التجارة مع الله – طريق الإسلام

انتبه فرأس مالك لا يمكن ادخاره، فاليوم الذي ينتهي من عمرك لن يعود، وهو سريع الذهاب، يمر الشهر كاليوم، واليوم كالساعة، حتى تنقضيَ أعمارنا التي هي رأس مالنا، ونحن في غفلة وتسويف.

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:

• فقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207].

 

قال السعدي في تفسير الآية: “هؤلاء هم الموفَّقون الذين باعوا أنفسهم، وأرخصوها، وبذلوها؛ طلبًا لمرضاة الله، ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرؤوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفَّقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] إلى آخر الآية، وفي هذه الآية أخبر أنهم اشترَوا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبَذْلِ ما به رغِبوا، فلا تسأل بعد هذا عما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم”.

 

• وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29].

 

جاء في التفسير الميسر: أي: إن الذين يقرؤون القرآن، ويعملون به، وداوموا على الصلاة في أوقاتها، وأنفقوا مما رزقناهم من أنواع النفقات الواجبة والمستحبة سرًّا وجهرًا، هؤلاء يرجون بذلك تجارةً لن تكسُدَ ولن تهلِكَ؛ ألَا وهي رضا ربهم، والفوز بجزيل ثوابه؛ ليوفيهم الله تعالى ثواب أعمالهم كاملًا غير منقوص، ويضاعف لهم الحسنات من فضله، إن الله غفور لسيئاتهم، شكور لحسناتهم، يثيبهم عليها الجزيل من الثواب.

 

وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ الناس يغدو؛ فبايع نفسه، فمعتقها، أو موبقها»، وعند الإمام أحمد وغيره: «الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها»؛ (صححه الألباني).

 

وقال لقمان الحكيم لابنه: “يا بني، اتخذ طاعة الله تجارة، تأتِك الأرباح من غير بضاعة”.

 

فكل إنسان في هذه الدنيا يسعى ويمضي فيها، فإما يبيع نفسه لله ويحسن التجارة مع الله، فيُعتقها من غضب الله وعذابه، ويفوز بأعظم ربحٍ؛ وهو رضوان الله عز وجل وجنته، وإما أن يُوبِقَها بمعصية الله، فيقودها لِما فيه هلاكها.

 

وكل تجارة لا بد لها من سوق ورأس مال؛ فرأس مالك الذي تملكه عند تجارتك مع الله عز وجل هو عمرك، ووقتك، فكل يوم، وكل ساعة، وكل دقيقة تستطيع أن تشتري به كنزًا، ليكون لك ذخرًا عند نهاية السوق، أو تخسر فيه خسارة تندم عليها يوم لا ينفع الندم.

 

قال الحسن البصري: “أدركت أقوامًا كان أحدهم أشحَّ على عمره منه على درهمه”، وقال أيضًا: “إنما أنت أيامٌ مجموعة، كلما مضى يومٌ، مضى بعضُك”.

 

والسوق هو الدنيا، وهو سوق دائم لا ينتهي إلا بقيام الساعة، يدخله أناس ويخرج منه آخرون، وهم فيه متفاوتون.

 

ومن مزايا هذه التجارة أن الربح فيها مضمون، فأي تجارة في الدنيا قد يكون فيها خسارة أو ربح، أما التجارة مع الله فلا خسارة فيها، الخسارة الحقة هي عدم المتاجرة مع الله، هي تضييع هذه الصفقات بلا استثمار؛ فكل يوم وكل ساعة تمرُّ من عمرك بلا طاعة هي خسارة، والخسارة أشد الخسارة التي تجلب الحسرة والندامة – هي استخدام رأس مالك فيما يضرك.

 

ومن نِعَمِ الله عز وجل أن هذا السوق مفتوح للجميع؛ الغني والفقير، الكبير والصغير، والجميع يملكون رأس المال الذي يؤهلهم للتجارة.

 

فيا لها من تجارة رابحة مع الله الشكور الذي يجازي سبحانه على العمل القليل بالأجر الكثير! فكلمة لا تستغرق لحظات (سبحان الله وبحمده) يشتري بها نخلة في الجنة، فمن رأى مثل هذه الجواهر الثمينة في هذا السوق، وتعلَّم كيف يربح، وكيف يتاجر، وعلِم أن من أنفق رأس ماله بإخلاص ومتابعة لسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، ربِح أعظم الربح، فيحرص على البحث عن أنفس الكنوز، وأنفق فيها رأس ماله، فربِح وفاز.

 

من علِم قدر ما يشتري، هان عليه ما يبذل؛ فسلعة الله غالية؛ سلعة الله الجنة.

 

من فقه التجارة مع الله: أن تتعلم مواطن الربح والخسارة؛ فتتعلم من الكتاب والسنة ما الذي يرضي الله عز وجل، وما الذي لا يرضيه.

 

ومن فقه التجارة مع الله: ألَّا تعمل عملًا إلا بنية خالصة لله، وأن تعدد النوايا في العمل الواحد؛ حتى تستفيد من رأس مالك أقصى استفادة؛ فكما قيل: “تجارة النيات تجارة العلماء“.

 

ومن فقه التجارة مع الله: أن تحفَظَ أرباحك من مُحبِطات الأعمال؛ كالكبر والرياء والعُجب؛ حتى لا تكون كمن يسعى ويكِدُّ في تجارته، ثم يأخذ أرباحه فيرميها ولا يستفيد بها، أو كمن يأخذ أرباحه فيعطيها لغيره (بالغِيبة والنميمة).

 

من فقه التجارة مع الله: أن يبحث عن أفضل الصفقات وأعظمها ربحًا، فيستزيد منها، ولا يزهد أيضًا في أي صفقة، وإن كانت ذات ربح أقل، فلا قليل فيما عند الله؛ فكل أجور الله عظيمة.

 

من فقه التجارة مع الله: أن تجعل لك خبيئةً من عمل صالح؛ فلا تجعل كل تجارتك في العلن.

 

من فقه التجارة مع الله: محاسبة النفس من حين لآخر؛ لتقف على أرباحك وخسائرك؛ لزيادة الأرباح وشكر الله عليها، ومعرفة خسائرك، فالتاجر الفطن إذا أصابته خسائر (سيئات)، انتبه لها، وأعقبها بصفقات رابحة، تعوِّض له خسارته، بل تمحوها بإذن الله (الاستغفار والحسنات الماحية).

 

ومن فقه التجارة مع الله: اغتنام مواسم الطاعات التي تُضاعَف فيها الأجور؛ لعله يعوِّض ما ضاع منه في زمن الركود (الفتور)، وما ضيَّعه في وقت الغفلة.

 

 

وأخيرًا انتبه فرأس مالك لا يمكن ادخاره، فاليوم الذي ينتهي من عمرك لن يعود، وهو سريع الذهاب، يمر الشهر كاليوم، واليوم كالساعة، حتى تنقضيَ أعمارنا التي هي رأس مالنا، ونحن في غفلة وتسويف.

 

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستغلون أعمارهم في طاعته، وأن يوفقنا لحسن العمل، والفوز يوم نلقاه سبحانه وتعالى.

__________________________________________________
الكاتب: دينا حسن نصير


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *