أنا فتاة سمراء، حزنتُ جدًّا حين قرأت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: ((اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة))، حيث قرأت في شرح الحديث أنه صلى الله عليه وسلم “شبه رأس الحبشي بالزبيبة لتجمعها ولكون شعره أسود، وهو تمثيل في الحقارة وبشاعة الصورة وعدم الاعتداد بها”، وتعجبت هل هذا معناه أن سواد البشرة بشاعة؟
لقد جعلني هذا الحديث أحزن بشدة؛ لأنني فهمت أن الرسول يَصِف السود بالبشاعة، رغم أني أعلم أن معنى الحديث هو عدم الاعتداد بصورة الشخص، ولكن ما فهمته أيضًا هو أن الشخص صاحب البشرة السوداء بشع، فهل معنى ذلك أنني إذا رأيت شخصًا يصف السود بالبشاعة فعليَّ أن أتفق معه؟
أعلَمُ جيدًا أن الأفضلية عند الله للأتقى؛ لأن الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا لا فضل لعربي على عجميٍّ، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم))، ولكن سؤالي هو: هل السود بَشِعون، وهل يجوز وصفهم بذلك؟
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فأصلحك الله أيتها الابنة الكريمة، فلو أنك تأمَّلت – بارك الله فيك – الأدلة التي أوردتِها في رسالتك لتيقَّنت أن معنى الحديث الشريف الذي أشكل عليك على عكس ما فهمته منه تمامًا لأمور كثيرة أكتفي بذكر بعضها في صورة نقاط ليسهل فهمُها:
أولًا: الحديث خرَج مخرج التمثيل والفرض، وهو أسلوب معروف في لغة العرب، وكثير الاستعمال للمبالغة في وجوب السمع والطاعة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لتتبعنَّ سنن من قبلكم شبرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه))، والضبُّ دويبة صغيرة، وجُحرُه حفرته التي يعيش فيها، وهي ثقبٌ ضيِّق رديء، فهل تظنين أن المقصود دخول الإنسان هذا الثقب الضيق؟ أو المعنى شدة تشبه المسلمين بالكافرين.
ومن هذا الباب أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: ((من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة))، والقطاة طائر صغير، وعشُّه لا يصلح مسجدًا، وإنما هو لإفادة المُبالَغة، فأقل المسجد أن يكون موضعًا لصلاة واحد.
ثانيًا: الحديث لم يخرج عن المعاني الثابتة في الشريعة من المساواة في المواطَنة والحقوقية المدنية، فيتيح حرية الولاية وحقَّها بالمواطنة الإنسانية لكل مسلم، لا بجنس أو لون أو عرق، فالجميع متساوون في هذا الحق، وهو ما لم تَستطع الأنظمة المعاصِرة بعد أن تفعله، بل ما زالت تُعاني العنصرية الهمجية ضد الأجناس لونًا ووطنًا.
ثالثًا: الحديث قانونيٌّ في المساواة، وأنه حتى لو وجد مَن هذه صفته كائنًا مَن كان فله حق السمع والطاعة إن تأمَّر وأخَذَ مقاليد الأمور، فلم يَرِد الحديث للامتهان بل للامتنان، ولم يرد العيب بل دفع العيب حتى لا يجعل ذلك أهل العصبيات مُسوغًا للخروج على الأسود لو تولى.
رابعًا: مَن علم سنة النبي وتقريبه للضعفاء والعبيد وتعظيمه من شأن بلال الحبشي – علم علمًا يقينيًّا أن الحديث جاء في سياقه ذلك، أعني أنه أمر بترك النَّعرة الجاهلية التي كان العرب معها يأنفون مِن أن يتولى الإمرة عليهم عبدٌ مِن إفريقيا أسود اللون، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بطاعته وعدم الخروج عن أمره، وأن يُميتوا تلك المعاني الجاهلية في نفوسهم، فاستبدل بالمعنى الجاهلي معنى إسلاميًّا، وقضى على التمييز العنصريِّ بناءً على اللون أو العرق الذي كان متأصلًا في قلوب العرب قبل الإسلام، وهو بذلك أبعد ما يكون عما ظننته منه.
خامسًا: النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المثل بمَن كان العرب في الجاهلية يتَّخذونهم رقيقًا مملوكين، لينفي بذلك كل معنى للعنصرية المقيتة بناءً على اللون أو العرق، هذا بمفرده جواب للإشكال الذي وقع في نفسك.
سادسًا: تفسير أهل العلم الذي نقلته يأتي في نفس السياق؛ لأن المقصود هو الأمر الجازم بطاعة الحاكم كيفما كان وعلى أي صورة كان، فاستدعى الأمر مبالغةً في تمثيل بشاعة الصورة يبينه الرواية الأخرى: ((مجدَّع الأطراف))؛ أي: مقطَّع الأطراف، ففهم أن النبي أراد ذكر الأوصاف الذميمة عند أهل الجاهلية؛ فهو عبد حبشيٌّ، وأسود، وكونه رأسه صغيرة سوداء، وكونه مجدوع الأطراف، فهذه كلها تُشعر بالنقص، ومع ذلك تجب طاعته؛ لأن الخير كله في الطاعة، فأيُّ تكريم له بعد هذا وأي مساواة وأي نفي للتمييز بين الأجناس.
سابعًا: كل مسلم يعلم أن الشريعة الإسلامية أخبرت أن الناس جميعًا مخلوقون من أصل واحد هو التراب، وأن أبانا واحد هو آدم، فنسبنا جميعًا واحد، ونحن إخوة في هذه الأسرة الإنسانية الواسعة، وإذا كان لبعض أفرادها نوع امتياز بلون أو شكل أو نشاط، فذلك لا يغضُّ من قيمة الآخرين؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] وإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجُعل الذي يُدهده الخراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب))؛ رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
ثامنًا: جعل الإسلام هناك تفاوتًا بين البشر، ولكن ليس بالجنس أو اللون أو اللسان، بل على أساس الكمالات النفسية والأخلاق الطيبة، والعمل الصالح القائم على الإيمان بالله، فالطبيعة البشرية واحدة، حتى قال رسول الله: ((مَن بطَّأ به عمله لم يُسرع به نسبه))؛ رواه مسلم، وقال أيضًا: ((ليس منا مَن قاتَل على عصبية، وليس منَّا مَن مات على عصبية))؛ رواه أبو داود، وفي الصحيحين: ((الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))، فقيمة الإنسان بما يُحسن كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
والنصوص في ذلك كثيرة يصعب حصرها، سواء من السنَّة العملية أو القولية، ويكفي في هذا مشهد صلاة الجماعة بين يدي الله تعالى دون تمييز طبقي، بل وقوفهم في الصف حسب أسبقية الحضور والتمكُّن من الحفظ.
وكذلك مشهد الحج؛ فيقف الجميع مجرَّدين عن كل مظهر من مظاهر التفرقة التي كان الناس على أساسها يفرِّقون بين قبيلة وقبيلة.
وفي الختام: تأملي كيف قدم النبي بلالًا الحبشيَّ للأذان وفضَّله على غيره لنداوة صوته، وقال في حقِّ سلمان الفارسي: ((سلمان منا أهل البيت)).
وأيضًا فإن رسول الله أنه صلى الله عليه وسلَّم ولَّى زيد بن حارثة قيادة الجيش، ثم ابنَه أسامة، وفي جندهما كان خيار المسلمين من العرب، وزيد كان رقيقًا ثم أعتقه النبي وزوَّجه من زينب القرشية التي صارت بعد ذلك من أمَّهات المؤمنين.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: “والله لو كان سالم مولى أبي حُذَيفة حيًّا ما جعلتُها شورى؛ أي: لأسند الخلافة إليه، وسالم كان مولى لأبي حُذَيفة، وأمر أن يتولى الصلاة بالناس صُهيب الرومي، وكان صهيب عبدًا أُسِرَ في بلاد الروم ثم بيع في بلاد العرب، وتزوَّج بلال من أخت عبدالرحمن بن عوف وهى قرشيَّة.
هذا؛ وأحب أن أختم كلامي بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، وقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وفي خطبة أيام التشريق: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى))؛ رواه الإمام أحمد.
وفقك وألهمك رشدك ووقاك شر نفسك،، والله أعلم.
Source link