منذ حوالي ساعة
إن الدين الإسلامي الذي نشرُف بالانتماء إليه قد جاء ليحقق مقاصدَ ساميةً جليلة كثيرة، ودعا إلى العمل على ذلك، من أبرز تلكم المقاصد:
عباد الله، إن الواحد منا لِمَّا ينظر ويتأمل في نصوص الكتاب والسنة، يلحظ أن الدين الإسلامي الذي نشرُف بالانتماء إليه قد جاء ليحقق مقاصدَ ساميةً جليلة كثيرة، ودعا إلى العمل على ذلك، من أبرز تلكم المقاصد:
الدعوة إلى العمل على تحقيق كل ما فيه النفع للمجتمع؛ لذا نراه دائمًا يدعو إلى التعاون وتقديم المصلحة العامة، والنفع المتعدي على النفع الذاتي، ويحذر من الأنانية والأَثَرَةِ والسلبية؛ يقول الله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184]، ويقول سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه، فليفعل»، وفي رواية: «فلينفعه»؛ (رواه مسلم) ، ويقول أيضًا: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولَأَنْ أمشيَ مع أخ لي في حاجة، أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني: مسجد المدينة – شهرًا»؛ (رواه الطبراني).
عباد الله، لقد أعلى دينُنا الحنيف من مكانة فعل الخير للغير، حتى قرن الأمر به بالأمر بعبادة الله جل وعلا وطاعته، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]؛ ففِعْلُ الخير للغير طريق للفلاح،وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوكٍ على الطريق فأخَّره، فشكر الله له، فغفر له»؛ (رواه مسلم) ، فقد يكون إزاحة غصن شوك صغيرًا في نظر العبد، لكنه عظيم في الأجر والفضل عند الله، لماذا؟ لأن فيه النفع المتعدي.
وقال عليه الصلاة والسلام أيضًا: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»؛ (رواه مسلم) ، ففي هذا الحديث نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلى من شأن الصدقة والعلم الذي يُنتفع به، لماذا؟ لأن فيهما النفع المتعدي وتحقيق الخير للمجتمع.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة، وفي يد أحدكم فسيلةٌ –النخلة الصغيرة– فإن استطاع ألَّا يقومَ حتى يغرسَها، فليغرسْها»، ففي هذا الحديث توجيه نبوي إلى السعي لإعمار الأرض؛ تقديمًا للنفع العام حتى وإن لم ينتفع صاحبها بثمرتها.
وفي هذا السياق يُحكى أنَّ ملِكًا خرج يومًا للصيد، فوجد شيخًا كبيرًا يغرس شجر الزيتون، فوقف عليه وقال له: “يا هذا، أنت شيخ هرِمٌ، والزيتون لا يثمر إلا بعد سنوات، فلِمَ تغرسه؟”، فقال: “أيها الملك، زرع لنا مَن قبلنا فأكلنا، فنحن نزرع لمن بعدنا فيأكل”.
عباد الله، إن فعل الخير وتحقيق النفع العام هو منهج الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 73].
افعلوا الخير عباد الله، ولا تنتظروا المقابل الدنيوي؛ فقد قال الله تعالى على لسان نبيه نوح: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29]، وقال على لسان نبيه هود: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود: 51].
عباد الله، ما أجمل أن يكون عندنا مجتمع ينفع بعضه بعضًا، ويسعى كل فرد من أفراده إلى نفع إخوانه! فإن كان أحدهم موظفًا في مجال التعليم، وجدتَه حريصًا على تلامذته وطلابه يعلمهم ويرشدهم، ويستفرغ وُسَعَه في النصح لهم، وإن كان موظفًا في مجال الخِدْمات الاجتماعية، وجدته منجزًا لأغراض الناس، متهلِّلًا في تعامله وناصحًا لهم، سعيدًا مبتسمًا لكل من يأتيه لحاجته، وإن كان يشتغل في مجال البيع والشراء، وجدته ناصحًا لأخيه، لا يغُشُّه ولا يغالي بالثمن، وإن كان فلَّاحًا، وجدته نشيطًا في عمله، مسهمًا في تنمية منطقته، لا يغش ولا يخادع، وإن كان صاحب صنعة، وجدته جادًّا فيها متقنًا لها، حريصًا على تجويد عمله، يراقب الله في ذلك، المهم في ذلك كله أن يكون دافعه وهمه نفعَ الناس وقضاء حوائجهم، وإن تقاضى على عمله أجرة…. وهكذا في جميع مجالات الحياة.
عباد الله، إن من أعظم ثمار النفع المتعدي: تقوية مبدأ الأُخوَّة والجسد الواحد الذي يشعر فيه الإنسان بفرح الآخرين، ويتألم فيه لألمهم، وهو أيضًا باب عظيم لنشر الود والمحبة والألفة بين أفراد المجتمع، كما أنه باب عظيم للقضاء على الأنانية والأثرة وحب الذات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه».
يُضاف إلى ذلك كله أن الواقع يشهد بأن من أعظم أسباب تقدم المجتمعات إعلاءَ قيمة النفع المتعدي، وتقديم المصالح العامة على الخاصة، ولقد قال الله جل وعلا: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197]، وقال أيضًا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
أما من لم تسمُ وترقَ نفسه لتنفع العباد، فلا أقلَّ من أن يكفَّ أذاه عنهم؛ فعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: دُلَّني على عمل إذا عمِل العبد به دخل الجنة، فقال: «يؤمن بالله»، قال: فقلت: يا رسول الله، إن مع الإيمان عملًا؟ قال: «يرضَخ –يعطي– مما رزقه الله»، قلت: وإن كان معدِمًا لا شيء له؟ قال: «يقول معروفًا بلسانه»، قال: قلت: فإن كان عيِّيًا – عاجزًا عن الكلام – لا يُبلِغ عنه لسانه؟ قال: «فيعين مغلوبًا»، قلت: فإن كان ضعيفًا لا قدرة له؟ قال: «فليصنعْ لأَخْرَقٍ» ؛ أي: من لا يحسن عمله))، قلت: وإن كان أخرق؟ قال: فالتفتَ إليَّ وقال: «ما تريد أن تَدَعَ في صاحبك شيئًا من الخير، فليَدَعِ الناسَ من أذاه»، فقلت: يا رسول الله، إن هذه كلمة تيسير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، ما من عبد يعمل بخَصلة منها، يريد بها ما عند الله، إلا أخذتْ بيده يوم القيامة، حتى تدخلَه الجنة»؛ (رواه ابن حبان).
يعطي مما رزقه الله، يقول معروفًا، يعين مغلوبًا، يساعد من لا يحسن عمله، يكف أذاه عن الناس، وفي حديث آخر بعدما ذكر له رسول الله بعض فضائل الأعمال، قال: قلت: يا رسول الله، أَرأيت إن ضعُفتُ عن بعض العمل؟ قال: «تكف شرَّك عن الناس، فإنها صدقةٌ منك على نفسك».
والسؤال الذي يُطرح هنا وبه أختم: ما بال أناسٍ لا يكفون أذاهم عن إخوانهم المسلمين؟
اللهم اجعلنا من أنفع عبادك للناس، وحبِّب إلينا الإيمان وزينْه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين يا رب العالمين.
_________________________________________________
الكاتب: د. لحسن العيماري
Source link