من حق المسلم على أخيه تشييع جنازته، وقد رتب عليها الشرع فضل عظيم ينبغي للمسلم أن يجتهد في تحصيله قدر استطاعته. وهناك جملة من المسائل الفقهية المهمة المتعلقة بالجنائز، أحببت-في هذه السطور- أن أذكر بها إخواني المسلمين.
من حق المسلم على أخيه تشييع جنازته، وقد رتب عليها الشرع فضل عظيم ينبغي للمسلم أن يجتهد في تحصيله قدر استطاعته. وهناك جملة من المسائل الفقهية المهمة المتعلقة بالجنائز، أحببت-في هذه السطور- أن أذكر بها إخواني المسلمين.
المسألة الأولى: من غسَّل ميتًا، هل يغتسل؟
روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «(مَن غسل ميتًا فليغتسِل، ومَن حَمَله فليتوضَّأ)» .
وقد اختلف العلماء في رفع هذا الحديث ووقفه، فممن صحح وقفه: البخاريُّ وأبو حاتم والبيهقي، وممن صحح رفعه: الترمذيُّ وابنُ حبان وابن حزم والبغوي والذهبي وابن حجر. وضعفه النووي وابن باز. وقال أحمد بن حنبل وعلي ابن المديني وابن المنذر: لا يصح في هذا الباب شيء. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه منسوخ.
وعلى فرض صحته، فهو محمول على الندب وليس على الوجوب.
وقد صح عن ابن عباس أنه قال: ليس عليكم في غُسْلِ ميتكم غُسْلٌ إذا غسَّلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم.
المسألة الثانية : الأحق بالصلاة على الميت
ليس في المسألة نص من الكتاب أو السنة، وإنما هي اجتهادات لأهل العلم، والذي يظهر لي- والله أعلم – أن إمام المسجد أحق بالصلاة على الميت، فإن أسقط إمام المسجد حقه وسمح للوصي من الصلاة فلا بأس.
ومن النقول المشهورة في ذلك قول ابن الهمام الحنفي (المتوفى: 861هـ): وأولى الناس بالصلاة على الميت السلطان إن حضر؛ لأن في التقدم عليه ازدراء به، فإن لم يحضر فالقاضي ؛ لأنه صاحب ولاية، فإن لم يحضر فيستحب تقديم إمام الحي؛ لأنه رضيه في حال حياته ثم الولي… انتهى من فتح القدير.
وسئل الشيخ ابن باز (المتوفى: 1420هـ): إذا كان قد وصى الميت؛ بأن يصلي عليه شخص معين، فهل هذا الشخص أولى من الإمام الراتب؟
فأجاب: إمام المسجد أولى بالصلاة على الجنازة من الشخص الموصى له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يُؤمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سلطانه)، وإمام المسجد هو صاحب السلطان في مسجده. مجموع الفتاوى.
المسألة الثالثة: المسبوق ببعض التكبيرات في صلاة الجنازة:
هذه المسألة كسابقتها ، ليس فيها نص من الكتاب أو السنة، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المأموم إذا سُبق بشيء من التكبير لا يقضي ما فاته ، وذهب بعضهم إلى أنه إذا سُبق فإنه يقضي ما فاته، واختلفوا: إذا قضى هل يدعو بين التكبير أم لا؟ فمذهب أبي حنيفة أن يدعو بين التكبير المقضي، وذهب مالك والشافعي إلى أنه يقضيه متتابعًا.
وقد سئل الشيخ بن اعثيمين (المتوفى : 1421هـ) رحمه الله تعالى:
إذا جاء رجل والإمام يصلي الجنازة وقد كبر تكبيرتين، فما العمل؟
فأجاب فضيلته: إذا جاء الرجل وقد كبَّر الإمام على الجنازة التكبيرتين الأوليين، فإنه يكبر معه التكبيرة الثالثة، ويدعو للميت، وإذا سلم الإمام، فإن بقي الميت لم يرفع؛ أكمل ما مضى على صفته، وإن رفع الميت، فإنه يتابع التكبير ويسلم، وإن شاء سلم بدون متابعة التكبير. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين.
المسألة الرابعة: أين يمشي المُشيِّعون للجنازة؟
الأمر في ذلك واسع. قال الشيخ بن عثيمين:
كل الأحاديث التي في المسألة لا تخلو من مقال وضعف،…. والظاهر لي في هذه المسألة: أن الأمر فيها واسع، يكون الإنسان أمامها، أو خلفها أو عن يمينها، أو عن شمالها، أما الذي يريد أن يحمل فأمره ظاهر لابد أن يكون قريبًا منها من أي اتجاه، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر يمشون أمامها قد يقال : إن هذا فعل وقضية عين رأوا أن الأنسب في تلك القضية بعينها أن يكونوا أمامها، …. فما دام الأمر موسّعًا فلينظر الإنسان إلى المصلحة ويتبعها. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام.
المسألة الخامسة: ما يقوله الماشي مع الجنازة
من تبع الجنازة حيثما مشى منها فليكثر ذكر الموت، والفكر فى صاحبهم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه، وليستعد للموت وما بعده، سهل الله لنا الاستعداد للقائه برحمته.
وسمع أبو قلابة صوت قاصّ( خطيبُ يعتمد في وعظه على القِصص) ، فقال: كانوا يعظمون الموت بالسكينة.
وحلف ابنُ مسعود ألا يكلم رجلا رآه يضحك فى جنازة.
وقال مُطَّرف بن عبد الله: كان الرجل يلقى الخاص من إخوانه فى الجنازة له عهد عنده، فما يزيده على التسليم، ثم يُعرض عنه كأن بينهما خصومة، اشتغالاً بما هو فيه، فإذا خرج من الجنازة سائَلَهُ عن حاله.
وقال أسيد بن الحضير: لو كنتُ فى حالتى كلها مثلى فى ثلاث!!: إذا ذَكَرتُ النبى(صلى الله عليه وسلم)، وإذا قرأتُ سورة البقرة، وما شهدتُ جنازة قط فحدثتُ نفسى إلا بما يقولُ ويقالُ له إذا انصرف. شرح صحيح البخارى لابن بطال.
المسألة السادسة: ما حكم المشي بالنعال في المقبرة ؟
ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا بأس بالمشي بين المقابر بالنعال، أما ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه (أن رسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يمشي بين القبور في نعليه، فقال: يا صاحب السِّبْتِيَّتَيْنِ ألقِهِما…. )، فقد ضعفه بعض العلماء من جهة السند، وقال بعضهم: إنما كره النبي ذلك لما فيه من الخيلاء، أو لأذى كان فيهما.
و النعال السبتية- بكسر السين: نعال مصنوعة بطريقة معينة أو من نوع معين من الجلود.
قال ابن بطال: أخذ الإمام أحمد بظاهر الحديث، وقال آخرون: لا بأس بذلك، وحجتهم لباسه عليه السلام للنعال السبتية وفيه الأسوة الحسنة، ولو كان لباسها فى المقابر لا يجوز لبين ذلك لأمته، وقد يجوز أن يأمره عليه السلام بخلعهما لأذى كان فيهما أو غير ذلك.
ويؤيد هذا قوله عليه السلام: (إن العبد إذا وُضع فى قبره وتولى عنه اصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم).
وثبت عن النبى – عليه السلام – أنه صلى فى نعليه ، فلما كان دخول المسجد بالنعل غير مكروه، وكانت الصلاة بها غير مكروهه، كان المشى بها بين القبور أحرى ألا يكون مكروها. شرح صحيح البخارى لابن بطال.
وتزول الكراهة -عند القائلين بها- لعذر أو حاجة، كأن يكون في المقبرة شوك، أو أثر مطر أو طين، أو شدة حرارة، أو حصى….إلخ.
المسألة السابعة: الموعظة على القبور، تُفعل عند الحاجة وبكلمات يسيرة
لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم خطيباً في المقبرة عند دفن الميت يعظ الناس ويذكرهم كأنه خطيب جمعة ، لكنه أحياناً يذكِّر من حوله بكلام مناسب للحال في طوله وقصره؛ لذلك لم يُنْقَل عن السلف مِن الصحابة والتابعين أنهم فعلوا ذلك.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين عن حكم الموعظة- بصفة دائمة- على القبر.
فقال: الذي أرى أنها خلاف السنة؛ لأنها ليست على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو أنصح الخلق للخلق، وأحرصهم على إبلاغ الحق، ولم نعلم أنه -صلى الله عليه وسلم- وعظ على قبر قائمًا يتكلم كما يتكلم الخطيب أبدًا، إنما وقع منه كلمات، ….
وأما أن يُتَّخَذ هذا عادة، كلما دُفِن ميتٌ قام أحد الناس خطيبًا يتكلم، فهذا ليس من عادة السلف إطلاقًا، وليُرْجَع إلى السنة في هذا الشيء، وأخشى أن يكون هذا من التنطُّع؛ لأن المقام في الحقيقة مقام خشوع وسكون، وليس مقام إثارة للعواطف، ومواضع الخطبة هي المنابر والمساجد، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل هذا…... اهـ. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين.
وهذا هو الذي يظهر لي، وتزداد المخالفة إذا أطال المتحدث حتَّى يتأذى المشيِّعون ويملون!!
المسألة الثامنة : يستحب الوقوف بعد الدفن قليلاً، والدعاء للميت:
وذلك لما رواه أبو داود عن عثمان «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كان إذا فَرَغ من دفن الميت وقَفَ على قبره، وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآنَ يُسأَل» .
لكن كم دقيقة يقفها من أراد الدعاء؟
يقول الشيخ ابن عثيمين تعليقا على الحديث السابق:
أمرهم أن يقفوا على القبر، ويستغفروا لصاحبه، ويسألوا له التثبيت فقط، ثم ينصرف الناس، هذا ما جاءت به السنة، أما ما رواه مسلم أن عمرو بن العاص لما حضرته الوفاة أوصى من حوله، فقال:( أقيموا حولَ قبري قدرَ ما تُنحر جزور ويُقسَّم لحمها، حتى استأنس بكم، وأنظر ماذا أراجعُ به رُسُل ربي؟) يعني الملائكة ، فهذا اجتهاد منه رضي الله عنه، لكنه اجتهاد لا نوافقه عليه، لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هدي غيره، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقف أو يجلس عند القبر بعد الدفن قدر ما تنحر الجزور ويقسم لحمها، ولم يأمر أصحابه بذلك. أ.ه شرح رياض الصالحين.
وقال في موضع آخر: لم يُرشد إليه الأمة، ولم يفعله الصحابة رضي الله عنهم فيما نعلم،… فتقف على القبر وتدعوا بالتثبيت والمغفرة، ثم تنصرف، أما المكث عنده فليس بمشروع. أ.ه مجموع الفتاوى.
نسأل الله أن ينفع بهذه الكلمات، وأن يجعلها خالصةً لوجهه الكريم، إنه جواد كريم
Source link