من كمال العقل الاشتغال بما يعني المرء

منذ حوالي ساعة

من أعظمِ ما يدلُّ على كمالِ عقلِ المرءِ ونُضجِه، بل وعلى وَرَعِه ودينِه، اشتغالَه بما يعنيه، وابتعادَه عمَّا لا يعنيه؛ قال رسولُ اللهِ -ﷺ-: «مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يعنيه»

عبادَ اللهِ: إنَّ اللهَ -جل وعلا- خلقَ الإنسانَ وكرَّمه، ومازَه وفضَّله، زيَّنه بزينةِ الإيمانِ، وحلَّاه بنعمةِ النظرِ والإمعانِ، وجعلَ كمالَه بقدرِ ما حصَّلَ من التُّقَى والاتِّزانِ، ونقصانَه بقدرِ ما اتَّصفَ به من الخفَّةِ والعِصيانِ.

وإنَّ من أعظمِ ما يدلُّ على كمالِ عقلِ المرءِ ونُضجِه، بل وعلى وَرَعِه ودينِه، اشتغالَه بما يعنيه، وابتعادَه عمَّا لا يعنيه؛ فعنِ الحُسينِ بنِ عليٍّ -رضي اللهُ عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلّى اللهُ عليه وسلّم-: «مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يعنيه» (أخرجه أحمدُ والتِّرمذيّ)، قال الإمامُ ابنُ القيّم -رحمهُ اللهُ-: وقد جمعَ النبيُّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- الوَرَعَ كلَّه في كلمةٍ واحدةٍ، فقال: «مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يعنيه»، فهذا يعمُّ التَّركَ لِمَا لا يعني من الكلامِ، والنَّظرِ، والاستماعِ، والبطشِ، والمشيِ، والفكرِ، وسائرِ الحركاتِ الظاهرةِ والباطنةِ؛ فهذه الكلمةُ شافيةٌ في الوَرَعِ.

والمقصودُ بـحُسنِ الإسلامِ في هذا السياقِ: كمالُه الواجبُ، الذي يترتَّبُ على الإخلالِ به نَقْصٌ في الدِّينِ، وضعفٌ في الإيمانِ، وليس أصلَ الإسلامِ الذي ليس بعدَه إلَّا الكفرُ، قال ابنُ رجبٍ -رحمه الله-: والعنايةُ شدّةُ الاهتمامِ بالشيءِ، يُقالُ: عناهُ يعنيهِ، إذا اهتمَّ به وطلبَه، وليس المرادُ أنَّه يتركُ ما لا عنايةَ له به، ولا إرادةَ بحُكم الهوى وطلبِ النفسِ، بل بحُكمِ الشرعِ والإسلامِ، ولهذا جعَلَه من حسنِ الإسلامِ؛ فإذا حَسُنَ إسلامُ المرءِ تركَ ما لا يعنيهِ في الإسلامِ مِنَ الأقوالِ والأفعالِ.

عبادَ اللهِ: وما يعني المرءَ هو ما يهمُّه وينفعُه، ويُضيفُ إلى حياتِه الدينيّةِ قيمةً وفائدةً وثوابًا، ممَّا يُقرِّبُه إلى اللهِ -تعالى-، من العلمِ النّافعِ، والعملِ الصالحِ، وكثرةِ الذِّكْرِ، وقراءةِ القرآنِ، وتزكيةِ النفسِ، ونوافلِ العباداتِ، والإحسانِ إلى الخَلْقِ، وإلى حياتِه الدنيويّةِ من مصالحه التي لا تستقيمُ الحياةُ إلّا بها: من الكسبِ الحلالِ، والقيامِ على شؤونِ الأهلِ والأبناءِ، وما هو من صميمِ مسؤوليَّتِه تجاهَ وطنِه ومجتمعِه.

وما لا يعني المرءَ -عبادَ اللهِ- هو كلُّ ما لا ينفعُه في دينِه ولا دنياهُ، وفي الاشتغالِ به مضيعةٌ للأوقاتِ، وتفويتٌ للحسناتِ، وكسبٌ للسيِّئاتِ: من الكلامِ في شؤونِ الآخرينَ، والتنقيبِ عن أحوالِهم، والتدخُّلِ في خصوصيَّاتِهم التي لا تضرُّ ولا تنفعُ، وكثرةِ الجِدالِ والمِراءِ، وتتَبُّعِ العَوراتِ والعيوبِ ممَّا لا يَحِلُّ رُؤيتُه ولا سَماعُه؛ فالسلامةُ لا يَعدِلُها شيءٌ، إلَّا أن يُستشارَ المؤمنُ، فعليه حينَها أن يُخلِصَ لعبادِ اللهِ في النصيحةِ، فأعظمُ الغِشِّ الغشُّ في النُّصحِ ما كانَ بخِلافِ الإخلاصِ، فعن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلّى اللهُ عليه وسلّم-: «المُستشارُ مؤتَمَنٌ» (أخرجه البخاري في الأدبِ المفرد).

وممَّا ينبغي أن يحرِصَ عليه المؤمنُ: تركُ فُضولِ الكلامِ في غيرِ فَنِّه وتخصُّصِه، وألَّا يُبدِيَ رأيَه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، وكلِّ حادثةٍ ومُلِمَّةٍ، وكلِّ نازلةٍ ومستِجَّدَّةٍ؛ فللسياسةِ أهلُها، وللفتاوى أهلُها، وللقضاءِ أهلُه، وللاقتصادِ أهلُه، وللطِّبِّ رجالُه، ولكلِّ تخصُّصٍ فرسانُه، واحترامُ التخصُّصِ مبدأٌ عقليٌّ، ومقصدٌ شرعيٌّ، وهو مِنْ تركِ ما لا يعني العبدَ، يشيرُ إلى ذلك حديثُ أنسٍ -رضي اللهُ عنه- عن النبيِّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- قال: «أرحمُ أُمّتي بأُمّتي أبو بكرٍ، وأشدُّهم في دينِ اللهِ عمرُ، وأصدقُهم حياءً عثمانُ، وأفرَضُهم زيدُ بنُ ثابتٍ، وأقرؤُهم لكتابِ اللهِ أُبَيُّ بنُ كعبٍ، وأعلمُهم بالحلالِ والحرامِ معاذُ بنُ جبلٍ، ألَا وإنَّ لكلِّ أُمّةٍ أمينًا، وإنَّ أمينَ هذه الأُمّةِ أبو عُبيدةَ بنُ الجراحِ» (أخرجه أحمدُ في مسندِه)، وزاد بعضُهم: وأقضاهم عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي اللهُ عنهم أجمعينَ-.

ومن لطيفِ ما استُدلَّ به على هذا الأصلِ: أنَّ اللهَ -تباركَ وتعالى- كلَّفَ بالوحيِ جبريلَ -عليهِ السَّلامُ-، وبالقَطرِ ميكائيلَ -عليهِ السَّلامُ-، وبالنَّفخِ في الصُّورِ إسرافيلَ -عليهِ السَّلامُ-، وبقبضِ الأرواحِ مَلَكَ الموتِ، وبكتابةِ الأعمالِ الكرامَ الكاتبينَ، وجعلَ ملائكةً تسيحُ في الأرضِ تلتمسُ حِلقَ الذِّكرِ، في أعمالٍ وتخصُّصاتٍ لا تُحصى، ولو شاءَ اللهُ -جلَّ وعلا- بحكمتِه وإرادتِه ومشيئتِه وقدرتِه لَجَعَلَ جميعَ الأعمالِ تحتَ تصرُّفِ مَلَكٍ واحدٍ لَفَعَلَ -سبحانه-؛ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، لكنَّه التَّعليمُ الإلهيُّ والتَّوجيهُ الرَّبّانيُّ.

فاتَّقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، ولْيحفَظِ المرءُ عليه لسانَه وقلبَه، إلَّا فيما كانَ له فيه مصلحةٌ، ولا يتكلَّمُ فيما لا يُحسِن، فإنَّه يُحافظُ بذلك على دِينِه ومروءتِه، وتبرأُ به ذِمَّتُه من حقوقِ الآخرينَ.

 

عبادَ اللهِ: إنَّ مما يُعينُ على هذا البابِ من الأدبِ والورعِ أن يعلمَ العبدُ أنَّه مؤاخَذٌ بكلِّ لفظةٍ يقولها، ومُحاسَبٌ على كلِّ كلمةٍ ينطقُ بها، ومُجازًى على كلِّ عبارةٍ يُسطِّرُها في أيِّ مجالٍ كان، وعلى أيِّ وسيلةٍ كانت، مرئيةً أو مسموعةً أو مقروءةً، قال اللهُ -جلَّ وعلا-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، وقال -سبحانه-: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الْكَهْفِ:49].

وعن عقبةَ بنِ عامرٍ الجُهنيِّ -رضي اللهُ عنه- قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما النَّجاة؟ قال: «أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ على خَطِيئَتِكَ» (أخرجه أحمدُ والترمذيُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ).

فالسعيدُ -عبادَ اللهِ- مَنْ راقَبَ رَبَّه فأمْسَكَ عليه لِسَانَهُ، واشتغلَ بخاصّةِ نفسِه، وتركَ ما لا يعنيه.

ثم صلُّوا وسلِّموا على خيرِ خلقِ اللهِ، محمّدِ بنِ عبدِ اللهِ، كما أمرَكم بذلك ربُّكم، فقال جلَّ في علاه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الْأَحْزَابِ:56].

اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ نبيِّنا محمّدٍ، وارضَ اللهم عن الأربعةِ الخلفاءِ الأئمةِ الحنفاءِ: أبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعينَ، وتابِعِيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وعنّا معهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ.

______________________________________________
الكاتب: بندر بليلة


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

ايقاظ القلوب – أحمد الهاجري

منذ حوالي ساعة “من التائبين من لايعود إلى درجته، ومنهم من يعود إلى أعلى منها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *