{ وما يعقلها إلا العالمون }

أتساءل دائمًا وأتعجَّب كيف يتشبَّث هؤلاء بما هم عليه من الباطل ويدافعون عنه، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وربما تجد بعضهم -إن لم يكن الكثير- في بعض مواسم الطاعات مَن يُصلِّي ويصوم ويحج ويقرأ القرآن وقد يتصدَّق!

في ظل انتشار الكثير من الفتن والشُّبَه الفاسدة التى لا يعلمُها إلا الله؛ من إعلام فاسد، وفتن مضلة من شهوات وشبهات وانفتاح على العالم ودخول كثير من العادات والتقاليد الغربية على العالم العربي الإسلامي، وعندما أرى بعض المواقف والمشاهد من بعضِ الشباب والآخرين في الخارج، مشاهد تكاد تكون خارجة عن الفطرة السوية التى خلقنا الله عز وجل عليها، ومع وضوح الأحكام الشرعية القطعية ترى خروجهم عنها ألبتة!

 

وسُرعان إذا حدَّثْتَ أحدهم تُذكِّره ببعض الأحكام التى ربما يجهلها البعض، وبما أوجب الله عز وجل عليه من الحقوق، ترى من الردود مما يجعلك تُحدِّق بعينيك من كيفية تسويغهم لموقفهم غير الشرعي من قلب الحقائق وتضليل الأحكام، والأعظم من ذلك التشبُّث لِما هُم عليه والتمسُّك به تحت مُسمَّى الحرية الشخصية!

 

وعلى الجانبِ الآخر إذا انتُقِد ذاتُ أحدهم ترى وجهَهُ يتمعَّر وينتفخ من الغضب، ويتهكَّمون ممن ينتقد مشاريعهم الشخصية، وإذا انتُهِكت محارم الله تراهم مخذلين يتلطَّفون ويتساهلون مع من يقدح في الشريعة وأحكامها!

 

أتساءل دائمًا وأتعجَّب كيف يتشبَّث هؤلاء بما هم عليه من الباطل ويدافعون عنه، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وربما تجد بعضهم -إن لم يكن الكثير- في بعض مواسم الطاعات مَن يُصلِّي ويصوم ويحج ويقرأ القرآن وقد يتصدَّق!

 

كيف تكون نفس الإنسان عنده وذاته أغلى من خالقه ومولاه؟!

 

ولا يستنكفون فحسب بالإعراض وذبِّ أنفسهم عن الحق؛ ولكنهم أيضًا يحملون الناس عنه والترغيب فيه، وهذا من أعظم البلوى أن يُزيَّن للإنسان الفساد حتى يرى أنه مصلح، ويزكي نفسه وهو في الحقيقة على باطل مع وضوح فساده للناس!

 

ولكن سُرْعان ما يُزال هذا العجب عندما نتأمل الآيات القرآنية وعندما نعلم الحقيقة التى انطوت عليها عقولهم وقلوبهم.

 

الحقيقة التى وصفها الله عز وجل في كتابه في صدر سورة البقرة من خلال آيات وصف المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 11 – 13].

 

يقول ابن القيم -رحمه الله – في تفسير هذه الآيات: فهذه مناظرة جرت بين المؤمنين والمنافقين، فقال لهم المؤمنون: {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} فأجابهم المنافقون بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فكأن المناظرة انقطعت بين الفريقين ومنع المنافقون ما ادَّعى عليهم أهل الإيمان من كونهم مفسدين، وأن ما نسبوهم إليه إنما هو صلاح لا فساد، فحكم العزيز الحكيم بين الفريقين بأن سجل على المنافقين أربعة سجالات:

أحدها: تكذيبهم.

 

والثاني: الإخبار بأنهم مفسدون.

 

والثالث: حصر الفساد فيهم بقوله: {هُمُ المُفْسِدُونَ} .

 

والرابع: وصفهم بغاية الجهل؛ وهو أنه لا شعور لهم ألبتة بكونهم مفسدين؛ انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.

 

والإفساد في الأرض كما عرفه العلماء هو إخراج الشيء الصالح عن صلاحه، والإصلاح أن تزيد الصالح صلاحًا.

 

وبالمثال يتضح المقال:

فالله عز وجل ينزل من السماء ماءً يخرج به النبات والزرع والنخيل والعنب، ومن نعمه التي توجب على الإنسان أن يستقبل تلك النعم الموجودة لكي تؤدي مهمتها؛ ومِن ثَمَّ يستعمل عقلهُ الذي وهبَهُ الله عز وجل له في الحفاظِ عليها، وإن استطاع أن يزيدها فليفعل -نعم هذه هي مهمتك كخليفة في الأرض- فإذا سعيت لتلف هذه الزروع والثمار على أي صفةٍ كانت إذًا لأصبحت مُفسِدًا، وإذا أبقيتها على سجيتها التى خلقها الله عليها لأبقيت الصالح على صلاحه، وإذا أتيت وحاولت أن تعمل على حراثتها والعناية بها وسقايتها لكي تنمو وتزداد وتحاول أن تجملها وتزرع منها المزيد وتنتفع بها وتنفع من حولك بجمالِها ومنافِعها إذًا لزدت الصالح صلاحًا، فأصبحت مصلحًا.

 

إذًا معنى هذا إن الإفساد أمر حسي ظاهر تُدرِكه الحواس، كما تُدرِك الإصلاح!

 

فتأمَّل كيف ومع وضوح أثر فسادهم المرئي لعباد الله في الأرض يقول الله عز وجل: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12]، الله عز وجل الذي لا يضع الكلام الحق إلا في مواضعه نفى عنهم الشعور!

 

يقول ابن القيم: وهذا يدل على استحكام الفساد في مداركه وطرق علمه.

 

وإذا تتبعنا آيات القرآن الكريم نجد أن المحل الذي وصفه الله بالإدراك هو القلب؛ لأنه يخاطب العقل، فالقلب هو محل العلم والعقل والفكر والإدراك.

 

كما يقول الله عز وجل في سورة الأعراف: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، ويقول إيضًا عز وجل في سورة العنكبوت: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

 

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سُئِل: بمَ أدركت العلم؟ قال: بلسانٍ سؤول، وقلبٍ عقول؛ لذلك نفي الله عز وجل عنهم العلم بعد ذلك عندما قال في الموضع الذي بعده: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13].

 

والسفه هو غاية الجهل، جهل الإنسان بمصالح نفسه وسعيها فيما يضُرُّها كما عرفها العلَّامة السعدي -رحمه الله- في تفسيره.

 

والجهل نوعان كما ذكَره ابن القيم في مدارج السالكين: الأول: عدم معرفة الحق، والثاني: عدم العمل بموجَب الحق ومُقْتَضاه.

 

فنفى الله عز وجل علمهم بسفههم وشعورهم بفسادهم، ولعل ذلك هو أكبر الأسباب في الطبع على القلوب، فالعلم الصحيح حصن حصين للقلب لحمايته من التعرض لمثل هذه الشبهات وتثبيت اليقين وعدم زعزعته فيعقِل به ما ينفعه ويسعى له، فإذا انتفى العلم دلَّ ذلك على أن أسوأ أحوال الإنسان عندما يُطبَع على قلبه لكثرة جَهله، فيُصبح لا يَفهم ولا يعقِل شيئًا.

 

حسنًا أتدري بِمن يريدون بالسفهاء!

 

إنهم الصحابة -قبَّحَهم الله- أصحاب الفطرة السليمة، ففي الحديث الصحيح، عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خيرُكم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، قال عمران: فما أدري، قال النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثًا، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن[1].

 

هذا في زمن النبوَّة فكيف بزماننا؟!

 

تشابهت قلوبهم، فالمنافق منافق في كل زمان وكل مكان، فالكل يدعي الإصلاح! ولكن يا الله متى يشعر المفسد بأنه مفسد!

 

عندما ننظر إلى حال الصحابة -رضوان الله عز وجل عليهم- نجد أن السمة المركزية المميزة لديهم على سائر أجيال المسلمين هو حجم انقيادهم واعتزازهم وخضوعهم لله عز وجل وتسليمهم للوحي ولنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي يبين لهم شريعة الله عز وجل.

 

وهذا ما نفتقده اليوم، وهو الشيء الذي غاب عند الكثير من المسلمين، وهذا هو واجب الداعية اليوم، وواجب على كل مسلم في أمة كانت خيريتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يبين شريعة الله ويسعى جاهدًا لغرس اليقين وتثبيته في الأنفس بلطف ولين أولًا، أو بشدة في النصيحة إن استلزم الأمر.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقطع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه التخشين).

 

وأن يصبر على ما يلاقيه من مشاق وصعوبات الدعوة في زمن أصبحت الأنفس فيه أغلى من تعظيم أحكام الله وشريعته، وليعلم أن أهم ما يجب العمل عليه في دعوته هو تطهير قلب المسلم الذي بين جنبيه وإصلاحه والعناية على تزكيته؛ لأن القلب أساس الأعمال، وأصل حركات البَدن، وهو لها بمثابة الملك لجنده، إذا طاب القلب طاب البدن، وإذا فسَد القلب فسَد البَدن.

 

فعن النعمان بن بشير قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «وأَهْوَى النُّعْمانُ بإصْبَعَيْهِ إلى أُذُنَيْهِ، إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ» [2].

 

هذا وإن كان فيه من صواب فمن الله وإن كان فيه غير ذلك فمن نفسي والشيطان، نسأل الله التوفيق والقبول في القول والعمل، وأن يجعلنا ممن أراد الله بهم خيرًا في هذه الأمة.

 


[1] الراوي: عمران بن الحصين، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري، الرقم: 6695، خلاصة حكم المحدث: [صحيح].

[2] الرواي: النعمان بن بشير، المحدث: مسلم، المصدر: صحيح مسلم، الرقم: 1599، خلاصة حكم المحدث: [صحيح]، التخريج: أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

_____________________________________________________
الكاتب: آية عادل


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

الشدة والفرح – علي بن عبد العزيز الشبل

«إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» جاءت هٰذِه الكلمة دلالةً عَلَىٰ ما في قلوب المؤمنين، من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *