الغيرة المدمرة! – فيصل بن علي البعداني

إن الغيرة الصادقة لا تُغار لنفسٍ، ولا لاسمٍ، ولا لتيارٍ، ولا لجماعةٍ، بل لله وحده، ولذا فهي تدور مع الحق حيث دار حتى تحميه وتقويه، ومع الباطل حيث سار حتى تضعفه وتعيق طريقه.

الغيرةُ خُلُقٌ نبيل، ومقامٌ رفيع، ولكنها — ككلّ فضيلة — لا تُثمر إلا حين تكون صادقةَ الوجه، خالصةَ المقصد، موصولةً بالحقّ الذي لا يتجزأ.
فما أكثر الغيرة التي تحرّكها العصبيّةُ، وما أقلّ الغيرة التي يُحرّكها الانتصار للحقّ وحده!

إن الغيرة الصادقة لا تُغار لنفسٍ، ولا لاسمٍ، ولا لتيارٍ، ولا لجماعةٍ، بل لله وحده، ولذا فهي تدور مع الحق حيث دار حتى تحميه وتقويه، ومع الباطل حيث سار حتى تضعفه وتعيق طريقه.

هي غيرةٌ تزن الأمور بميزانٍ واحدٍ، ميزانٍ لا يعرف المحاباة ولا الانتقاء، فإذا عرضت أمامها القضايا نظرت إليها بعينٍ واحدةٍ، لا تتلوّن بميلٍ شخصي ولا بكرهٍ ذاتي، ولا تعرف التفريق بين متماثلين، ولا الجمع بين مختلفين.
ذلك لأنها تخلص لله، ومن أخلص لله، لم تَحْنِ ميزانَه عاطفةٌ هوجاء ولا مصلحة شخصية.

لقد صارت الغيرةُ اليوم سلعةً مزجاةً، تُعرض في أسواق الأهواء، تُباع فيها المواقفُ وتشترى بالانتماء والهوى، حتى غدت كلمة “الغيرة” تُقال لتبرير الانفعال، لا لتوكيد المبدأ.
ترى بعض الناس لا يغارون إلا على الباطل إذا مسّ مصالحهم، ولا يثورون على المنكر إلا إذا جاء من خصومهم، ولا يرضون عن المعروف إلا إذا صدر من جماعتهم.
فإذا جاء الحقّ على يد من يبغضون سكتوا عنه أو قللوا من شأنه، وإذا وقع الخطأ من بعض من يحبون تأوّلوه وصغروه وغضّوا الطرف عنه.
تلك غيرةٌ مشوبةٌ بالهوى، لا تُصلح دينًا ولا تُنصف حقًّا.

الغيرة الصادقة ليست موسميةً ولا انتقائيةً، بل هي مبدأٌ دائمٌ، يقظٌ في القلب على الدوام، يَغلي حين يُنتهك الحقّ أيًّا كان فاعله، ويهدأ فقط حين يُقام العدل.
هي مثل العين السليمة التي تبصر الأشياء على حقيقتها، لا تُفرّق بين ظالمٍ وظالم، ولا تخلط بين محسنٍ ومسيء، لأنّها تنظر بالحقّ لا بالعاطفة المنحازة.
ومن فارق هذه الرؤية فقد خان الغيرة وغدر بها، وإن صاح بها في ميادين الناس المزدحمة.

وإنَّ من أَشدّ ما يُفسد ميزانَ القيم أن يتصدَّر النقدَ من لا ينقد لله، بل لنفسه أو لتياره، فيمدح حيث يحبّ، ويذمّ حيث يكره.
أولئك الذين ينقدون الباطل بحسب ما يشتهون، ويمدحون بحسب ما يُحبّون، ليسوا بنقدةٍ متجردين، ولا نصحةٍ دائرين مع الحقّ حيث دار، بل هم سوءةٌ فكريةٌ وأخلاقيةٌ تُفسد وعي الأمة، لأنهم يُلبسون الهوى ثوبَ الغيرة، ويجعلون من الكلمة سلاحًا للانتقام لا للبناء.

وهم عندي بلا شك أشدّ ضررًا من خصوم الحقّ أنفسهم؛ لأنهم يُشَوّهون وجه الحقّ باسم الدفاع عنه، ويُفسدون على الناس بصيرتهم تحت أردية إشاعة الوعي والتبصير.
يضخّمون الباطل حتى يبدو طاغيًا، فيستوحش الناس من مواجهته، ويُفخّمون الصواب الصغير حتى يمنعوا نموّه واكتماله، فلا يَدَعون للحقّ طريقًا ولا للباطل حدًّا.
هم كالمرآة المكسورة، تُشوّه الصورة كلّما حاولت أن تُظهرها.

والغيرة الصادقة، بخلاف ذلك، لا تعرف الغوغاء ولا التشنّج.
هي صوتُ الحقّ الرزين، ونبضُ الضمير الحيّ، ونارٌ في القلب تُنذر لا لتُحرق.
صاحبها لا يفرح بإسقاط أحد لمجرد إسقاطه، بل يفرح بقيام الحق، ولا يطلب الغلبة لنفسه، بل النصر للمبدأ.
ولذا فأنت ترى غيرته غيرةً عاقلةً، لا تهدم لتنتقم لذاتها، ولا تصمت لتداهن، بل تبني وتوجّه، وتقول للظالم: ظلمت، وللمحسن: أحسنت، دون أن تُبالي من يكون هذا أو ذاك.

ومن علامات هذه الغيرة الصادقة أنها تبدأ بصاحبها قبل أن تمتد إلى غيره؛ فالمخلص يغار من تقصيره قبل أن يغار من خطأ الآخرين، ويحاسب نفسه كما يحاسب الناس.
أما الذين يُفتّشون في زلّات غيرهم وينسون عيوبهم وعيوب تياراتهم فهم دعاةُ الغيرة الكاذبة، لا حملةُ الغيرة الصادقة.

إن الأمة التي تضيع فيها الغيرة الصادقة تُصاب بالعمى القيمي، فلا تُفرّق بين من يُصلح ومن يُفسد، ولا بين من يُنصف ومن يُخادع، وحينئذٍ يسود فيها التزييف، وتذبل فيها المروءة.
فالغيرة الحقّة صمّامُ أمان الضمير الجمعي، إذا اختلّت، اختلّ كلّ شيء بعدها.

فيا من يغار لله: احذر أن تتحوّل غيرتك إلى عصبيّة، أو نصرتك إلى هوى، أو نقدك إلى شماتة.
وازن قبل أن تتكلم، وتثبّت قبل أن تحكم، فإن العدل في القول عملٌ صالح، والهوى في الغيرة خطيئةٌ فادحة.

اللهم اجعلنا من الذين يغارون للحقّ كله، لا بعضه، وينكرون الباطل كله، لا ما وافق أهواءهم،
واجعلنا منصفين في الرضا والغضب، قائمين بالقسط ولو على أنفسنا.
فأعظم الغيرة ما كانت لك، وأعدلها ما كانت فيك، وأصدقها ما لم تُشِبْها نفسٌ ولا هوى.
والله الهادي


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

القرآن… ربيع القلوب وشفاء الصدور – علي بن محمد الصلابي

منذ حوالي ساعة القرآن الكريم هو منهج حياة، ونور يهدي الحائر، وشفاء لما في الصدور. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *