منذ حوالي ساعة
خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ العِلْمَ في هذا الحَيِّ مِنَ الأنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكانَ أَوَّلُ مَن لَقِينَا أَبَا اليَسَرِ صَاحِبَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ
«خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ العِلْمَ في هذا الحَيِّ مِنَ الأنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكانَ أَوَّلُ مَن لَقِينَا أَبَا اليَسَرِ صَاحِبَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَمعهُ غُلَامٌ له، معهُ ضِمَامَةٌ مِن صُحُفٍ، وعلَى أَبِي اليَسَرِ بُرْدَةٌ وَمعافِرِيٌّ، وعلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمعافِرِيٌّ، فَقالَ له أَبِي: يا عَمِّ، إنِّي أَرَى في وَجْهِكَ سَفْعَةً مِن غَضَبٍ، قالَ: أَجَلْ؛ كانَ لي علَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الحَرَامِيِّ مَالٌ، فأتَيْتُ أَهْلَهُ، فَسَلَّمْتُ، فَقُلتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قالوا: لَا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ له جَفْرٌ، فَقُلتُ له: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلتُ: اخْرُجْ إلَيَّ؛ فقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ، فَقُلتُ: ما حَمَلَكَ علَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قالَ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ، ثُمَّ لا أَكْذِبُكَ؛ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فأكْذِبَكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَكُنْتُ وَاللَّهِ مُعْسِرًا. قالَ: قُلتُ: آللَّهِ؟ قالَ: اللهِ، قُلتُ: آللَّهِ؟ قالَ: اللهِ، قُلتُ: آللَّهِ؟ قالَ: اللهِ، قالَ: فأتَى بصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بيَدِهِ، فَقالَ: إنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وإلَّا أَنْتَ في حِلٍّ، فأشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ -وَوَضَعَ إصْبَعَيْهِ علَى عَيْنَيْهِ- وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هذا -وَأَشَارَ إلى مَنَاطِ قَلْبِهِ- رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَهو يقولُ: مَن أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عنْه، أَظَلَّهُ اللَّهُ في ظِلِّهِ. » [الصفحة أو الرقم: 3006 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] ]
الشرح:
حَرَصَ الشَّرعُ على إقامةِ المَودَّةِ والإخاءِ والتَّكافُلِ بيْن المسْلِمين، وبيَّنَ الأجْرَ العظيمَ لِمَن فرَّجَ الكُرباتِ، أو أقرَضَ القَرْضَ الحَسنَ، أو أنْظَرَ المُعسِرَ لوقْتِ يَسارِه.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي التَّابعيُّ عُبادَةُ بنُ الوَلِيدِ بنِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ أنَّه خَرَج هو وأبُوه الوليد في طَلَبِ العِلم «في هذا الحَيِّ مِن الأنصارِ» وهُم أهلُ المدينةِ الَّذين اسْتَقبَلوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندَ هِجرتِه إليها وناصَرُوه، «قبلَ أن يَهلِكوا»، أي: يَذهَبوا مِن هذه الدُّنيا مَوْتًا، أو يُقتَلوا في الحروبِ. «فكان أوَّلُ مَن لَقِينَا أبا اليَسَرِ صاحِبَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، وهو كَعْبُ بنُ عَمْرٍو، شَهِد العَقَبَةَ وبَدْرًا رَضيَ اللهُ عنه، وكان معه غُلامٌ له، والمرادُ به العبدُ المملوكُ، «معه ضِمَامَةٌ»، أي: رِزْمَةٌ يُضَمُّ بعضُها إلى بعضٍ مَربوطةً بالإبرةِ، «مِن صُحُفٍ» وهي الأوراقُ والكُتبِ، «وعلى أَبِي اليَسَرِ بُرْدَةٌ»، وهو كِساءٌ مُربَّعٌ، «ومَعَافِرِيٌّ» وهو نَوْع مِن الثِّياب يُعمَل بقريةٍ تسمَّى: مَعَافِرَ، «وعلى غُلامِه بُرْدَةٌ ومَعَافِرِيٌّ» والمقصودُ مِن هذا الكلامِ التَّنبيهُ على أنَّ أبا اليَسَرِ رَضيَ اللهُ عنه كان يَلبَسُ ما يَلبَسُه غُلامُه وخادمُه، وفَعَل ذلك عمَلًا بقولهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ألْبِسوهم ممَّا تَلْبَسون»، كما في تَمامِ الرِّوايةِ عندَ مُسلمٍ، فقال له الوليدُ بنُ عُبادةَ: «يا عَمِّ، إنِّي أَرَى في وجهِك سَفْعَةً»، أي: علامةً أو تَغيُّرًا، «مِن غَضَبٍ»، فما سَببُها؟ فأجابه: «أَجَلْ، كان لي على فُلانِ بنِ فُلانٍ الحَرَامِيِّ» نِسبةً إلى بَنِى حَرَامٍ «مالٌ» مِن دَينٍ «فأتَيْتُ أهلَه» أي: بَيْتَه الَّذي هو فيه، فسلَّمْتُ عليهم وسَألْتُ عنه: هلْ هو في الدَّارِ؟ فقالوا: لا، ليْس هاهنا، «فخَرَج عليَّ ابنٌ له جَفْرٌ» وهو الَّذِى قارَب البُلوغَ، وقِيل: هو الَّذِى قَوِيَ على الأكلِ، وقِيل: ابنُ خَمْسِ سِنينَ، فسَألَه عن أبيهِ، فقال له: «سَمِع صوتَك فدَخَل أَرِيكَةَ أُمِّي» وهو سَرِيرٌ مُزَيَّنٌ مُرتفِع يكون في قُبَّةٍ أو بيتٍ، والحاصلُ أنَّه اخْتَفى تحْتَ أرِيكةِ زَوجتِه وسَريرِها؛ لئلَّا تَقَعَ مُواجَهتُه لأبي اليَسَرِ، فقال أبو اليَسَرِ له: «اخرُجْ إليَّ، فقد عَلِمْتُ أين أنتَ» يُخبِرُه أنَّه عَرَف بوُجودِه، وأنَّه مُختبِئٌ منه، فخَرَج له، فقال له: «ما حَمَلك على أنِ اخْتَبَأْتَ منِّي؟ قال: أنا واللهِ أُحدِّثُك» أي: أُخبِرُكَ خبَرًا صادقًا في بَيان سَببِ اخْتِبائي منك «ثُمَّ لا أَكْذِبُك» ولا أُخبِرُكَ الكذبَ في شَأنِ قَضاءِ دَينِكَ بالوعدِ لكَ في قَضائِه؛ وذلك أنَّه خَشِيَ أنَّه يَلجَأَ إلى الكذبِ والخُلفِ في وَعدِه إنْ حَدَّد له مَوعدًا للقضاءِ، فلا يَستطيعُ أنْ يُوفِيَه، «وكُنتَ صاحِبَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ» وأنتَ بهذه الصُّحبةِ أرفَعُ مِن أنْ يَكذِبَ في مُواجَهتِكَ أحدٌ، «وكنتُ أنا واللهِ مُعْسِرًا» أي: لا أقْدِرُ على سَدادِ الدَّينِ، ثمَّ قال أبو اليَسَرِ للرَّجلِ المَدينِ: «آللهِ؟» يَستحْلِفُه أنَّه صادقٌ في عُذرِه عن سَدادِ دَينِه، فقال المَدِينُ: «اللهِ»، فصَدَّقَه في قَسَمِه هذا، وكرَّر القسَمَ مِن الجِهتينِ لمُبالَغةِ التَّأكيدِ، ثمَّ أتى أبو اليَسَرِ بِصَحِيفَتِه مِن دَفترِه الَّتي كَتَب فيه دُيونَه وآجالَها، فمَحا دَينَ هذا الرَّجلِ الَّذي ادَّعى الإعسارَ، وأخْبَرَه أبو اليَسَرِ أنَّه إنْ تَيسَّرَ له السَّدادُ، فلْيَقْضِ دَينِه، وإنْ لم يَجِدْ ما يَقْضي به الدَّينَ، فإنَّه في حِلٍّ وبَراءةٍ مِن قَضاءِ الدِّينِ، ثمَّ قال أبو اليَسرِ لِعُبادةَ وأبيه: فأَشْهَدُ أنِّي قدْ أبصَرْتُ بعَينيَّ هاتَيْن -ووَضَع إِصْبَعَيْه على عينَيْه- وسَمِعْتُ بأُذُنَيَّ هاتَيْن، ووَعَاه قَلبِي هذا، أي: حَفِظه «وأشارَ إلى مَنَاطِ» وهُو عِرقٌ مُعلَّقٌ بالقَلبِ، وكلُّ هذا لِتَأكيدِ صِدقِ حَديثِه وقوَّةِ حِفظِه له، فحَدَّث عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قولَه: «مَن أنْظَرَ مُعسِرًا»، أي: أَمْهَلَ وأجَّلَ له في مُدَّةِ سَدادِ دَيْنِه، ويسَّرَ ولم يَشُقَّ عليه، «أو وَضَع عنه»، أي: حَطَّ وتَرَك دَيْنَه كلَّه أو بعضَه، «أَظَلَّه اللهُ في ظِلِّه» أي: يَتنعَّمُ بِظِلِّ اللهِ عزَّ وجلَّ في ذلكَ اليومِ الَّذي تَدْنو فيه الشَّمسُ مِن رُؤوسِ العِبادِ، ويَشتَدُّ عليهم حَرُّها، فلا يَجِد أحَدٌ ظِلًّا إلَّا مَن أظَلَّه اللهُ في ظِلِّه.
وفي الحديثِ: فضلُ مَن أَنْظَرَ مُعسِرًا أو وَضَع دَيْنَه.
وفيه: الحَثُّ على طلبِ العِلم.
الدرر السنية
Source link