما الطهارة معنى فهي أنه طهر قلوبهم من الشرك والشك والنفاق وسوء الأخلاق، وهذب أخلاقهم عليه الصلاة والسلام، حتى زكت نفوسهم وأخلاقهم.

{{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}} وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرهم بحفظ ألفاظه، لتكون معانيه حاضرة عندهم.

{ {وَالْحِكْمَةَ}} السنة.. والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأن ذلك كله مانع الأنفس من سوء الحال واختلال النظام، وذلك من معنى الحكمة.

وقيل: علمهم الحكمة التي هي أسرار التشريع؛ لأن الشرع كما نعلم أحكام وحكم، فالأحكام ظاهرة. والحكم هي الأسرار والمعاني التي تناط بها هذه الأحكام والإنسان إذا عرف هذه الحكم والأسرار، تبين له أن الشريعة ليست لهواً ولا لعباً، وأن الشريعة ذات معان سامية، لا يدركها إلا من فتح الله عليه.

وعطف الحكمة على الكتاب عطف الأخص من وجه على الأعم من وجه، فمن الحكمة ما هو في الكتاب نحو {{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} } [الحشر:9] ومنها ما ليس في الكتاب مثل قوله عليه السلام «(لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)» وفي الكتاب ما هو علم وليس حكمة مثل فرض الصلاة والحج.

{{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ}} من قبل بعثته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتزكيته.

{لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ضلال ظاهر جلي لا يلتبس على أحد بشائبة هدى، أو شبهة.. من عبادة الأوثان، وأكل الخبائث، وعدوان بعضهم على بعض، وسواها، فنقلوا ببعثته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الظلمات إلى النور، وصاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة، فعظمت المِنّة لله تعالى عليهم بذلك.

والآية تسلية على مصيبة الهزيمة حظا عظيما، إذ قد شاع تصبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم، وله مزيد ارتباط بقوله: {{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}} [آل عمران:159]

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

بيان الأحكام الشرعية بنصوص واضحة ودون ذلك – محمد بن علي بن جميل المطري

منذ حوالي ساعة بيان الأحكام يحصل تارة بالنص الجلي المؤكد، وتارة بالنص لجلي المجرد، وتارة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *