لقد رفع الإسلام منزلة الكبير، وجعل إكرامه جزءًا لا يتجزأ من عقيدة المسلم وإيمانه، فالشيب الذي يخط الرؤوس ليس علامة ضعف أو نهاية؛ بل هو تاج وقار يزين صاحبه في الدنيا، وشهادة على سنوات قُضيت في رحاب الإسلام.
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نرجو بها النجاة يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فتركنا على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأطهار، وصحبه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار. أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[1].
أيها الأخوة: في خضم تسارع الحياة، وضجيج المادة، وتوالي المشاغل، قد تغيب عن الأذهان بعض القيم الأساسية التي بنى عليها الإسلام صرح مجتمعه الفريد، ومن أعظم هذه القيم التي هي أساس التراحم وركن التماسك، قيمة إجلال الكبير وتوقيره، ورعاية من تقدم به العمر من آبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، أولئك الذين هم أصلنا الذي منه تفرعنا، وجذورنا التي عليها قمنا، وتاريخنا الحي الذي يمشي على الأرض، إنهم كنز الخبرة، ومعدن الحكمة، ومصدر الدعاء الذي تفتح له أبواب السماء، فوجودهم في الأمة أمان، وبِرّهم غنيمة، وخدمتهم شرف.
لقد رفع الإسلام منزلة الكبير، وجعل إكرامه جزءًا لا يتجزأ من عقيدة المسلم وإيمانه، فالشيب الذي يخط الرؤوس ليس علامة ضعف أو نهاية؛ بل هو تاج وقار يزين صاحبه في الدنيا، وشهادة على سنوات قُضيت في رحاب الإسلام. يقول نبينا صلى الله عليه وسلم في حديث عظيم يربط الخلق بالخالق: «إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِكْرامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ» [2]، فالمسألة ليست مجرد عرف اجتماعي أو سلوك حضاري، بل هي عبادة وقربة، وهي جزء من تعظيمك لله الخالق الذي خلق الإنسان أطوارًا، وجعل لكل طور من أطوار حياته جماله وحكمته، فإكرامك للكبير هو اعتراف بحكمة الله في خلقه، وشكر له على نعمه، بل إن الخليل إبراهيم عليه السلام، لما رأى الشيب لأول مرة، قال مستفسرًا: يا رب ما هذا؟ فقال الله تبارك وتعالى: وقار يا إبراهيم، فقال الخليل معترفًا بهذه النعمة: يا رب زدني وقارًا[3] [4].
ومن هذا الإجلال، تتفرع حقوق عملية نراها في سلوك المجتمع المسلم، من ذلك احترامهم وتقديرهم، وتقديمهم في المجالس والحديث، وإفساح الطريق لهم. إنها ليست مجرد شكليات، بل هي ترجمة عملية للإيمان. لقد أدّب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على ذلك تأديبًا عمليًا، فعندما أراد عبد الرحمن بن سهل، وكان أصغر القوم، أن يتكلم في حضرة من هم أكبر منه سنًا، وجهه النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: «كبّر كبّر» [5]، أي: دع الأكبر يبدأ بالكلام. وفي هذا درس بليغ مفاده أن من سبقك في العمر، يسبقك غالبًا في التجربة والحكمة، فيستحق التقديم والإنصات، ولهذا جاء التحذير الشديد لمن فرّط في هذا الحق، وجاء بلفظ قاسٍ يهز كيان المؤمن، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَم صَغِيرَنا ويَعرِفْ شَرَفَ كَبيرِنا» [6].
فكيف يرضى مسلم لنفسه أن يتبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب سوء خلقه مع كبير أو صغير؟ إنها قضية انتماء لهذا الدين العظيم.
إن من أعظم ما يعاني منه كبار السن في كل مجتمع على اختلاف الأزمان، تقلص علاقاتهم الاجتماعية، إذ تقتصر على الأصدقاء القدامى، وهذا ينتج عنه الفراغ والعزلة، وذلك بسبب الانسحاب المتبادل بين المسن والمجتمع، والذي يؤدي بدوره إلى ضيق الاتصال بالمجتمع، وصعوبة المشاركة الاجتماعية فيه، وهذا سبب مهم يدفعنا جميعًا إلى تصحيح علاقاتنا بكبارنا والحرص على رعايتهم والقرب منهم، ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم[7].
يقول الهيثم بن الأسود النخعي في وصفه حالة من كبرت سنه، عندما سأله صاحب عن حاله، فقال: أجدني قد ابيضت مني ما كنت أحب يَسوَدّ، واسوَدّ مني ما كنت أحب أن يبيَضّ، ولان مني ما كنت أحب أن يشتد، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين، وأجدني يسبقني مَن بين يدي، ويدركني مَن خلفي، وأنسى الحديث، وأذكر القديم، وأنعس في الملاء، وأسهر في الخلاء، وإذا قمتُ قربت الأرض مني، وإذا قعدتُ بَعُدت عني[8].
عباد الله:
وإن كان هذا الإكرام واجبًا لكل كبير في المجتمع، فإنه في حق الوالدين يصبح فرضًا محتومًا، ودَينًا في العنق لا تسقطه الأيام ولا تمحوه السنون: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُما فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[9]، تأملوا كلمة عِندَكَ، ففيها إشارة إلى أن مكانهم الطبيعي هو عندك، أي في كنفك ورعايتك، وليس في دور العجزة أو على هامش الحياة.
فبر الكبير والإحسان إليه أيها الإخوة ليس مجرد نفقة مالية، أو توفير مسكن، بل هو أكبر من ذلك بكثير، يدخل فيها جميع وجوه البر والإحسان والإكرام، فإكرام كبار السن هو زكاة عن نعمة القوة والشباب، وهو دينٌ سيرد إليك في مستقبلك، فلنزرع اليوم برًا وإحسانًا، لنحصده غدًا وفاءً وعرفانًا، فالجزاء من جنس العمل، ووجود كبير السن بيننا فرصة قد لا تدوم، وباب إلى الجنة قد يغلق في أي لحظة..
أيها الإخوة:
لنعلم أن كل من تربى على حب مجالسة كبار السن، والاستماع إليهم، نال خيرًا كثيرًا، وبركة ورزقا.. يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «البَرَكَةُ مع أَكَابِرِكُمْ» [10]، وهذه البركة ليست كلمة تقال، بل هي حقيقة نلمسها؛ إنها بركة الحكمة التي تمنع من التهور والطيش، وبركة التجربة التي تختصر الطرق وتجنب الزلل، وبركة الدعاء الصادق الذي يفتح الأبواب المغلقة. فالشباب يملكون القوة والعزيمة، والشيوخ يملكون الحكمة والبصيرة، وحين تجتمع قوة الشباب مع حكمة الشيوخ، تنهض الأمم وتبلغ المجد؛ فالمجتمع الذي يقيم حوارًا دائمًا بين أجياله، هو مجتمع حي، متجدد، ومحصن ضد الأفكار الدخيلة والقيم الهابطة.
ولقد كان قادة هذه الأمة هم القدوة في رعاية الضعفاء وكبار السن، فيروى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يتعاهد عجوزًا عمياء مقعدة في بيتها ليلًا، فيأتيها بما يصلحها وينظف لها بيتها دون أن يعلم به أحد[11].
إنّه يوجه رسالة لكل مسؤول، ولكل فرد في المجتمع، أن يتفقد من حوله من الضعفاء والمحتاجين وكبار السن.
بل تلك الرحمة في ديننا التي تختص بالمسنين، لم تقتصر على المسلمين منهم فحسب؛ بل تجاوزتهم لتشمل غير المسلمين طالما أنهم يعيشون في ديار الإسلام، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قدمت عليّ أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم، صِلي أمك» [12].
ويُروى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر بشيخ يهودي كبير ضرير البصر يسأل الناس، فيأخذ بيده إلى بيته، ثم يكتب إلى خازن بيت المال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، ويضع عنه الجزية وعن أمثاله من كبار السن العاجزين.[13] فأي حضارة وأي عدل هذا الذي يقدمه الإسلام للبشرية جمعاء!
الدعاء…
[1] [آل عمران: 102].
[2] رواه أبو داود (4843)، وحسنه الألباني.
[3] رواه الإمام مالك في الموطأ (1797)، والبخاري في الأدب المفرد (946)، وقال الألباني: هو صحيح الإسناد موقوفًا ومقطوعًا.
[4] انظر: رعاية المسنين في الإسلام، عبدالله بن ناصر السدحان (صـ 33).
[5] أخرجه البخاري (6142)، ومسلم (1669).
[6] أخرجه الترمذي (1919) وأحمد (6733)، وصححه الألباني.
[7] انظر: رعاية المسنين في الإسلام، عبدالله بن ناصر السدحان (صـ 8).
[8] انظر: بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس، ابن عبد البر (2/227-232).
[9] [الإسراء: 23].
[10] أخرجه ابن حبان (559)، والحاكم (210)، وصححه الألباني.
[11] تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي (صـ 86)، وهذه القصة لا تصح من جهة السند، ولكن معناها صحيح وعليه العمل.
[12] أخرجه البخاري (2620)، ومسلم (1003).
[13] انظر: الخراج لأبي يوسف (صـ 259)، وفتوح البلدان للبلاذري (صـ 129)، والأموال لابن زنجويه (صـ 167)، وضعّف إسناده الألباني في إرواء الغليل (8/259) للانقطاع في السند، لكن الفقهاء تلقوه بالقبول وعليه العمل عندهم، لموافقته أصول الشريعة.
________________________________________________
الكاتب: د. صغير بن محمد الصغير
Source link