الوصية بالأشهر العربية – سعيد عبد العظيم

 
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
ومن والاه.

أما بعد:
فغربة الأشهر العربية عند المسلمين هي من مظاهر غربة الإسلام وسط أهله
وبنيه؛ فقلما تجد من يحصيها ويعرفها، أو تعرّف على وظائف أيامها
وأحكامها. وبينما تجد الجميع يعرف شهر مارس وإبريل، تلمس الجهالة
المطبقة بشهر ذي القعدة وشهر ذي الحجة. ولا شك أنَّ الجهل بالأشهر
العربية، وشيوع استخدام الأشهر التي تعتبرها العجم والروم والقبط قد
أوقع المسلمين في كثير من المخالفات الشرعية؛ حيث أطلّت البدع برأسها،
وهجر الناس الكثير من الطاعات والقربات بسبب ذلك، لذا كان لابد من
القيام وبحقه نصحًا وبيانًا {ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى
الْقُلُوبِ}
[سورة الحج: 32].

وقد أُمر نبيّ الله موسى أن يُذكّر بني إسرائيل بأيام الله وما ارتبط
بها من أحكام وعظات وعبر قال سبحانه: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ}
[سورة إبراهيم: 5].

ولنا فيه أسوة حسنة وقدوة طيبة {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
[الأنعام: 90].

والوصية بالأشهر العربية هي من الوصية بتقوى الله تعالى التي أمر بها
الأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ
اتَّقُواْ اللّهَ}
[النساء: 131].

وهذه الأشهر هي على التوالي: “المحرم، صفر، ربيع الأول، ربيع الثاني،
جمادى الأولى، جمادى الثانية، رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو
الحجة”. قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ
يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ}
[سورة التوبة:
36].

قال القرطبي: “هذه الآية تدل على
أنَّ الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور
والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم
والقبط، وإن لم تزد على اثنى عشر شهرًا؛ لأنها مختلفة الأعداد منها ما
يزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص. وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين، وإن
كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في
النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج” اهـ.

والشهر العربي يثبت برؤية الهلال أو إكمال عدة الشهر السابق ثلاثين
يومًا لحديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم
فأكملوا عدة شعبان ثلاثين»
[رواه البخاري].

وقد ثبت العمل بالهلال وترتب الأحكام عليه بقوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ
هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}
[البقرة: 189]فأخبر سبحانه أنها مواقيت للناس، وهذا عام في جميع أمورهم، وخصّ الحج
بالذكر تمييزًا له، ولأنَّ الحج تشهده الملائكة وغيرهم، ولأنه يكون في
آخر شهور الحول فيكون عَلَمًا على الحول، كما أنَّ الهلال عَلَم على
الشهر. أما الشمس فلم يعلق لنا بها حساب شهر ولا سنة وإنما علّق ذلك
بالهلال فالشهر هلالي بالاضطرار ويُسن عند رؤية الهلال أو العلم به أن
نقول: «اللهم أهله علينا باليمن
والإيمان، والسلامة و الإسلام، ربي وربك الله»
[صححه
الألباني].

واليوم أوله من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، أما الليل فمن غروب
الشمس إلى طلوع الفجر. ولم تكن الأمة تعمل في دخول الشهر وخروجه،
وتحديد الليل والنهار، أو في معرفة وقت الفجر وغيره بالحسابات
الفلكية. وقد وردت النصوص الشرعية بتحديد كل وقت على حدة، ومن ذلك ما
رواه مسلم: «لا يغرنكم من سحوركم آذان
بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتَّى يستطير هكذا»
،
ويستطير أي: ينتشر ضوؤه ويعترض في الأفق بخلاف المستطيل الذي يظهر ثم
يختفي.

وقد أوضح العلماء أنَّ العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو
الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال لا يصح التعويل فيها
على الحسابات، وهذا بالنص والإجماع، وعلى ذلك جرى العمل في قرون
الخيرية الثلاثة، وما ذهب إليه بعض المتأخرين من جواز العمل بالحساب
إذا غمَّ الهلال وفي حق نفس الحاسب فقط فهو قول شاذ مسبوق بالإجماع
على خلافه ولو صحَّ هذا القول – وهو غير صحيح – فيحمل على الإغمام
ويختص بالحاسب أي أنه لا يجوز تعميمه أو إطلاقه على عواهنه.

يقول ابن تيمية – رحمه الله –:
“والمعتمد على الحساب في الهلال، كما أنّه ضال في الشريعة مبتدع في
الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، فإنَّ العلماء بالهيئة يعرفون
أنَّ الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي.. ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس
الرؤية تنازعًا مضطربًا وأئمتهم كبطليموس لم يتكلموا في ذلك بحرف
لأنَّ ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي..” اهـ.

وقال الشيخ ابن باز – رحمه الله
: “…أما توحيد التقويم بالحساب فلا مانع أن يعتمد عليه في
المسائل الإدارية ونحوها، وللإيضاح والنصيحة وبراءة الذمة رأيت نشر
هذا البيان”، وكان قد أوضح – رحمه الله – أنَّ إثبات الأهلة والأحكام
الشرعية إنما يكون بالرؤية أو إكمال العدد. ومن هنا تُدرك خطأ تعليق
الأحكام الشرعية على الحساب وولادة القمر واختراع التلسكوب والقمر
الصناعي؛ فإنَّ مدار الأمر على ثبوت الرؤية بالعين البصرية. وقد اتفق
العلماء على أنَّ من رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في منامه فقال
له هذا اليوم هو أول يوم من رمضان أنه لا يعمل بهذه الرؤية المنامية
إذْ مدار الأمر على ما ذكرنا، والواجب علينا أن ندور مع إسلامنا حيث
دار، ولهذا ما زال العلماء يعدون من خرج عن ذلك إلى الأخذ بالحساب أو
الكتاب، كالجداول وحساب التقويم والتعديل… قد أدخل في الإسلام ما
ليس منه فيُقابلون هذه الأقوال بالإنكار الذي يُقابل به أهل البدع،
وحسبك أن تكتفي بما أغناك الله وبيّنه لك.

لقد تفنن الأعداء وأذنابهم في تنفير المسلمين من كل شيء له علاقة
بالدين كاللغة العربية والأشهر العربية، واستخدموا في ذلك كل أساليب
الغزو الفكري حتَّى وصل بنا الحال إلى أن أصبحنا نُضاهي الغرب في كل
شيء حتَّى في شهوره وما ارتبط بها من بدع وانحرافات. والثابت أنَّ
الشرائع قبلنا إنما علقت الأحكام بالأهلة وإنما بدل من بدل من أتباعهم
كما يفعله اليهود في جعل بعض الأعياد بالسنة الشمسية وكما تفعله
النصارى في صومها وأعيادها. وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور
وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب، فلا يجوز بعد ذلك أن
نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وإذا كان تبديل شهر عربي مكان آخر
يُذم به فاعله كمن بدّل صفر مكان رجب، ورجب مكان صفر، فكيف بمن ترك
العمل بالأشهر العربية جملة وتفصيلا واستبدلها بالأشهر الميلادية أو
الإفرنجية قال تعالى: {إِنَّمَا
النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ
يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ
مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ
سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ}
[التوبة: 37].

قال ابن كثير – رحمه الله –:
“هذا مما ذمَّ الله به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم
الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة وتحليلهم ما حرَّم
الله وتحريمهم ما أحل الله..” اهـ. والنسيء المذموم هو تأخيرهم شهر
المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات، وطلب الثأر على نحو ما ذكره
ابن إسحاق، أو هو تأخيرهم الحج عن وقته تحريًا منهم للسنة الشمسية.
وقد حجَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حجة الوداع بعد أن استدار
الزمان ووقعت حجته صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة، فقال في خطبته
المشهورة في الصحيحين وغيرهما: «إنَّ
الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر
شهرًا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، ومحرم،
ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»
[رواه البخاري]. يقول ابن تيمية – رحمه الله –: “ومن
عرف ما دخل على أهل الكتابين والصابئين والمجوس وغيرهم في أعيادهم
وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك من أمورهم من الاضطراب والحرج، وغير ذلك
من المفاسد، ازداد شكره على نعمة الإسلام مع اتفاقهم أنَّ الأنبياء لم
يشرعوا شيئًا من ذلك، وإنما دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة
الذين أدخلوا في ملتهم وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فلهذا
ذكرنا ما ذكرنا حفظًا لهذا الدين عن إدخال المفسدين، فإنَّ هذا مما
يخاف تغييره، فإنه قد كانت العرب في جاهليتها قد غيّرت ملة إبراهيم
بالنسيء الذي ابتدعته..” اهـ.

وقد اعتبر العلماء أنَّ من جملة مظاهر موالاة الكافرين التأريخ
بتاريخهم خصوصًا التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ
الميلادي، والذي هو عبارة عن ذكرى مولد المسيح عليه السلام، والذي
ابتدعوه من أنفسهم، وليس هو من دين المسيح، فاستعمال هذا التاريخ فيه
مشاركة في إحياء شعارهم وعيدهم، وإقامة الملة الحنيفية تقتضي مخالفة
المشركين وسائر أصناف الجحيم وعدم التشبه بهم لقول النَّبيّ صلى الله
عليه وسلم: «من تشبَّه بقوم فهو
منهم»
[رواه أبو داود وصححه الألباني]، وتشابه الظواهر قد يجر
إلى تشابه البواطن، ولذلك فالخطر عظيم في متابعتهم في أشهرهم
الإفرنجية وترك الأشهر العربية.

وقد ابتدأ عمر رضي الله عنه التاريخ الهجري وذلك باتفاق الصحابة رضوان
الله عليهم بالعام الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشهر
الله المحرم، وقد فعلوا ذلك مع معرفتهم بتواريخ الفرس والروم فخالفوها
عن عمد وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، وما لم يكن
يومئذ دينًا فليس باليوم دينًا، ولن يصلح آخـر هـذه الأمـة إلاَّ بما
صلح به أولها كما قال الإمام مالك –
رحمه الله –
: “وقد حذر العلماء من الرقي بالأعجمية وبالكلمات
الشركية والغير مفهومة، فقد تنطوي على مخالفات شرعية، ونفس الأمر
يُقال في الأشهر الإفرنجية؛ فشهر إبريل (نيسان) وهو الشهر الرابع من
السنة الإفرنجية كان يمثل مطلع الربيع وكان الرومان قد خصصوا اليوم
الأول من هذا الشهر لاحتفالات (فينوز) وهي آلهة الحب والجمال وملكة
المرح والضحك والسعادة عندهم، وأما الأقوام الساكسونية فكانت تحتفل في
هذا الشهر بعيد آلهتهم “إيستر” وهي إحدى آلهتهم القديمة وهو الإسم
الذي يُطلق عليه الآن (عيد الفصح) عند النصارى في اللغة الإنجليزية،
وقد اقترن بهذا الشهر ما يُسمى بكذبة إبريل!!.

وعامـة الأشهـر الميلادية لا تقـل في فسـاد معناها عن شهر إبريل، فمن
أراد اليوم أن يتكلم بشهر مارس وإبريل فليس له أن يتناسى شهر رجب وذي
القعدة وعليه أن يحذر المعاني الفاسدة الموجودة في الأشهر الإفرنجية
ويحذر منها الناس.

وقد سُئل الإمام أحمد فقيل له: “إنَّ للفرس أيامًا وشهورًا يسمونها
بأسماء لا تعرف، فكره ذلك أشد الكراهة، رويَ عن مجاهد أنه كان يكره أن
يُقال: آذارماه. وورد في الخبـر: “مـن يُحسـن أن يتكـلــم بالعربيــة
فلا يتكلم بالعجمية، فإنه يورث النفاق“، وكان عمر رضي الله عنه ينهى
عن الرطانة مطلقاً، ومنع الشافعي من التكلم بغير العربية. فالعمل
بالأشهر العربية مسئوليتنا جميعًا وعلى الدعاة بصفة أخص أن يشيعوا
مفاهيم الهدى في البلاد والعباد «ومن
دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله»
[رواه مسلم].

ولا يظن ظان أنَّ هذه الدعوة أشبه بالدعوة إلى القشور، فنحن لا نتبرم
بإيضاح سُنَّة مهملة حتَّى وإن كانت مستحبة فضلاً عن أن تكون بهذا
القدر الذي بينّاه، وفي الوقت ذاته ندرك أنَّ التهاون في المستحبات
يجر إلى التهاون في الواجبات، وشأن من علت همّته أن يهتم بالواجب
والمستحب في العلم والعمل والدعوة إلى الله ولا نقبل تقسيم الدين إلى
قشر ولباب {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}
[سورة
الحج: 32].

والقشرة لابد منها لحفظ الثمرة؛ إذْ التفاحة تفسد إذا نُزعت قشرتها.
فاحرص على اغتنام مواسم الفضل كالأشهر الحرم، وشهر شعبان ورمضان، ويوم
عرفة، وعاشوراء، وأيام العيدين والتشريق.. وتقرَّب فيها إلى الله بكل
طاعة يُحبها، واحذر من الابتداع كالاحتفال بالمولد النبوي، والهجرة
وذكرى الإسراء والمعراج.. وأحسن المسير إلى ربك، واعلم أنَّ السَّنَةَ
شجرة والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعة أوراقها، والأنفاس
ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة، فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية
فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد، فعند ذلك يتبيّن حلو
الثمار من مرها كما ذكر ابن القيم – رحمه الله – .

والكل مسافر في هذه الدار إلى ربه، ومدة سفرك عمرك، والأيام والليالي
مراحل، فالعاقل لا يزال مهتمًا بقطع المراحل فيما يقربه إلى الله ليجد
ما قدم مُحضرًا، فكن أنت ذلك الرجل، وإن وفقت وسُددت فقل: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
[سورة هود: 88].

وآخر دعوانا أن الحمد و رب العالمين.


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *