يملأ الشارع ركام وغبار بينما يقوم حفار بهدم مبنى قديم. مارة وسكان سابقون يتابعون المعدة وهي تهدم البناء، ومن بينهم الساكن السابق إبراهيم أوزايدن (30 عاماً)، واقفاً يشاهد الهدم بارتياح، لأن المسؤولين وصفوا وضع المبنى بأنه غير آمن.
أصيب أوزايدن وأسرته بصدمة عندما علموا أن البلدية اعتبرت المبنى غير مؤهل للسكن. وقال لـ”أسوشيتد برس” وهو يتابع هدم مسكنه السابق: “قررنا بناء منزل خاص بنا، بدلاً من العيش في منزل ضعيف البناء. سنتخذ احتياطاتنا الخاصة”.
أصبحت الحفارات التي تهدم المباني مشهداً يومياً منذ ستة أشهر، عندما ضرب زلزال مدمر بقوة 7.8 درجات ولاية قهرمان مرعش و10 ولايات أخرى في جنوب تركيا صباح يوم 6 فبراير. ولقي ما يزيد على 50000 شخص حتفهم، وشرد مئات الآلاف ولجأوا للسكنى في خيام وغيرها من المساكن المؤقتة.
تقدر منظمة العمل الدولية أن نحو 658 ألف شخص تعطلوا عن العمل منذ ذلك الحين. أما بالنسبة للخسائر المادية فتضرر ما يقرب من 300 ألف مبنى، وتعين إنقاذ الناجين، وإزالة الأنقاض، وهدم مبان كانت على وشك الانهيار.
إلا أن عمليات الهدم الأخيرة في إسطنبول، أكبر مدن تركيا، تجري بعيداً عن المناطق التي ضربها الزلزال. فهدم منزل أوزايدن مثلاً جاء في إطار منع تكرار مثل هذه المشاهد المروعة مستقبلاً.
كانت أسرة أوزايدن هم السكان الوحيدين بالمبنى، وكانوا يمتلكون كذلك متجراً في الطابق الأرضي. قامت الأسرة بنقل متجرها وتشييد منزل جديد قوي البناء في موقع آخر، لكن منزلهم الجديد هذا يمثل استثناء في مدينة تتعرض فيها مئات الآلاف من المباني للخطر، إذ تقع إسطنبول على خط صدع رئيسي. وفي محاولة لمنع الأضرار الناجمة عن أي زلزال في المستقبل تسابق كل من الحكومة المركزية والإدارات المحلية الزمن لإزالة آثار زلزال فبراير، ومنع تأثير كوارث مشابهة مستقبلاً.
إلا أن هذه المساعي الجيدة لا تخلو من منافسات وخلافات سياسية، إذ لم تتفق سلطات بلدية إسطنبول الخاضعة لسيطرة المعارضة والحكومة المركزية في أنقرة على العدد الدقيق للمباني المعرضة للانهيار في حال حدوث زلزال، لكنهما تتفقان أن العدد يقدر بمئات الآلاف.
بعد كارثة فبراير قررت بلدية إسطنبول برئاسة أكرم إمام أوغلو، المعارض البارز للرئيس رجب طيب أردوغان، هدم 318 مبنى يقطنها أكثر من 10 آلاف شخص.
وقال بوغرا غوكشي، المسؤول ببلدية إسطنبول الذي يشرف على أعمال الهدم: “نحن نحدد المباني المعرضة للانهيار ونقوم بتقوية المباني الأخرى، وذلك لتقليل أي خسائر محتملة في الأرواح”.
خلال حملته لإعادة انتخابه تعهد أردوغان ببناء 319 ألف منزل جديد خلال عام واحد. كما حضر العديد من الفعاليات لإقناع الناخبين أنه وحده القادر على إعادة الحياة والنشاط الاقتصادي إلى سابق عهدهما.
مشاريع سكنية جديدة تمولها الحكومة في اسطنبول
ويقول غوكشي: “من السهل قول: نحن نبني هذا العدد من الأمتار المربعة فوق تل، أو: سيتم بناء 5000 مسكن في مكان ما، ولكن إذا كنت لا تقلل من المخاطر التي تتعرض لها المباني القائمة في المدينة، لا يكون كل ذلك سوى توسع حضري”.
ويجادل خبراء ومنتقدون لأردوغان بأن الحجم الهائل للدمار الذي وقع في فبراير كان بسبب ضعف تطبيق القوانين وسط طفرة بناء ساعدت على دفع النمو الاقتصادي.
وأطلقت أنقرة عدة برامج تهدف إلى فحص المباني المتضررة داخل وخارج 11 ولاية ضربها الزلزال. وفي الوقت نفسه قدمت مساعدات مالية للضحايا، وفرصة إعادة توطين في مشروعات سكنية عامة شيدتها إدارة تطوير الإسكان في تركيا.
ورغم الوعود الكثيرة التي أطلقها كل من الحزب الحاكم والمعارضة في الفترة التي سبقت انتخابات مايو، فإن المتضررين من الزلزال يطالبون بتسريع الإجراءات.
ويقول المحامي محمد علي غوموس، من ولاية هاتاي، إحدى أكثر الولايات التي ضربها الزلزال تضرراً، لـ”أسوشيتد برس” إن الناس بدأوا يفقدون الأمل، وإنه لا توجد مؤشرات على إعادة الإعمار في هاتاي، كما أن حالة الملاجئ المؤقتة في أنطاكيا، الأكثر اكتظاظاً بالسكان في هاتاي، تتدهور يوماً بعد يوم.
إذ يعيش الناس في خيام وحاويات شحن معدنية في ظل أجواء شديدة الحرارة تصل إلى 42 درجة مئوية دون مكيفات هواء، ويتعين عليهم كذلك التعامل مع الذباب والثعابين وغيرها وهم يعيشون في العراء، وفق غوموس.
ومن المخاطر الأخرى أن أنقاض المباني المنهارة يتم إلقاؤها في الأراضي الزراعية والشواطئ، بل وخارج المخيمات التي يقيم فيها الناجون.
مبان متضررة في انطاكيا
وعن ذلك يقول غوموس: “يقول الجميع: نجونا من الزلزال. لكنهم سيصابون بالسرطان في غضون ما بين 5 إلى 10 سنوات بسبب مادة الأسبستوس، وهو جزء مما يتم رفعه من تحت الأنقاض”.
وبينما يتعامل سكان هاتاي مع هذه المخاطر البيئية لايزال مستقبلهم غامضاً. ويتابع غوموس: “تم الإدلاء بتصريحات قبل الانتخابات، ولكن بعد ذلك توقفنا عن سماع أي شيء”، زاعماً أن الحكومة لم تلتزم بتوفير منازل جديدة للضحايا، أو حتى بتقوية منازلهم الحالية. ويضيف: “بعد ستة أشهر من الكارثة يجب أن يجري الحديث عن مساكن مبنية حديثاً، وليس عن صفوف الناس الذين ينتظرون المياه” في ملاجئهم المؤقتة.
وفي هذا السياق، غادر بسطامي جوسكونر هاتاي متوجهاً إلى ولاية إزمير بسبب انقطاع الكهرباء ونقص المياه. وقال لـ”أسوشيتد برس”: “مياه الصنبور ليست صالحة للشرب، ويستخدمها الناس فقط للاستحمام، والأنابيب تنفجر، وتنقطع الكهرباء مرتين أو ثلاث مرات يومياً”.
وأجبر ضحايا الزلزال على التعامل مع تبعات الكارثة، وأسوأ أزمة تكلفة معيشة منذ عقود، وانتخابات شديدة الاستقطاب. ولن تتاح لهم سوى استراحة قصيرة لأن انتخابات بلدية شديدة التنافس ستجرى في مارس 2024.
كان من بين استراتيجيات حملة أردوغان التركيز على توفير المساكن والمساعدات في مناطق الزلزال. وكان دعمه للضحايا أحد العوامل التي مكنت حزب أردوغان من الاستمرار في السلطة في معظم الولايات التي ضربها الزلزال، رغم اتهامه بالمسؤولية عن الدمار بسبب تراخي تطبيق قوانين البناء.
ومنذ سنوات يحذر الخبير ناجي غورور، الجيولوجي وعضو أكاديمية العلوم، من زلزال محتمل في اسطنبول وولايات أخرى. وقال لـ”أسوشيتد برس”: “الخطوات التي لم يتم اتخاذها تفوق بكثير تلك التي تم اتخاذها”، مضيفاً أن اسطنبول ليست مستعدة لأي زلزال بالحالة الراهنة للمباني وقوانين البناء.
ووصف غورور التربة في المناطق المتضررة بأنها تجعل من الصعب على مثل هذه المباني البقاء سليمة أثناء الزلازل.
يذكر أن الزلزال وقع في منطقة نشطة زلزالياً تعرف باسم منطقة صدع شرق الأناضول، والذي تسبب في حدوث زلازل مدمرة في السابق، مثل الزلزال الذي بلغت قوته 7.4 درجات قرب اسطنبول عام 1999، وراح ضحيته نحو 18 ألف شخص.
وعلّق غورور قائلاً: “كان بإمكاننا إعداد تركيا بأكملها للزلزال، وليس فقط اسطنبول، إذا كنا قد بدأنا العمل مع الوزارة لجعل الولايات المعرضة للخطر مقاومة للزلازل، وإذا كنا قد نأينا بأنفسنا عن السياسة، وإذا لم نترك وضع السياسات لأهواء الإدارات الجديدة، وإذا وضعت ميزانية جيدة، وكان هناك وتصميم وإصرار”.
واختتم حديثه قائلاً: “ليس لدي شك في النوايا الحسنة لدى الحكومة، ولكن إذا كنت ستقوم بشيء فعليك أن تقوم به بشكل سليم. يجب عدم التسرع في هذه الأمور. فبدلاً من الإسراع بإنشاء مبان دائمة كان على الحكومة التركيز على الحفاظ على المساكن المؤقتة مع إجراء دراسات سليمة لتشييد مبان دائمة وفق مبادئ علمية”.
Source link