أمور لا تنافي الصبر – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة

من الأمور التي لا تنافي الصبر: الحزن ودمع العين والشكوى إلى الله تعالى لرفع البلاء.

1- الحزن ودمع العين:

قال تعالى عن يعقوب – عليه السلام -: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]؛ قال قتادة رحمه الله: كظيم من الحزن، فلم يقل إلا خيرًا.

 

وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم شفقًا على فراق الأحبة، ففي الحديث الذى أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه، قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين[1]– وكان ظئرًا[2]لإبراهيم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه[3]، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان[4]، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله[5]؟ فقال: «يا بن عوف إنها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى[6]، فقال: «إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

 

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه نفسه: فقلت: يا رسول الله، تبكي أو لم تنهَ عن البكاء؟ وزاد فيه: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان، قال: إنما هذا رحمة، ومَن لا يرحَم لا يُرحم» ؛ (فتح الباري لابن حجر:3174).

 

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هذا الحديث يفسِّر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبينُ شيء وقع في هذا المعنى، وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه، ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الإخبار عن الحزن وإن كان الكتمان أولى، وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ولده، مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما: صغره، والثاني: نزاعه، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق، وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله، ليظهر الفرق؛ (المصدر السابق).

 

وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله[7]فقال: قد قضي؟، قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال: « ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا[8] –وأشار إلى لسانه– أو يرحم[9]، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه[10]»، وأخرج البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب فيه بالعصا[11]، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب.

 

 

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه، ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرَّر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر؛ (فتح الباري:3/ 175).

 

 

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قصة لصبي لإحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم لرسول ابنته:  «ارجع إليها فأخبرها: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمُرْها فلتصبر ولتحتسب»، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقسمت عليه أن يحضر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأسامة معهم، وحينما رفع الصبي للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في النزع، فاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء».

 

 

وأخرج البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: شهدنا بنتًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان.

 

 

2- ومن الأمور التي لا تنافي الصبر: الشكوى إلى الله تعالى لرفع البلاء:

عرف بعض أهل العلم الصبر بأنه ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله؛ لأن الله تعالى أثنى على أيوب عليه السلام بالصبر بقوله:  {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [سورة ص: 44]، مع دعائه في دفع الضر عنه بقوله:  {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83].

 

 

فعلم أن العبد إذا دعا الله تعالى في كشف الضر عنه لا يقدح في صبره ولا ينافيه.

 

وقال تعالى مخبرًا عن يعقوب عليه السلام:  {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، وقال يعقوب أيضًا:  {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ولا ينافي الصبر أيضًا إخبار المخلوق بحاله، كإخبار المريض الطبيب بحاله، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، إذا كان ذلك للاستعانة بإرشاده أو معاونته على زوال الضر.


[1] القين: الحداد، ويطلق على كل صانع، يقال: قان الشيء: إذا أصلحه. (فتح الباري لابن حجر: 3/ 173).

[2] ظئرًا: مرضعًا، وأطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر: من ظأرت الناقة: إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأطلق ذلك على زوجها، لأنه يشاركها في تربيته غالبًا، وإبراهيم: ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فتح الباري لابن حجر: 3/ 174).

[3] يجود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله؛ (فتح الباري لابن حجر:3/ 174).

[4] تذرفان: يجري دمعها، (فتح الباري لابن حجر: 3/ 171).

[5] وأنت يا رسول الله: أي الناس لا يصبرون على المصيبة وأنت تفعل كفعلهم، كأنه تعجب لذلك منه مع عهده منه أنه يحث على الصبر وينهى عن الجزع، فأجابه بقوله: إنها رحمة؛ أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة القلب على الولد لا ما توهمت من الجزع، (فتح الباري لابن حجر: 3/ 174).

[6] ثم أتبعها بأخرى: قيل: أتبع الدمعة بدمعة أخرى، وقيل: أتبع الكلمة الأولى المجملة وهي قوله: (إنها رحمة) بكلمة أخرى مفصلة وهي قوله: (إن العين تدمع)؛ (فتح الباري لابن حجر: 3/ 174).

[7] في غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. (فتح الباري لابن حجر:3/ 175)

[8] ولكن يعذب بهذا: أي إن قال سوءًا. (المصدر السابق)

[9] أو يرحم: أي إن قال خيرًا. (المصدر السابق).

[10] يعذب ببكاء أهله عليه: البكاء المحرم على الميت هو النوح، والندب بما ليس فيه، والبكاء المقرون بهما أو بأحدهما، (شرح النووي على صحيح مسلم6/ 480) (وانظر فتح الباري لابن حجر:3/ 153-160).

[11] أي يضرب في النواح على الميت بالعصا.

_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ ندا أبو أحمد


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الشدة والفرح – علي بن عبد العزيز الشبل

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *