التكافل وقت الأزمات: مواقف وعظات

لقد حرص الإسلام على بناء المجتمع المسلم البناء القوي والمنيع الذي يستطيع به أن يواجه الكوارثَ والأزماتِ، والفتن والتحديات في هذه الحياة…

لقد حرص الإسلام على بناء المجتمع المسلم البناء القوي والمنيع الذي يستطيع به أن يواجه الكوارثَ والأزماتِ، والفتن والتحديات في هذه الحياة؛ ومَن تَتَبَّع آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وحياة المجتمع المسلم في القرون الأولى، يجد الكثير من النصوص الشرعية، والتوجيهات النبوية، والصور الرائعة، والممارسة العملية، التي تُبيِّن أهمية ذلك؛ من خلال الدعوة إلى التعاون والتكافل والتراحم والتعاطف، في كل وقت، وأما عند نزول المصائب، وحلول الكوارث، وحدوث الفتن والشدائد والأزمات، فإن الأمر يكون أوجب، والأجر يكون أعظم، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

 

وقد وصف الله المجتمع المسلم، وهو في أحْلَكِ الظروف، وأشد الأوقات، عندما هاجر المسلمون إلى المدينة، وقد تركوا أموالهم وأعمالهم وتجارتهم؛ بسبب قريش وأعمالها العدائية ضدهم؛ لكنهم وجدوا الأنصار في المدينة أهل إيمان وتقوى، وحب للخير، فقد قسموا كل ما يمتلكون بينهم وبين إخوانهم المهاجرين في هذا الوقت العصيب من حياتهم، فخفَّفُوا العبء عنهم والشدة، فخلَّد الله ذِكْرَهم، وشكر لهم ذلك العمل، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

 

وحَثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأرشد الأُمَّة إلى التعاوُن والتكافل والتراحُم والتعاطُف، يقول صلى الله عليه وسلم: «مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَنْ لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَنْ لا زَادَ له»، قالَ الراوي: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ ما ذَكَرَ، حتَّى رَأَيْنَا أنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ؛ (أخرجه مسلم) .

 

وأكَّد صلى الله عليه وسلم على علاقة المسلم بأخيه المسلم، فقال:  «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ (رواه البخاري).

 

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عز وجل؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:  «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلِأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ –يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ– شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبَهُ أَمْنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ عز وجل قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ» ؛ (المعجم الأوسط للطَّبرانيِّ).

 

ولا يكتفي صلى الله عليه وسلم بهذا؛ بل يُصوِّر لنا المجتمع الإسلامي الحقيقي المتكافل المتكاتف تصويرًا جميلًا غايةً في التماسُك، فيُشبِّهه بالجسد الواحد الذي يربط أعضاءه نسيجٌ واحِدٌ، فلا يُصاب فيه عُضْوٌ إلا أحسَّتْ به سائرُ الأعضاء وتأثَّرت بسبب النسيج الذي يربط بينها، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن النعمان بن بشير:  «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجَسَدِ بالسَّهَر والحُمَّى»، وقال صلى الله عليه وسلم:  «المؤمن للمؤمن كالبُنْيان يشدُّ بعضُه بعضًا» ؛ (رواه البخاري).

 

وبيَّن صلى الله عليه وسلم صورةً من صور المجتمع المسلم، وهم في أحْلَكِ الظروف، وأشد الأوقات، فأثنى صلى الله عليه وسلم على مَنْ يتَّصِفون بخُلُق التكافل، ويحققون مبدأه ويحرصون عليه، واعتبر نفسه منهم وهم منه، وهؤلاء هم الأشعريُّون؛ قوم أبي موسى الأشعري الصحابي الجليل رضي الله عنه، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى:  «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا -أي: فني زادُهم- فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»، هذا التكافل الاجتماعي الذي نادى به الإسلام وحثَّ أتباعَه عليه، وكان أوَّلَ العاملين به صلى الله عليه وسلم.

 

النبي القدوة صلى الله عليه وسلم: كان صلى الله عليه وسلم قدوةَ الناس في هذا، شاعرًا بمعاناة المسلمين، يعيشها معهم بكل جوارحه، ولم يكن محجوبًا عنهم متعاليًا عليهم، كان يجوع إذا جاعوا، ويأكل إذا أكلوا؛ بل قد يأكلون ولا يأكل صلى الله عليه وسلم؛ فكان أولَ العاملين به، فهو القائل صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه: «أنا أولى بكل مسلم من نفسه، من ترك مالًا فلِوَرثته، ومن ترك دَيْنًا أو ضياعًا فإليَّ وعليَّ» .

 

ولقد كانت خديجة تعي يوم رأت النبي يرتجف من الوحي، فاستحضرت نُبْلَ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب فقالت له: كلَّا! أبشِرْ، فوالله لا يُخزيك الله أبدًا، إنَّك لتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُق الحديث، وتحمِل الكَلَّ، وتكسِب المعدوم، وتَقْرِي الضَّيف، وتُعين على نوائب الحقِّ؛ (البخاري) هنا ذكَرت مواقف النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيلة في مساندة الناس عند الحاجة؛ فقد «كان صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، أجودَ بالخير من الريح المرسلة»؛ (متفقٌ عليه).

 

ويوم وقع سلمان الفارسي في العبودية أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتري نفسه من سيِّدِه، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أَعِينُوا أَخَاكُمْ»، وأعانه النبي صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدَّجاجة من ذهب، فوفى الله بها عنه؛ (رواه أحمد).

 

وجابر رضي الله عنه مرَّ بضائقة، أعيا جَمَله في الغزو وليس عنده مال يشتري غيرَه أحسن منه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتبيعُ جَمَلَكَ» ؟» قال: نعم، فاشتراه منه بأوقية، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبله، فأدَّى له ثمنه أوقية من ذهب وزاده قيراطًا، ثم قال له: «خُذْ جَمَلَك ولك ثمنه»؛ (متفقٌ عليه).

 

أيُّها الأحِبَّة، وهذه نماذج راقية من الصحابة ما هي إلا أمثلة تخرَّجت من مدرسة النبوَّة.

 

خديجةُ وحِصار الشِّعْب: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها مثالٌ في التعاوُن والتكافُل واسَتِ النبيَّ بمالِها في حصار الشِّعْب.. فقد حاصرَتْ قريشٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأهلَه من بني هاشم وبني المطلب بن عبد مناف في الشِّعْب الذي يُقال له: شِعْب بني هاشم بعد ستِّ سنين مِنْ مَبْعَثِه صلى الله عليه وسلم، فأقام ومعه جميع بني هاشم وبني المطلب في الشِّعْب ثلاث سنين؛ حتى أنفق رسول الله صلى الله عليه وسلم مالَه كلَّه، وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها مالَها؛ قال بعض المُفسِّرين: يروى أنَّه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهو مغموم، فقالت: ما لك؟ فقال: الزَّمان زمان قَحْط، فإنْ أنا بذلتُ المال ينفد مالك، فأستحي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله، فدعَتْ قريشًا وفيهم الصِّدِّيق، قال الصِّدِّيق: فأخرجَت دنانير حتى وضعَتها، وبلغت مبلغًا لم يقع بصري على مَنْ كان جالسًا قدَّامي، ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله، إن شاء فرَّقه، وإن شاء أمسَكَه؛ (تفسير الرازي).

 

أبو بكر يدُ خيرٍ لا تُكافأ!: لم يكن هذا شأن خديجة وحدها، فأتْقَى هذه الأمة بعد نبيِّها سيدُنا أبو بكر، شهد الله له في القرآن بالتُّقى والغنى والرضا، فقال: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 14 – 21].

 

أبو بكر تصدَّق في زمن عُسْر، واشترى عبيدًا وأعتَقَهم في وقتٍ صَعْب كان الإسلام فيه يبني النواة البشرية الأولى، وفي آخر عُمر النبي صلى الله عليه وسلم نال أبو بكر أعظم شهادة نالها صحابيٌّ، قال صلى الله عليه وسلم: «ما لِأَحدٍ عندَنَا يَدٌ إلَّا وقَدْ كافأناهُ، ما خلَا أبا بكرٍ، فإِنَّ لَهُ عِندنَا يَدًا يُكافِئُهُ اللهُ بِها يَومَ القيامَةِ، ومَا نفَعَنِي مَالُ أحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعِني مالُ أبي بِكْرٍ، ولَوْ كنتُ متخِذًا خَلِيلًا، لاتخذْتُ أبا بكرٍ خلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صاحبَكُمْ خليلُ اللهِ»؛ (الترمذي).

 

عثمانُ جيشِ العُسْرة!: ولمَّا كانت هذه الغزوة في زمان عُسْرَةٍ من الناس، وجدْبٍ وفَقْرٍ في البلاد، حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على البذل والإنفاق فيها، فقال صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري: «مَنْ جَهَّز جيش العسرة فله الجنة»، وكان صلى الله عليه وسلم يُجهِّز جيش العُسْرة إلى تبوك لمواجهة أعْتَى قوة في الأرض يومها؛ الروم الذين قرَّرُوا أن يقضوا على الرسالة بعد أن باتَتْ تُهدِّد مُلْكَهم؛ جمع النبي صلى الله عليه وسلم كُلَّ مَن استطاع أن يجمعه من الناس في جيش يواجه به الروم، وبدأ بتجهيزهم، وقلَّ المال، وبدأ الناس يَفِدون على النبي صلى الله عليه وسلم للقتال، والنبي لا يجد ما يحملهم عليه، كان يقول لهم: {لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] فتراهم: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92].

 

في هذه الأثناء جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بثلاث مائة بعير جهَّزها للغَزْو، وبعشرة آلاف دينار ذهبي، فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فصار النبي صلى الله عليه وسلم يُقلِّبها في حجره ويقول: «ما ضَرَّ عثمانَ ما عمِلَ بَعْدَ اليومِ مرتين»؛ (الترمذي).

 

وفي رواية: كان صلى الله عليه وسلم يقول لعثمان: «غفر الله لك ما قدَّمْتَ وما أخَّرت، وما أسررتَ وما أعلنت، وما كان منك وما هو كائن إلى يوم القيامة»؛ (ابن أبى شيبة).

 

يقول أبو سعيد الخُدْري: رأيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه يدعو لعثمان، فقال: «يا رب، عثمان بن عفان؛ رضيت عنه فارْضَ عنه»، فما زال يدعو رافعًا يديه حتى طلع الفجر؛ (ابن عساكر).

 

كل ذلك بموقف واحد، يوم جهَّز جيش العُسْرة – وضَعْ تحت كلمة العُسْرة خطًّا – لا يستوي من أنفق ساعة العسرة مع من أنفق ساعة الرخاء واليُسْر!

 

عثمانُ بئرِ رومة! ولعثمان غيرها وغيرها.. كموقفه يوم بئر رومة؛ حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فيها ماء يُستعذَب إلا بئر رومة، ولم يكن يشرب منها أحد إلا بثَمَنٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يشتريها، ويجعل دَلْوَه فيها مع دِلاء المسلمين بخير له منها في الجنة» ؟»، قال عثمان: فابتعتُها من صلب مالي بكذا وكذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: قد ابتعتُها بكذا وكذا، قال: «اجعلها سقايةً للمسلمين وأجْرُها لك»، فجعلها للغني والفقير وابن السبيل؛ (الترمذي، والنسائي).

 

عثمان يصدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم! ومرة كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأصاب الناس جهدٌ، يقول أبو مسعود البدري صاحب النبي: حتى رأيتُ الكآبة في وجه المسلمين والفرح في وجوه المنافقين، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا تغيب الشمس حتى يأتيكم الله برزق» فعَلِم عثمان أن الله ورسوله سيصدقان، فاشترى عثمان أربعين راحلة بما عليها من الطعام، فوجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسعة منها، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا؟» فقالوا: أهدى إليك عثمان، فعرف الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والكآبة في وجوه المنافقين، ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع يديه حتى رُؤي بياض إبطيه يدعو لعثمان دعاءً ما سمعتُه دعا لأحدٍ قبلَه ولا بعده: «اللهم أعْطِ عثمان، اللهم افعل بعثمان»؛ (الطبراني بإسناد حسن).

 

عام الرمادة: وفي خلافة عمر رضي الله عنه، أصابت الناس سنة مجدبة أهلكت الزرع والضرع، حتى دُعي عامها لشدة قحطه بعام الرمادة؛ أقبل الناس على عمر رضي الله عنه ذات صباح، وقالوا: يا خليفة رسول الله، إن السماء لم تمطر، وإن الأرض لم تنبت، وقد أشفى الناس على الهلاك، فما نصنع؟! فنظر إليهم سيدنا عمر رضي الله عنه بوجه عصَرَه الهَمُّ عَصْرًا وقال: اصبروا واحتسبوا، فإني أرجو ألا تُمْسُوا حتى يفرج الله عنكم؛ ولم يقف عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه مكتوفَ الأيدي، بل فعَّل عمر بن الخطاب مبدأ التكافل الاجتماعي بين المسلمين، فطلب المَدَد من الأقاليم التي لم تُصَبْ بالجفاف والفقر، وكتب إلى عُمَّاله في الأمصار طالبًا الإغاثة؛ وفي رسالته إلى عمرِو بنِ العاص والي مصر بعث إليه: يا غوثاه! يا غوثاه! أنت ومَنْ مَعَك ومَن قِبَلك وما أنت فيه، ونحن ما نحن فيه، فأرسل إليه عمرو بألف بعير تحمل الدقيق، وبعث في البحر بعشرين سفينة تحمل الدهن، وبعث إليه بخمسةِ آلاف كِساء، وأرسل إلى سعد بن أبي وقاص فأرسل له بثلاثةِ آلاف بعير تحمل الدقيق، وبعث إليه بثلاثةِ آلاف عباءة، وأرسل إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام وسعد بن أبي وقاص فأمَدُّوه بألفَي بعير تحمل الزاد من الأغذية والملابس، ونحوُ ذلك مما حصل من مواساة المسلمين لبعضهم؛ ليُحيي الشعور بين المسلمين بأنهم كالجسد الواحد.

 

عثمانُ عام الرمادة! لكن يبدو أن هذه سياسة عثمان.. فقد جاءت تجارة لعثمان بن عفان من الشام، ألف بعير مُحمَّلة بالتمر والزيت، والزبيب، فجاءه تُجَّار المدينة، وقالوا له: تبيعنا ونزيدك الدرهم درهمين؟ فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لهم: لقد بعتها بأكثر من هذا، فقالوا: نزيدك الدرهم بخمسة؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه: لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة، فقالوا له: فمَنْ الذي زادك؟ وليس في المدينة تُجَّار غيرنا؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه: لقد بِعْتُها لله ولرسوله، فهي لفقراء المسلمين؛ ثم أخذ عثمان بن عفان يُوزِّع بضاعته، فما بقي من فقراء المدينة واحد إلَّا أخذ ما يكفيه ويكفي أهله.

 

وهذا عبدالرحمن بن عوف كان رضي الله عنه من الصحابة ذوي الغِنى والثراء، وتسلَّطَ على ما رزقه الله به فأنفقه في سبيله؛ فقد تصدَّق ليوم العسرة بأربعة آلاف دينار وكان نصف ماله؛ وكلما زاد ماله زاد مقدار إنفاقه، فبعد أن تصدَّق بأربعة آلاف صار يتصدَّق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة، وكل ذلك في سبيل الله، وأعتَقَ في يومٍ واحدٍ ثلاثين عبدًا؛ (أسد الغابة؛ تاريخ دمشق).

 

وقدِمَت إحدى قوافله التجارية إلى المدينة فكان لأهلها يومئذٍ رجَّة، وإذ أدركت السيدة عائشة السبب قالت: أما إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كأنِّي بعبدالرحمن بن عوف على الصراط يميل مرة ويستقيم أخرى حتى يفلت ولم يكد، فبلغ ذلك عبدالرحمن بن عوف، فقال: هي وما عليها صَدَقة، وكانت خمسمائة راحلة أو سبعمائة؛ (تاريخ دمشق؛ سير أعلام النبلاء).

 

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد:

فمِمَّا لا شَكَّ فيهِ أنَّ التكافُلَ واجبُ الوقتِ، حيثُ يستقبلُ الناسُ في هذه الأيامِ شهرَ رمضانَ ضيفًا كريمًا يأتِي بالخيرِ واليُمْنِ والبركاتِ والنفحاتِ، ويُشمِّرُ الجميعُ فيه عن ساعدِ الجدِّ في الطاعةِ والاجتهادِ في العبادةِ، ومِن أوجب ما يُستقبلُ به هذا الشهرُ الفضيلُ التكافل المجتمعي، بإطعامِ الجائعِ، وكِساءِ العارِي، وإعانةِ المحتاجِ، فهذا أوان تكافل ودعم، هذا زمان تلمع فيه معادن الرجال بمواقف الأبطال؛ غدًا ستمضي الأيام ويزول الكَرْب، ومن أقبل وبادر غنم، ومن حاول أن يستدرك فيما بعد فإنه {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10].

 

في ساعة العسرة درهم يسبق ألفَ درهمٍ في غيرها.. يا أهل اليُسْر والنعمة، هذا السوق الذي رزقكم الله منه؛ اليوم يناديكم؛ هذا الأوان لتدعموا من جعلهم الله لكم سببًا في الرِّزْق زمنًا طويلًا؛ هذا الخير الذي امتنَّ الله به عليكم، اليوم يسألكم بعضَه لا كله، وما سألكم الله يومًا كلَّ أموالكم: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36، 37].

 

فأنفقوا واللهُ خيرُ ضامنٍ؛ هو يتكفَّل بالتعويض ويتعهَّد بالردِّ، ألا ترضى به كفيلًا؟ {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].

 

فأدُّوا للمحتاج حقَّه في أموالكم، أنفقوا، تصدَّقُوا، أقرضوا، عجِّلوا زكاة اموالكم، صِلُوا رَحِمَكُمْ بأموالكم، تفقَّدوا جيرانكم، أكرموا عُمَّالكم وأُجَراءكم، اسعوا على الأرملة والمسكين واليتيم، أطعموا الطعام، أعِفُّوا الفقير عن السؤال.

 

نعم، كلُّنا يعي أن الأيام القادمة ربما تحمل تحديات كبيرة؛ لكن الامتناع بهذه الأعذار شأن الصغار، وكيد النفوس المجبولة على حُبِّ المال حبًّا جمًّا، أمَّا الكِبار فيعرفون واجبهم، وينفقون ممَّا يُحِبُّون لا ممَّا يفضل عنهم، قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].

 

يعرفون مسؤوليتهم، ويؤدُّون واجِبَهم اليوم قبل الغد، فقد لا يعيشون لغَدٍ يقولون فيه لورثتهم: تصدَّقُوا {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]، أو يقول: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99، 100].

 

قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصدقة خير؛ أو أفضل؟ قال: «أن تصدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تأمل الغِنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا»؛ (متفق عليه).

 

أغنياء المسلمين يَعُون أنهم مع أموالهم في امتحان «وفتنةُ أُمَّتِي المال»؛ [الترمذي] {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]، فيتعبَّدون الله تعالى بأموالهم كما يتعبَّدونه بمحاريبهم، كما يتعبدونه بصلواتهم وصيامهم.

 

هذه أيام مباركة، وقد ذهب أهل الدثور بالأجور؛ و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54].

 

هذه أزمة استثنائية لعلَّنا لا نعيش بعدها، أو لا نعيش بعدها مثلها، فأرُوا الله من أنفسِكم خيرًا {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270]، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

 

أرُوا نبيَّكم في أُمَّتِه خيرًا؛ لعلكم تُحْشَرون تحت لوائه مع عثمان بن عفان وأبي بكر وخديجة وعبدالرحمن بن عوف، برهنوا لأنفسِكم على صحَّة إيمانكم «والصدقة برهان»؛ (مسلم) كما قال عليه الصلاة والسلام، برهان على الإيمان، على الإخلاص، على التخلُّص من طَمَع النفس وحبائل الشيطان.

 

كثِّرُوا حسناتكم بصدقتكم، وكفِّرُوا عن أخطائكم وذنوبكم، فإن «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار»؛ (الترمذي) و«صدقة السِّرِّ تطفئ غضب الربِّ»؛ (الطبراني)، «فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرةٍ»؛ (متفق عليه).

 

شمِّروا وتخطَّوا هذه العقبة: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 11 – 18].

 

يا أهل الخير، حصِّنُوا أنفسَكم بالزكاة، وداوُوا مَرْضاكم بالصَّدَقة، والتمسوا البركة بالإنفاق فما نقصَ مالٌ مِنْ صَدَقةٍ.

 

إذا تعسَّرت أسواقُكم، وتغيَّرت أرزاقُكم، فالتمسوا التيسير بالصدقة {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 – 7].

 

«مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»، فاللهم أعْطِ منفقًا خلفًا، اللهُمَّ أعْطِ منفقًا خلفًا، اللهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، اللهم اجعل لنا مِن كل هَمٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مَخْرجًا، ومِنْ كُلِّ عُسْرٍ يُسْرًا، ومِنْ كُلِّ بلاءٍ عافيةً، واحفظنا مِنْ شَرِّ الأشرار، وكَيْد الفُجَّار، ومِنْ شَرِّ طوارِقِ الليل والنهار، يا رب العالمين، وأقِمِ الصلاةَ.

________________________________________________________
الكاتب: الشيخ محمد عبدالتواب سويدان


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *