إن إفريقيا أمام عصر جديد ستدفع الكثير إذا استمرت في لَعِب دَوْر الضحية، واستمر الطامعون في النظر إليها على أنها غنيمة لمن يستطيع أخْذها.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.
يعتقد الكثيرون أن توافر الثروات في البلدان يؤدِّي حتمًا إلى رفاهية السكان وسعادتهم، ولكنَّ المُشاهَد أن الأمر ليس على إطلاقه، بل إن تمتُّع البلد بموقع إستراتيجي أو ثروات طبيعية أو حتى ثروات بشرية؛ قد تكون سببًا في جَلْب الكوارث والنكبات، وتَعْظُم المصيبة عندما تصبح البلدان الثرية محلّ تنافُس وتصارُع بين الأمم.
وهذا لا يحصل إلا في حالة انتشار الضعف والوهن في الشعوب المستهدفة، وعند استعراض أحداث التاريخ الحديث، ونعني به فترة الصعود الأوروبي، نلاحظ دخول العالم في مرحلة تنافس بين الأمم الأوروبية، وتسابقها على احتلال الأراضي البعيدة التي كانت مجهولة بالنسبة إليهم، وبدلًا من استنزاف القوة في الصراع في الشرق القريب في الشام ومصر والمغرب العربي؛ انطلقت الحملات البحرية الاستكشافية في مناطق رخوة، وكانت الوجهة إمَّا على امتداد السواحل الإفريقية وصولًا إلى بحر العرب وسواحل الهند، وإمَّا الوصول إلى بحر الصين.
ومن ناحية أخرى، كان الخيار الثاني جهة الغرب إلى العالم الجديد، وصولًا إلى الفلبين، وهي مرحلة تنافست فيها أُمم أوروبا، وتقاتلت فيما بينها، وبينما سبقت البرتغال وإسبانيا وهولندا الجميع؛ فقد لحقتها فرنسا وبريطانيا، وتزعمتا الدول الاستعمارية، وبقيت روسيا التي حُوصِرَت بحريًّا؛ فتمددت في شرق أوروبا ووسط آسيا، وأما ألمانيا وإيطاليا فقد وصلتا متأخرتين وحصلتا على القليل ولفترة محدودة.
وما يعنينا في ذلك أن الوجود الغربي في العالم هو وجود احتلاليّ استعماريّ متوحِّش؛ فقد تمَّت إبادة شعوب كاملة في أمريكا الشمالية وأستراليا، وتدمير حضارات مزدهرة مثل المايا والإنكا، مع محاولة طمس هوية البلدان المُستعمَرَة ومَحْو تاريخها، وكانت عمليات اختطاف واستعباد الأفارقة ونَقْلهم إلى العالم الجديد مترافقة مع إبادة السكان الأصليين؛ في مخطَّط متكامل وسياسة ثابتة ومتكررة، وبعد ذلك مع استقرار الكيانات أو المستوطنات الجديدة بدأت تتشكل خريطة إفريقيا عن طريق مؤتمرات تقاسُم المستعمرات ومناطق النفوذ، وتم التنفيذ بالغزو المباشر، أو الإغراق بالديون، ومِن ثَمَّ التحكُّم بها.
وبدأنا نسمع بالسودان الفرنسي، والصومال البريطاني والإيطالي، وأصبح هَمُّ المستعمرين تثبيتَ أقدامهم، وذلك بتشكيل طبقة محلية موالية ومرتبطة بالمستعمر دينيًّا وثقافيًّا ومصلحيًّا، وتكونت طبقة من العسكريين الذين خدموا في جيوش المستعمرين حول العالم، وخاضوا الحروب من أجلهم، وقُتِلَ مئات الألوف في مسارح الحرب في أوروبا وفيتنام، بل وحتى الدردنيل.
وبعد الحرب العالمية، ورفع شعار تصفية الاستعمار أيام الحرب الباردة؛ دخلت إفريقيا في مرحلة صراعات دموية دخلت فيها الدول الأوروبية بجيوشها واستخباراتها، بل وحتى شركاتها، وكانت حرب الجزائر قدوة لكل حركات التحرر على مستوى العالم وإفريقيا.
في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات دخلت إفريقيا في مرحلة الاستقلال الصوري؛ حيث خرج الاستعمار من الباب، ودخل من النافذة، وبذلك حُكِمَت بلدان إفريقيا المسلمة بمن أسماؤهم جوليوس نيريري، ولوبولد سنقور، ويعقوب قاوون، وأصبح التيار الفرانكفوني يتحكم في إدارة الدول التي كانت تحتلها فرنسا، ومثلها تيارات تغريبية في كل البلدان.
ومَن شذَّ عن هذه القاعدة من الزعماء تمَّت تصفيته مثل الزعيم النيجيري أحمدو بلو؛ الذي كان قتله بدايةً لمشروع تقسيم نيجيريا، الذي فشل جزئيًّا، ومثله مشروع تقسيم السودان، وتوالت النزاعات التي تُخْفي وراءها صراع القوى الكبرى.
وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي دخلت أمريكا على الخط، وتسللت إلى إفريقيا، وبدأ صراعٌ جديدٌ بين الفرنسيين والأنجلوساكسون، وانفجر الصراع في منطقة البحيرات، وشهدت بوروندي وراوندا والكونغو (زائير) عمليات إبادة عرقية وتهجيرًا ممنهجًا انتهى باستبدال الزعماء الناطقين بالفرنسية بمن يتكلمون بالإنجليزية.
وبدءًا من 1999م دخلت أمريكا لمنطقة النفوذ الفرنسي المهمة، وهي ما تُسمَّى منطقة الساحل، بدعوى محاربة الإرهاب الذي زرعوه، وتكونت قيادة أمريكية (أفريكوم)، وأقيمت قواعد في المنطقة، والأهم هو اختراق أمريكا لجيوش المنطقة بالتدريب والتسليح، وبالطبع والأهم عبر تكوين طبقة من العسكريين الموالين لها على حساب فرنسا، وبدأت سلسلة من الانقلابات بلغت أكثر من أحد عشر انقلابًا قام بها العسكر المُوالُون لأمريكا.
ومن الطبيعي أن تكون أمريكا ضد الوجود والمصالح الفرنسية، فمثلاً في النيجر يُلاحظ توتُّر فرنسي يقابله برود أمريكي؛ ففرنسا تغادر، وأمريكا باقية، تحاول إعادة ترتيب أوراقها بعد تعثر مشاريعها في شرق إفريقيا؛ ففشل انقلاب الاتفاق الإطاري في السودان، وانكشاف دور بعض دول الإيجاد، وتزعُّم كينيا وإثيوبيا محاولة إنجاح الانقلاب؛ أدخل دول المنطقة في ثقب أسود قد يعصف بالجميع؛ خاصةً أن الساحة لا تتحكم فيها أمريكا وأدواتها فقط، فممثل الأمم المتحدة في السودان الذي كان يرعى مشروع التغيير في السودان، ويضفي عليه غطاءً أمميًّا؛ تمَّ طرده من السودان، وأصبح الباب مفتوحًا للاعبين الجدد؛ فهناك الروس الذين دخلوا عسكريًّا مباشرةً، وعن طريق شركتهم الأمنية (فاجنر)، ولكنَّ الأهم أن الروس ليسوا وحدهم؛ فهم يعملون بتنسيق وتناغم مع كلٍّ من الصين وتركيا في الجانب السياسي والاقتصادي؛ فنقطة ضعف الفرنسيين القاتلة أنهم استغلوا ضعف وعمالة الزعماء الأفارقة في نَهْب ثروات البلدان بصورة فجَّة؛ فغاز الجزائر، وذهب مالي، ويورانيوم النيجر، كان يُؤخَذ لفرنسا بدون مقابل، نعم بدون مقابل؛ فمثلًا يورانيوم النيجر كانت النيجر تحصل على عشرة في المئة من العائدات، ولكن تم تعديل الاتفاق مؤخرًا من عقد استثمار إلى عقد تطوير واستكشاف، وبالتالي صارت حصة النيجر صفر.
بل إن الأمر الأشد غرابة أنَّ حصة النيجر لا تدخل خزينة الدولة، بل تُسلَّم للزعامات المحليَّة، ولْنَقُلْ مثل ذلك عن ذهب مالي، وكل ثروات المنطقة. من هنا كان إعلان بوركينا فاسو إلغاء اتفاقية المساعدة العسكرية مع فرنسا التي وُقِّعت بعيد الاستقلال (1961م) بمثابة الصدمة، تلاها طلب مغادرة القوات الفرنسية، وكذلك إلغاء اتفاقية «إلغاء الازدواج الضريبي» الذي كان قد وُقِّع عام 1965م، والذي يعني أن الشركات الفرنسية، والأفراد الفرنسيين العاملين في بوركينا فاسو، يدفعون الضرائب إلى فرنسا. وهذا يعني حرمان البلد الإفريقي من مدفوعات هذه الضرائب، وكذلك يَحرمها من الاطلاع على نشاطات الشركات والأفراد الفرنسيين داخل أراضيها.
ويبدو أن هذه الممارسات هي الشائعة في معادلة أساسها حماية النظام ونهب ثروات البلد، والذي تغير أن الزعيم لم يَعُد أسيرًا لجهة واحدة؛ فقد أصبح لديه عدة خيارات وعروض حماية، والتحالفات التي صنعها الغرب في شرق وغرب إفريقيا من الإيجاد والإيكواس والاتحاد الإفريقي ومجلس السلم والأمن الإفريقي…؛ كلها أصبحت عاجزة عن خدمة الأسياد السابقين؛ فالإيجاد تفكَّك واقتصر حضوره على دُوَل ذهبت بعيدًا في التهديد والوعيد (كينيا وإثيوبيا)، ولكنها مرشَّحة لتنشغل بنفسها؛ فإثيوبيا تشهد مرحلة صراع داخلي سريع في مناطق الأمهرا والتيجراي، وكذا كينيا تشهد احتجاجات قوى المعارضة.
وأما الإيكواس فبعد التهديد والمُهَل القريبة قبل التدخل العسكري في النيجر؛ فقد فُوجِئ بتَشكُّل تحالف عسكري مُعارِض للتدخل العسكري في النيجر، يتكوّن من مالي وبوركينا فاسو، بل وأصبح رئيس نيجيريا وحيدًا، وهناك مَن حرَّك الاحتجاجات في شمال نيجيريا ضد التدخل العسكري؛ مما اضطره للتراجع وإرسال وفد من علماء المسلمين في نيجيريا إلى النيجر، والذين تم استقبالهم بحفاوة.
وفي النهاية، إن إفريقيا أمام عصر جديد ستدفع الكثير إذا استمرت في لَعِب دَوْر الضحية، واستمر الطامعون في النظر إليها على أنها غنيمة لمن يستطيع أخْذها.
والحل من داخل القارة؛ فصراع الطامعين وتنافسهم يحمل في طيّاته الأمل بالخروج من مرحلة الاستعباد الطويلة إلى مرحلة استقلال حقيقي يشمل كل إفريقيا التي هي حاليًّا أضيع من الأيتام على موائد اللئام، والسر في تداعي الأمم على المنطقة هو الضعف الداخلي؛ فهناك حاجة ماسَّة للمخلصين الذين ينفخون في شعوبهم جذوة الأمل والعزة؛ فالشعوب المسحوقة التي يموت أفرادها جوعًا وعطشًا في الصحاري، وغرقًا في البحار في محاولة للهرب من الواقع الأليم الذي صنعه الاستعمار؛ يجب أن تدفع ثمن الحرية، وأن يتوقف المُؤهّلون عن الهرب؛ فالفرج قريب.
والمخرج واضح؛ لأن السبب جليٌّ وواضح؛ فقد بيَّنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما في حديث ثوبان -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُوشِكُ الأممُ أن تَداعى عليكم، كما تَداعى الأكَلةُ إلى قَصْعتِها، –فقال قائلٌ: ومن قِلَّةٍ نحن يومئذٍ؟- قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءُ السَّيلِ، ولينزِعَنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ» [1].
إنه حديث جامع يصف حال الأمة عندما تصل إلى مرحلة التداعي؛ فالسبب أساسه داخليّ، وحلُّه كذلك.
فنسأل الله أن يُبْرِم لهذه الأمة أمرًا رشدًا يعزّ فيه أهل طاعته.
[1] رواه أحمد وأبو داود ٤٢٩٧ واللفظ له، وقال الهيثمي في المجمع: إسناد أحمد جيد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود ٤٢٩٧.
Source link