منذ حوالي ساعة
ارتبطت العلمانية الغربية في نشأتها، بظروف تاريخية ودينية واجتماعية، أدت لبروزها كحل للمشاكل التي أثقلت كاهل الغرب النصراني.
ارتبطت العلمانية الغربية في نشأتها، بظروف تاريخية ودينية واجتماعية، أدت لبروزها كحل للمشاكل التي أثقلت كاهل الغرب النصراني.
غير أن الواقع في الشرق الإسلامي مختلف تماما عن الواقع في الغرب النصراني، كما بيَّنا ذلك في مقال سابق، والسؤال الذي يرد هنا ما هي الأسباب التي أدت إلى ظهور العلمانية في الشرق الإسلامي، طالما أن التناقض الفكري والواقع التاريخي لا يؤيد استيراد التجربة الغربية في تطبيق العلمانية إلى عالمنا الإسلامي، هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه في هذا المقال.
بعد سقوط الخلافة العثمانية، عاش المسلمون مرحلة من الضعف، تسلط الاستعمار خلالها على ثروات الشعوب الإسلامية، وغدا ينشر أفكاره وضلالاته بين المسلمين، ووجدت تلك الأفكار أتباعا وأنصارا يتبنونها وينشرونها ويدافعون عنها، وكانت البعثات العلمية التي أرسلت إلى أوربا – أو ما يفترض أن تكون علمية – صيدا سهلا للتأثير عليها وتحويلها إلى أبواق تصدح بأفكار المحتل وتسوق نظرياته.
وكان للنصارى العرب في الداخل الإسلامي دور كبير أيضا في تسويق هذه النظريات والترويج لها والدعوة إليها.
وبعد سقوط الخلافة دار جدل كبير حول شكل الدولة التي يجب أن تكون، فمن داع إلى إعادة الخلافة، ومن داع إلى إقامة دولة قومية ووطنية تجعل من العرق العربي أساس تشكلها، وكان في مقدمة هؤلاء النصارى العرب، الذين دعوا إلى قيام دولة قومية عربية لا دينية، ورأوا في الدولة الدينية تهديدا لتطلعاتهم السلطوية، فراحوا يكيلون السباب والشتائم للدولة التي حمتهم قرونا من الزمان، وعاشوا في كنفها ورعايتها، ثم أنشؤوا الجمعيات السرية التي تناهض الخلافة الإسلامية، وتدعوا إلي قيام حكومات قومية غير دينية، ومن هذه الجمعيات جمعية بيروت ( فارس نمر )، وجمعية العربية الفتاة، والحزب القومي السوري ( انطوان سعادة ) وحزب البعث العربي الإشتراكي ( مشيل عفلق ).
ثم نشطوا في نشر أفكارهم، فحرروا الصحف والمجلات، وطعمّوها بأفكارهم العلمانية العفنة، تحت مسميات براقة انخدع بها الناس وصدقوها، فأصدروا صحفا كثيرة ك “الجنان”، و”المقتطف”، و”الهلال”، وكان محرروها كناصيف اليازجي، ويعقوب صروف، وجرجي زيدان، يمثلون طلائع العلمانية في الشرق الإسلامي.
ولنقرأ معا بعض أفكار طليعة الشر، يقول “شبلي شميل”: ” ليس الحكم الديني والحكم الاستبدادي فاسدين فحسب بل هما غير طبيعيين وغير صحيحين “
ويقول: ” أما في العصر الحديث فالوحدة تتم بخلق الولاء القومي والفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية ” ( انظر العلمانية 558- 559 )، ورفع هؤلاء النصارى العرب شعارا ماكرا وهو ” الدين لله، والوطن للجميع ” وهو شعار وإن بدا جميلا في لفظه، إلا أنه خبيث في معناه، إذ إنه يوجز العلمانية في لفظ مختصر يفصل فيه بين ما لله ” الدين ” وما للناس ” الوطن ” وكأن ثمة تقابل وتضاد بينهما على وفق النظرة الغربية العلمانية في الفصل بين الدين والحياة.
ومن أسباب ظهور العلمانية في العالم الإسلامي إضافة إلى ما سبق ظهور حركة الاستشراق، وهي حركة تفرغت في أغلبها للتشكيك في التراث الإسلامي، والطعن في ثوابته كالنبوة والقرآن والتاريخ الإسلامي ككل ومنه الدولة الدينية، فأنشؤوا المراكز البحثية، وألفوا الكتب التي تحاول الطعن والتشكيك في الإسلام عقيدة وشريعة، وألقوا الشبه على مسامع المسلمين في قرآنهم ونبيهم وإسلامهم، وقاموا بإحياء الفرق البائدة والطوائف الشاذة التي غمرها الحق ببيانه فهدمها، وطمس معالمها. كل ذلك من أجل تشكيك المسلم في دينه، وتهيئته لتقبل الأفكار الضالة، والآراء الباطلة.
وقد لاقت هذه الحركة أتباعا في الداخل الإسلامي، روجوا فكرها وعظموا شأنها، ودفع الاستعمار في هذا الاتجاه، فجعل من العلمانية واقعا يعيشه المسلمون، فقام بإنشاء المحاكم المدنية وجعل القانون الوضعي هو الحاكم في شؤون الناس وأحوالهم، ولا أدلَّ على ذلك مما قام به الإنجليز في الهند من إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية، وكذلك فعل نابليون في مصر إذ أحلَّ القانون الفرنسي محل الشريعة الإسلامية، حتى لم يبق من الشريعة إلا ما يسمى بالأحوال الشخصية، وقد ظل هذا الوضع قائما في شتى البلاد الإسلامية في مؤشر صريح على أن النظم الحاكمة ما هي إلا ربيبة الاستعمار وامتداده الفكري والسياسي.
وقد أدى ضمور الجانب العلمي لدى المسلمين، وانبهار بعض شيوخهم بالنموذج الغربي إلى إضعاف مقاومتهم لهذه الأفكار الشاذة والآراء المنحرفة، إلا أن انتشار الوعي الإسلامي لدى المسلم في الآوانة الأخيرة، أدى إلى انحسار جزئي للعلمانية، فظهرت في الجانب الاقتصادي البنوك الإسلامية، وظهر في الجانب التعليمي المدارس الإسلامية من أدنى المستويات إلى أعلاها، وظهر في جانب الأخلاق إلتزام شبه عام في كثير من البلاد بالزي الإسلامي، وهي تطورات وإن بدت جزئية إلا أنها خطوات هامة في سبيل عودة المجتمع ككل إلى الإسلام في شتى نواحي حياتهم.
Source link