انتشر الإسلام بالدعوة بالتي هي أحسن؛ لأنَّ الدينَ ظاهر وباطن، فلو أسلم الظاهر بالسيف، هل يتبعه الباطن؟
مما أذاع رهبان الكنيسة “لوثة”[1]، تلقَّفها المستشرقون وأذنابهم من جماعة “هم”، وهي أنَّ الإسلام لولا العُنف الذي استعان به المسلمون ما وصل ما بين المشرقين، وإذ ذاك فمن تبع فمكرَهٌ لا مذعن، وهذه شبهة رام أهلُ الفكر أن يردوها ففركوها، وزادوا الطين بِلَّة حتى تصلب، وبَغوا ترقيع الرَّتْق فمزقوا الرقعة، فردوا أحاديثَ صحاحًا، وانصرفوا عن قواعد كالرواسي بدعوى: ليس من روح الإسلام… وهذا خطاب مثقف، لا فَقِه علمًا ولا قدَّر أهله، ومن حكى في غير فَنِّه ما يُسمعك غير السَّمِج، وجهله مع جرأته يصيرانه حاطبَ ليل وجارف سيل.
تحقيق:
الثبت يعلم أنَّ المسلمين بسطوا سُلطانهم بالسيف، ولا أدري قومًا سادوا بالمكاء والتصدية، ولا بالطبلة والمزمار، فالحربُ ظاهرةٌ إنسانية قديمة قِدَم بني آدم على ظهر البسيطة؛ من أجل ذلك كتب عليه أن الجروح قصاص والنفس بالنفس، ومنذ وُجد وهو يصارع ويحارب، فنشأت الحروب كعلاقة من العلاقات الاجتماعية الحتميَّة، فالاحتكاك والتجمع بين البشر يُوَلِّد صدامًا من نوع ما؛ إذ جُبِل الإنسان على غريزة التملك، التي تدعوه إلى التشبث بما يملكه، فهذه الغريزة تحفظ البقاء، فتتولد عنها غريزة المقاتلة، وفي أبسط صورها دفاعًا عن حقه في الاستمرار والحياة، وقد تتعقد نفسيَّة الإنسان، وتصبح حاجاته ومتطلباته مركبة، فلا يقاتل طالبًا للقوت أو دفاعًا عنه فقط، وإنَّما يقاتل طلبًا للحرية، ورفعًا للظلم واستردادًا للكرامة.
ويُفَصِّل العلامة ابن خَلدون هذه الحقيقة في مقدمته، فيقول: “اعلم أنَّ الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ بَرَأَها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصَّب لكل منها أهلُ عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان، إحداهما تطلب الانتقام، والأخرى تدافع، كانت الحرب، وهو أمر طبيعيٌّ في البشر، إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب لله ولدينه، وإمَّا غضب للملك وسعى في تَمهيده”، ولك أن تتدبر في شِعار “الديمقراطية”، أليس هذا هو النظام الذي لا نِدَّ له؟ ألم يقم بالدماء ويفرض بالقوة؟ ولكن المنافقين والفجارَ من بيننا إذا ذكر ما للغرب إذا هم يستبشرون، وإذا ذُكِّروا بما في الإسلام اشمأزت قلوبُهم؛ ذلك بأنهم قوم فاسقون…
ولمن يسمون بالمفكرين من المسلمين: إنْ كان ردُّكم على المستشرقين وأذنابهم بإسلام شعوب شرق أسيا بالدَّعوة السلميَّة، فلم يصلوا العشر، بل نسلم لكم جدلاً، فما دعواكم فيما تبقى مما فتح المسلمون عنوة؟ هل يُبنى على النادر، ويُعمم بالقلة؟ ما لكم كيف تحكمون؟!
أما الإسلام، فانتشر بالدعوة بالتي هي أحسن؛ لأنَّ الدينَ ظاهر وباطن، فلو أسلم الظاهر بالسيف، هل يتبعه الباطن؟ ندر ذلك، بل تحوَّل المستجيب من كافر إلى منافق، ونزل من درك الكُفر إلى أسفل سافلين، وتحول من عدوٍّ ظاهر إلى خطر باطن، ولو رُمنا جدلاً أن كل الشعوب على ذلك، فلِمَ لم تنقلب على عقبيها، وترجع لدين آبائها لما وهن سُلطان الخلافة؟
وشهد شاهد من أهلها:
يقول الكاتب توماس كارليل؛ حيث قال: “إنَّ اتِّهامه – أي سيدنا محمد، صلَّى الله عليه وسلَّم – بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته – سخف غير مفهوم؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفَه؛ ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مُصدِّقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها”[2].
ويقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون، وهو يتحدَّث عن سرِّ انتشار الإسلام في عهده – صلَّى الله عليه وسلَّم – وفي عصور الفتوحات من بعده: “قد أثبت التاريخ أنَّ الأديانَ لا تفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلامُ إذًا بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدَها، وبالدعوة وحدَها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًا، كالترك، والمغول، وبلغ القرآنُ من الانتشار في الهند – التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل – ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها، ولم يكن الإسلامُ أقلَّ انتشارًا في الصين، التي لم يفتح العرب أيَّ جزء منها قطُّ، وسترى في فصل آخر سُرعة الدعوة فيها، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونًا في الوقت الحاضر”[3].
معدلات انتشار الإسلام:
الذي يُؤكِّد حقيقة انتشار الإسلام بالدَّعوة لا بالسيف أنَّه في الجزيرة العربية وخارجها، كان وَفْقَ معدلات متناسبة تَمامًا من الناحيتين الكَمِّية والكيفيَّة، مع التطوُّر الطبيعي لحركة الدعوة الإسلامية، ولا يوجد في هذه المعدلات نِسَب غير طبيعية أو طفرات تدُلُّ على عكس هذه الحقيقة، والجدول الآتي يوضح هذه النسب:
السنوات بالهجري/ فارس/ العراق/ سورية/ مصر/ الأندلس.
نسبة المسلمين مع نهاية أول مائة عام / 5%/ 3%/ 2%/ 2%/أقل من 1%.
السنوات التي صارت النسبة فيها 25% من السكان/ 185هـ / 225/ 275/ 275/ 295.
السنوات التي صارت النسبة فيها 50% من السكان/ 235هـ / 280/ 330/ 330/ 355.
السنوات التي صارت النسبة فيها 75% من السكان/ 280هـ / 320/ 385/ 385/ 400.[4]
خصائص ذلك الانتشار:
♦ عدم إبادة الشعوب.
♦ ساد العبيدُ الأحرارَ في بلاد المسلمين، لما عَلَت هممهم وقويت عزائمهم.
♦ لم يضطهد المسلمون الشعوب، ويقيموا لهم محاكم التفتيش، كما فعل النصارى في المسلمين.
♦ ظل اليهود والنَّصارى والهندوك في بلادهم آمنين على أرواحهم وممتلكاتهم.
♦ تزاوجوا من أهل تلك البلاد، وبنوا أُسرًا وعائلاتٍ على مَرِّ التاريخ.
♦ ظل إقليم الحجاز – مصدر الدعوة الإسلامية – فقيرًا إلى عصر البترول، في الوقت الذي كانت الدُّول الاستعمارية تجلب خيرات البلاد المستعمرة إلى مراكزها[5].
التاريخ الحديث وجرائم النصارى:
يذكر المؤرِّخون أنَّ الذين قتلتهم (النصرانية) في انتشارها في أوروبا يتراوح عددُهم بين سبعة ملايين كحد أدنى، وخمسة عشر مليونًا كحد أعلى، وفظاعة هذا العدد تتضح عندما نتذكَّر أنَّ عدد سكان أوروبا آنذاك كان ضئيلاً.
♦ تقول ملكة إنجلترا (الكاثوليكية) في القرن السادس عشر في كتاب “بُناة الإنسانية”: بما أنَّ أرواحَ الكَفَرة سوف تُحرق في جهنم أبدًا، فليس هناك أكثر شرعية من تقليد الانتقام الإلهي بإحراقهم على الأرض.
وشارلمان سيد أوروبا فَرَض النصرانية بحد السَّيف، وتقول وثائقهم (التنصيرية): إنَّه قتل في يوم واحد 4500 وثنيًّا رفضوا التعميد والتحوُّل للنصرانية، وكانت المعاهدات بينه وبينهم تقضي بالتنصير، وإلا فالقتل هو البديل.
وبعد شارلمان سحبت الكنيسة بعضًا من طوائف الفرسان الصليبية من فلسطين – أيام الحروب الصليبية – ليساعدوا في تنصير شُعوب بحر البلطيق بحد السيف، ولقد استمرُّوا في العمل هناك طيلة 50 عامًا نظير ثَمن حدَّدته الكنيسة، وهو الاستيلاء على أراضي أولئك الوثنيين ثَمنًا لإعطائهم المسيحية[6].
والملك أولاف ذبح كلَّ مَن رفض اعتناق النصرانية في النرويج، وقطع أيديهم وأرجلَهم ونفاهم وشردهم، حتى انفردت المسيحية بالبلاد، وفي الجبل الأسود بالبلقان قاد الأسقف الحاكم دانيال بيتر وفتش عمليةَ ذبحِ غير النَّصارى ليلة عيد الميلاد، وفي الحبشة قضى الملك سيف أرعد (1342 – 1370م) بإعدام كلِّ مَن أبى الدخول في النصرانية أو نَفيهم من البلاد، ثم نَجد أن النصارى – وليس المسلمون – هم مَن أبادوا الهنود الحُمْر في أمريكا، واقتلعوا الشَّعب الفلسطيني من أرضه؛ لتسليمها إلى أعداء المسيح ومحمد – عليهما السلام – على السواء، وهم الذين أشعلوا الحروب العالميَّة، التي قُتِل في أولاها عَشَرَةُ ملايين، وفي أخراها حوالي 70 مليونًا[7].
وفي حصار بيت المقدس طلب أهلُه من قائد الحملة (طنكرد) الأمانَ على أنفسهم وأموالهم، فأعطاهم الأمان على أن يلجؤوا إلى المسجد الأقصى رافعين رايةَ الأمان، فامتلأ المسجدُ الأقصى بالشيوخ والأطفال والنِّساء، وذُبِحوا كالنعاج وسالت دماؤهم في المسجد، حتى ارتفعت الدِّماء إلى رُكبة الفارس، وعجت شوارعُنا بالجماجم المحطَّمة والأذرع والأرجل المقطعة والأجسام الممزقة، ويذكر المؤرخون أنَّ الذين قتلوا في داخل المسجد الأقصى سبعين ألفًا فقط، فأين وصايا المسيح التي يدَّعونها ويتشدَّقون بها، ولا ينكر مؤرخو الفرنج هذه الفضائحَ، التي تَمَّت باسم يسوع؟!
روى المؤرخ العلامة ابن الأثير عن دخول النَّصارى القدس في حروب الفرنجة: “دخل ملك الفرنج القدس نَهارَ يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وركب الناس السيف ولبث الفرنج في البَلدة أسبوعًا يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعةٌ من المسلمين بمحراب داود فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثةَ أيام، وقَتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم، وعُبَّادهم، وزُهَّادهم ممن فارق الأوطان، وجاور بذلك الموضع الشريف”[8].
ووصف ستيفان رنسيمان ما حدث في القدس يومها: “وفي الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم بابَ المسجد ثُلَّة من الصليبيين، فأجهزت على جميع اللاَّجئين إليه، وحينما توجه قائد القوة ريموند أجيل في الضُّحى لزيارة ساحة المعبد، أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدِّماء التي بلغت ركبتيه، وتركت مذبحة بيت المقدس أَثَرًا عميقًا في جميع العالم، وليس معروفًا بالضبط عددُ ضحاياها، غير أنَّها أدَّت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود، بل إنَّ كثيرًا من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث”[9].
ويذكر الكثيرون ما فعله ريتشارد قلب الأسد في حملة الفرنجة الثَّالثة[10]، عند احتلاله لعكَّا بأسرى المسلمين، فقد ذبح 2700 أسير من المسلمين، وذبح زوجاتِ وأطفالَ الأسرى إلى جوارهم، باسم يسوع!
لكنك إذا التفتَّ إلى المسلمين بعد 90 سنة من هذه المجزرة: فتح صلاحُ الدين بيتَ المقدس، فماذا فعل؟ لقد كان فيها ما يزيد على مائة ألف غربي بذل لهم الأمانَ على أنفسهم وأموالهم.
ومع ما فعله النصارى في القدس، فرحمةُ الإسلام ومسامحته حتى مع هؤلاء، ووصف المؤرخون ما حدث في اليوم الذي دخل فيه صلاحُ الدين الأيوبي – رضي الله عنه – إلى القدس فاتحًا،لم ينتقم أو يقتُل أو يذبح، بل اشتهر المسلمون الظافرون في الواقع بالاستقامة و”الإنسانية”، فبينما كان النَّصارى منذ عهد يَخوضون في دماء ضحاياهم المسلمين، لم تتعرض أيُّ دار من دور بيت المقدس للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مَكروه؛ إذ صار رجال الشرطة يطوفون بالشوارع والأبواب؛ تنفيذًا لأمر صلاح الدين؛ لمنع كل اعتداء يَحتمل وُقوعه على النصارى، وقد تأثر الملك العادل لمنظر بُؤس الأسرى، فطلب من أخيه صلاح الدين إطلاقَ سراح ألف أسير، فوهبهم له، فأطلق العادل سراحَهم على الفور، وأعلن صلاحُ الدين أنَّه سيطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز.
وأقبل نساء النَّصارى وقد امتلأت عيونُهن بالدُّموع، فسألْنَ صلاحَ الدين: أين يكون مصيرهن، بعد أنْ لَقِيَ أزواجُهن أو آباؤهن مصرعهم، أو وقعوا في الأَسْر؟ فأجاب صلاح الدين بأن وعد بإطلاقِ سراح كلِّ مَن في الأسر من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا، كلٌّ بحسب حالته، فكانت رحمته وعطفه نقيضَ أفعال مَن قاتل باسم الصليب، ولم يقع في جهاد المسلمين لأعدائهم وفتوحاتِهم مثل فظائع النصارى، فما كانوا يقتلون النِّساء، ولا الأطفال، ولا الدهماء من الناس، كما في وصية الخليفة الصدِّيق لأسامة بن زيد وجنده: “لا تخونوا، ولا تَغْدِروا، ولا تغلُّوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعزقوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شَجَرةً مُثمرة، ولا تذبَحوا شاةً، ولا بقرة، ولا بعيرًا، إلاَّ للأكل، وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسَهم في الصَّوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له”، فنبئونا من تاريخكم بأَثَارَة من هذا.
كيف انتشرت النصرانية:
إنَّ سبب انتشار النصرانية هو السيف[11]، الذي سَلَّطته على الشُّعوب المختلفة، وقد بدأ سيفُ القهر عندما تنصَّر الإمبراطور قسطنطين الوَثني في بدايات القرن الميلادي الرابع، وقال له بطريرك القسطنطينيَّة: “أعطني الدُّنيا وقد تطهَّرت من الملحدين، أمنحك نعيم الملكوت المقيم”، ويذكر القس مريك في كتابه “كشف الآثار” أنَّ قسطنطين أمر بقطع آذان اليهود، وأَمَر بإجلائهم إلى أقاليمَ مُختلفة.
وفي نهاية القرن الرابع وَضَع الإمبراطور تيودسيوس ستًّا وثلاثين مادة لمقاومة اليهودية والهرقطة.
وفي عام 379م أمر الإمبراطور فالنتيان الثاني بتنصير كلِّ رعايا الدولة الرُّومية، وقتل كل من لم يتنصر، واعترف طامس نيوتن بقتل أكثر من سبعين ألفًا.
ويقول غوستاف لوبون: “أكرهت مصر على انتحال النصرانيَّة، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط، الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي”.
وفي القرن الخامس كان القديسُ أوغسطين يقول بأنَّ عقاب الملحدين من علامات الرِّفق بهم حتى يخلصوا، وبَرَّر قسوتَه على الذين رفضوا النصرانية بما ذكرته التَّوراة عن فعل يسوع وحزقيال بأعداء بني إسرائيل الوثنيِّين، واستمر القتلُ والقهر لمن رفض النصرانيَّة في ممالك أوروبا المختلفة، ومنها مملكة إسبانيا؛ حيث خيَّروا الناس بين النصرانية أو السجن أو الجلاء من إسبانيا، وذكر القس مريك أنَّه قد خرج من إسبانيا ما لا يقل عن مائة وسبعين ألفًا، وفي القرن الثامن أعيد فرض النصرانيَّة في شروط السلام والأمان التي تعطى للقبائل المهزومة.
وقريبًا من ذلك العُنف كان في فرنسا، فقد فرض الملك شارلمان النصرانيَّة بحدِّ السيف على قوميات السكسون، وأباد الملك كنوت غير النصارى في الدَّانمارك، ومثله فعل الملك أولاف (995م) في النرويج، وجماعة من “إخوان السيف” في بروسيا، وأمر ملك روسيا فلاديمير (988م) بفرض النصرانيَّة على أتباع مملكته.
يقول المؤرخ بريفولت: إنَّ عددَ مَن قتلتهم المسيحية في انتشارها في أوروبا يتراوح بين 7 – 15 مليونًا، ويلفت الدكتور شلبي النظرَ إلى أن العدد هائل بالنسبة لعدد سكان أوروبا حينذاك.
ولما تعدَّدت الفِرَق النصرانية استباحَ كُلٌّ مِن هذه الفِرَق الأُخْرى، وساموا أتباعَها أَشَدَّ العذاب، فعندما رفض أقباطُ مصر قرارَ مجمع خليقدونية عذَّبَهم الرومان في الكنائس، واستمرَّت المعاناة سنين طويلة، وأُحْرِق أخو الأسقف الأكبر بنيامين حيًّا، ثُم رُمِي في البحر، بينما بَقِيَ الأسقف متواريًا لمدة سبع سنين، ولم يظهر إلاَّ بعد استيلاء المسلمين على مصر، ورحيل الرُّومان عنها، وكان جستيان الأول (ت565) قد قتل من القبط في الإسكندرية وحْدَها مائتي ألف قبطي.
وكتب ميخائيل بطريرك أنطاكية: “إنَّ ربَّ الانتقام استقدم من المناطق الجنوبية أبناء إسماعيل؛ لينقذنا بواسطتهم من أيدي الرُّومانيِّين، وإذ تكبدنا بعض الخسائر؛ لأن الكنائس التي انتزعت منا وأعطيت لأنصار مجمع خليقدونية بقيت لهم، إلاَّ أننا قد أصابنا القليلُ بتحرُّرنا من قسوة الرومان وشرورهم، ومن غضبهم وحفيظتهم علينا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سادت الطمأنينة بيننا”.
يقول غوستاف لوبون عن محاكم التفتيش: “يستحيل علينا أنْ نقرأَ دون أنْ ترتعد فَرائِصُنا من قصص التعذيب والاضطهاد، التي قام بها المسيحيُّون المنتصرون على المسلمين المنهزمين، فلقد عمدوهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش، التي أَحْرَقت منهم ما استطاعت من الجموع، واقترح القَسُّ بليدا قطعَ رؤوس كل العرب، دون أيِّ استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحيةَ بعد، بما في ذلك النساء والأطفال، وهكذا تَمَّ قتلُ أو طردُ ثلاثةِ ملايين عربي”.
وقريبًا من هذه المذابح جَرَى بين المذاهب النَّصرانيَّة، فقد أقام الكاثوليك مذابحَ كبيرةً للبروتستانت، منها مذبحة باريس (1572م)، وقُتِلَ فيها وإِثْرَها ألوفٌ عِدَّة وَسْطَ احتفاء البابا ومباركته، ومثله صنع البروتستانت بالكاثوليك في عهد الملكة أليزابات؛ حيث أصدرت بِحقِّهم قوانين جائرة، وأعدمت 104 من قِسِّيسي الكاثوليك، ومات تسعون آخرون بالسِّجن، وهدمت كنائس الكاثوليك وأخذت أموالهم.
وهذه العقيدة مأخوذة من الكتاب المقدَّس، فالأمر بقتل الأطفال في يسوع (6 :21، 22، 24، 27)، (8: 1، 2، 28، 29)، صمويل 15: 2 – 3، التثنية 2: 33، 34/ 3: 6، ومثلها كثير، حول الأمر بالإبادة الجماعية[12].
وفي العصر الحديث العسكري (الملاك الشِّرِّير) ينزل الأرضَ، فيقتل، ويرمل، ويثكل، وييتم باسم الربِّ يسوع، ثم يليه (الملاك الطَّيِّب) الراهب، الذي يأتي كأن لم يدرِ ما حصل، باسم الرب يسوع؛ لينقذ الهالك ويُطعم الجوعان ويأوي اللاَّجئ، أليس هذا مكرًا تواصَوا عليه؟! أليس الراهب محميًّا من المجرم؛ ليقوم بعملية الاصطياد؟! أليس القاتل هو مَن جَهَّز الطرائد للراهب؟! ماذا يُسمون هذا؟ إكراه، أم مكر بالليل والنَّهار؟!
ختامًا:
مما سبق نستطيع القولَ بأنَّ النصرانية يرتبطُ تاريخها بالسَّيف والقهر، الذي طال حتى أتباع النصرانيَّة، والاضطهاد النصراني يتميَّز بقسوة ووحشية طالت النِّساء والأطفال ودور العبادة، وقد جرت هذه الفظائع على يد الأباطرة بمباركة الكنيسة ورجالاتها، وكانت الكنيسة قد سنَّت القوانين التي تدفع لمثل هذه المظالم، وتأمُر بقتل المخالفين[13]، ومن ذلك أنَّ البابا إينوشنسيوس الثالث (ت1216م) يقول: “إنَّ هذه القصاصات على الأراتقة (الهراقطة)، نحن نأمر به كلَّ الملوك والحكام، ونلزمهم إياه تحت القصاصات الكنائسيَّة”، وفي مجمع توليدو في إسبانيا قرر أن لا يؤذن لأحد بتولِّي الملَّة إلا إذا حلف بأن “لا يترك غير كاثوليكي بها، وإن خالف، فليكن محرومًا قُدَّامَ الإله السرمدي، وليصر كالحطب للنار الأبدية”.
لقد قالوا: إنَّ الإسلام انتشر بالسيف، وهذا مجرد زيف واختلاق، وليس في تاريخ جهادنا ما نخجل منه، والمسلمون غلبوا بالقُوَّة وسادوا بالرحمة.
ونقول لهم: إذا كان بيتك من زجاج، فلا ترجم الناسَ بالحجارة[14].
ـــــــــــــ
[1] راجع: “صليب الدمار”، ليلى الهاشمي، ص(20-24).
[2] “حقائق الإسلام وأباطيل خصومه”، توماس كارليل، ص 166.
[3] “حضارة العرب”، غوستاف لوبون، ص (128، 129).
[4] “مناظرة بين الإسلام والنصرانية”، ج1، ص 226.
[5] المرجع نفسه.
[6] “مناظرة بين الإسلام والنصرانية”، ج1، ص 227.
[7] شبهات النصارى حول الإسلام: ج1، ص ( 198-200).
[8] الكامل: ابن الأثير. ج 8، ص(189-190).
[9] تاريخ الحروب الصليبية: ستيفان رنسيمان. ج1، ص(404-406).
[10] “ماهية الحروب الصليبية”، قاسم عبده قاسم، ص(121-122).
[11] وذي عقيدة راسخة في الفاتيكان؛ “الفاتيكان والإسلام”، زينب عبدالعزيز، ص17.
[12] “الحرب المقدسة”، علي الريس، ص(10-20).
[13] راجع كلَّ هذه الفضائع في “الحرب المقدسة”، علي الريس.
[14] “مناظرة بين الإسلام والنصرانية”، ج2 ، ص 17.
________________________________________________
الكاتب: د. بليل عبدالكريم
Source link