منذ حوالي ساعة
ذكرى وفاء، على طرقات النسيان ما أبهى تلك الزيارات في ميزان الوفاء، وما أصفاها في رياض الأرواح، وما أعطرها في سجلّ الذكرى، نزور بها رجالًا كانوا بالأمس من صُنّاع الحياة، يغرسون في القلوب بذور التربية، ويصبغون الأيام بألوان العطاء.
ذكرى وفاء، على طرقات النسيان ما أبهى تلك الزيارات في ميزان الوفاء، وما أصفاها في رياض الأرواح، وما أعطرها في سجلّ الذكرى، نزور بها رجالًا كانوا بالأمس من صُنّاع الحياة، يغرسون في القلوب بذور التربية، ويصبغون الأيام بألوان العطاء.
لقد كانوا في ما مضى منارات تهدي، وأيدٍ تبني، وعقولًا تصوغ من التربية والتعليم صروحًا شامخة، ثم آثروا السكون وتواروا عن الأنظار. و زيارات كهذه ليست كسواها؛ إذ تنبعث منها أنفاس الماضي العاطر، وتشرق فيها شمس الوفاء، فتستيقظ القلوب على معنى العرفان، وتنهض النفوس لتشهد أن أثر أولئك العظماء لا يمحوه غياب، ولا يغيبه ستر فإذا جئناهم؛ أحيينا في أنفسنا عهدًا مضى، وأيقظنا في أرواحنا ذكرى تلك الساعات التي كانت تُنشئ النفوس إنشاءً، وتبني القلوب بناءً.
كان ـ أيّام دراستنا الجامعية ـ ملءَ السمع والبصر، تتجه إليه القلوب قبل الأبصار، ويزدحم مكتبه بالطلاب حتى ليكاد يضيق بهم مكانه.
فإذا خرج إلى قاعة الدرس، سار من حوله رهط من طلابه يسألونه ويستفتونه، وهو يفيض عليهم من علمه، ويجيبهم بما اعتاد من بشاشة الوجه، ورحابة الصدر، وابتسامة لا تفارقه. ثم أدبر الزمان، وأثقلته العلَل، فآثر التقاعد بعد أن أقعدته الأمراض، وانقطع عن دروسه العامرة في مسجده.
ولمّا زرتُه في داره، وجدتُ رجلاً يُصارع مرارة الجحود، ويشكو ألم النكران؛ تمرّ به الأيام بل الأسابيع، فلا زائر يطرق بابه، ولا صاحب يأنس بحديثه. وكنتُ ألمح في نبرات صوته أنينًا مكتومًا، وفي خلجات كلماته حسرةً لا تخفى، كأنما يقول في صمت: أهذا يكون جزاء السنين؟! وإن ندائي لنفسي، ثم لإخواني من طلاب العلم، أن نتلمّس هؤلاء الكبار الذين أودع الله في أعمارهم بركةً، وفي أيّامهم أثرًا، وفي ماضيهم نفعًا لا يزول.
فلنغتنم بقايا أعمارهم، ولنطرق أبوابهم بين الفينة والأخرى، نزورهم زيارة وفاء، ونحيطهم بما يليق بمكانتهم وفضلهم، ونُشعرهم أنّ بركتهم لا تزال تظلّلنا، وأن بصماتهم لم تزل محفورة في وجداننا، وأن أثرهم لا تمحوه الأعوام، ولا يغيبه تعاقب الجديدين.
فإن غابوا عن الأنظار، فما غابوا عن القلوب، بل ازدادوا في الضمائر رسوخًا، وفي الأرواح حضورًا. وإنها ـ والله ـ لزيارة تُحيي فيهم الأمل، وتردّ إليهم الروح، وتبقى لهم ولنا ذخرًا في صحائف البر والإحسان.
_________________________________________
الكاتب: طلال الحسان
Source link