منذ حوالي ساعة
في خضمّ قضايا تُنسي قضايا
فلسطين والروهينغيا شاهدان على ازدواجية المعايير
في زحمة القضايا الدولية التي يطغى بعضها على بعض، يقف العالم اليوم أمام مشهد من الغطرسة الوحشية واللاإنسانية التي يمارسها الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزّة. جريمة تتجاوز حدود المألوف، وتكاد لا تجد لها مثيلًا منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية (1914–1918 و1939–1945). فمنذ السابع من أكتوبر 2023، اندلع عدوان متواصل على قطاع غزّة خلّف أكثر من سبعين ألف قتيل من المدنيين الأبرياء، معظمهم من النساء والأطفال، في ظل تجاهل فاضح للأعراف الدولية والقوانين الإنسانية، وضربٍ عرض الحائط بكل المبادئ الأخلاقية التي طالما ادّعت الأمم المتحضّرة أنها تقوم عليها.
غزّة، صاحبة الحق والأرض، تُستباح دماؤها يومًا بعد يوم، بينما يقف المجتمع الدولي موقف المتفرّج الصامت، وكأنّ الضمير الإنساني قد تعطّل، وكأنّ الشعارات التي رُوِّج لها الغرب طويلا حول حقوق الإنسان والمساواة والديمقراطية والانفتاح لا تنطبق إلا على شعوب بعينها. وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل ما زالت لهذه الادعاءات مكانة تُحترم لدى الشعوب، أم أنها فقدت رصيدها الأخلاقي تمامًا؟
وإذا كانت القضية الفلسطينية تتصدّر المشهد بحكم استمرارها وتكرار الاعتداءات عليها منذ عام 1948، فإن قضايا إنسانية أخرى لا تقل مأساوية قد طواها النسيان أو أُقصيت إلى هامش الاهتمام الدولي، ومن أبرزها قضية مسلمي الروهينغيا في ميانمار. فمنذ أغسطس 2017، ارتكب الجيش البورمي والمتطرفون البوذيون واحدة من أبشع موجات التطهير العرقي في القرن الحادي والعشرين، حيث أُحرقت مئات القرى، وقُتل الآلاف من المدنيين، واضطر ما يزيد على 740 ألفًا من الروهينغيا إلى الفرار نحو بنغلاديش، بحسب تقارير الأمم المتحدة، لينضموا إلى مئات الآلاف ممن سبقوهم في موجات نزوح سابقة.
ورغم مرور أكثر من سبع سنوات، ما زالت قضيتهم تراوح مكانها. فاللاجئون الروهينغيا في المخيمات المكتظة في بنغلاديش يعيشون أوضاعًا مأساوية تفتقر إلى أبسط مقومات الكرامة الإنسانية، بينما القلة التي بقيت في ولاية أراكان تواجه أسوأ صور القتل والتشريد على يد جيش أراكان البوذي المتمرّد، في ظل صمت عالمي وتعتيم إعلامي مركّب.
حاليًا، تكاد تكون معظم مناطق الروهينغيا في شمال ولاية أراكان تحت سيطرة جيش أراكان البوذي المتمرّد، الذي حلّ محلّ الجيش الميانماري كسلطة أمر واقع بعد سلسلة من الهزائم العسكرية. إذ يسيطر على نحو 14 من أصل 17 بلدة، بما في ذلك مانغدو وبوثيدونغ، حيث يقيم معظم ما تبقّى من سكان الروهينغيا في ميانمار. غير أنّ هذا التحوّل لم يُخفّف من معاناتهم، إذ فرض هذا الجيش قيودًا قاسية، وتوجَّهت إليه اتهامات بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، من بينها العمل القسري واتباع سياسات تمييزية ممنهجة.
وفي المؤتمر رفيع المستوى للأمم المتحدة حول أوضاع مسلمي الروهينغيا والأقليات الأخرى في ميانمار، الذي عُقد في 30 سبتمبر 2025 بنيويورك، ورغم التطرّق إلى قضايا التعليم والصحة والاحتياجات الإنسانية، فإن المسألة الجوهرية والأكثر إلحاحًا، وهي حق العودة الكريمة إلى الديار، قد غُيِّبت أو جرى تجاهلها عمدًا. في حين أن مطلب الروهينغيا الأول والأساسي يتمثل في عودتهم الفورية إلى أرضهم، ضمن ظروف مهيأة، وتحت إشراف وضمانات دولية تكفل لهم الأمان والحياة الكريمة، وتمنع تكرار المآسي التي دفعتهم إلى الهجرة القسرية.
إن قضيتي فلسطين والروهينغيا، وغيرهما من قضايا الأقليات المضطهدة حول العالم، تتلاقى جميعها في حقيقة واحدة: أصحاب الحق الشرعي في الأرض يُهجّرون ويُستأصلون قسرًا، بينما يغيب الحلّ الجذري الذي لا بد أن يقوم على مبدأ عودتهم إلى أرضهم بالعزّة والكرامة، وفق ما نصّت عليه المواثيق الدولية، وفي مقدّمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966).
إن استمرار هذا الصمت الدولي لا يعدّ مجرّد عجز أو تقصير، بل هو تكريس لواقع ظالم يهدد النظام الدولي برمّته، ويفضح ازدواجية المعايير التي باتت السمة البارزة للسياسة العالمية المعاصرة. فالقانون الدولي يفقد معناه إذا لم يُطبَّق بعدالة على الجميع، وحقوق الإنسان تتحوّل إلى شعارات خاوية إذا لم تشمل كل إنسان، بغضّ النظر عن دينه أو عرقه أو موقعه الجغرافي.
بقلم: أبو أحمد فريد
كاتب وناشط روهنغي
Source link