قال تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} إقرار منه سبحانه بأن النوم يبدأ مِن هذا الوقت؛ حيث نهى عن الدخول فيه إلا بعد الاستئذان
قال تعالى في آية الاستئذان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الْآيَاتِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58]، فقوله: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} إقرار منه سبحانه بأن النوم يبدأ مِن هذا الوقت؛ حيث نهى عن الدخول فيه إلا بعد الاستئذان؛ لأنه وقت يكون فيه المرء متخفِّفًا من ملابسه استعدادًا للنوم، فكان من عادة العرب النوم في هذا الوقت، ولم يُنكر القرآن عليهم ذلك.
وكان هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن السهر بعد العشاء؛ فعن أبي برزة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها» [1]، وأيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جَدَبَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السمر بعد العشاء؛ يعنى: زجرنا، وفي رواية: بعد صلاة العتمة[2].
وقد رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم السهر بعد العِشاء في حالة الصلاة أو السفر أو في السهر على أمر من أمور المسلمين؛ فعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «لا سمر إلا لمُصلٍّ أو مسافر» ))[3]، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسمُر مع أبي بكر في الأمر من أُمور المسلمين وأنا معهما[4].
وبالنسبة للفائدة الصحية للنوم المبكر، تؤكد الباحثة الفرنسية نيريس دي أن عبارة: النوم المبكِّر والاستيقاظ المبكر يجعل الإنسان صحيحًا وغنيًّا وحكيمًا، وإن ساعة النوم قبل منتصف الليل تساوي ثلاث ساعات بعده – فيها بعض الحقيقة، ولقد تبيَّن أن 70% من نومنا العميق غير الحالم يحدث خلال الثلث الأول من الليل، وعندما نتجاوز النوم قبل منتصف الليل، فإننا نَفقِد كثيرًا من نومنا العابر غير الحالم.
أما ما ورد في قطع النوم والاستيقاظ بعد نصف الليل، فتدل عليه الآيات التي وردت في القيام والتهجد، مثل قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]، وقوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]، وغير ذلك من الآيات.
وقد ذُكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل نام ليله حتى أصبح، قال: (( «ذاك رجل بالَ الشيطان في أُذنيه» ))، أو قال: (( «في أُذنه» ))[5]، فذلك ذمٌّ وتوبيخ منه صلى الله عليه وسلم لمن لم يقطَع نومه بالقيام، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طرَقه وفاطمة فقال: (( «ألا تصلِّيان» ؟))، فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثَنا بعَثنا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر يَضرِب فخذه ويقول: (( «وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً» !))[6].
ومن الفوائد الصحية لهذا الاستيقاظ أن الإنسان الذي ينام ساعات طويلة على وتيرة واحدة يتعرَّض للإصابة بأمراض القلب بنسب عالية جدًّا، وتعليل هذه الظاهرة عِلميًّا أن شحوم الدم تترسَّب على جدران الشرايين الخاصة بالقلب بنسبة كبيرة إذا طالت ساعات النوم، مما يؤدي إلى إضعاف عمل هذه الشرايين وفقدها لمرونتها، ويحدث لها تصلب فلا تصلح لضخ كميات الدم المناسِبة لتغذية عضلة القلب، علاوة على أن نبضَ القلب يَبطؤ، ومع بطْء النبض يَبطؤ تدفُّق الدم في العروق، ولذلك نرى العجب العجاب أن الباحثين في هذا الأمر لا يَعرفون عن الإسلام شيئًا فيقدمون النصائح التي قدمها الإسلام من يقوم الإنسان من نومه بعد أربع أو خمس ساعات لإجراء بعض الحركات الرياضيَّة أو المشي لربع ساعة تقريبًا للحفاظ على مرونة الشرايين القلبيَّة ووقايتها من الترسبات الدهنية والإصابة بالذبحة الصدرية[7].
_____________________________________________
[1] رواه البخاري 771، ومسلم 647. [2] رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في سنن ابن ماجه 2435. [3] رواه أحمد، والترمذي، وقال الألباني: حسن صحيح، وله شاهد عن عائشة مرفوعًا بلفظ: ((لا سمر إلا لثلاثة: مُصلٍّ، أو مسافر، أو عروس))، وإسناده حسن؛ انظر: السلسلة الصحيحة 2435. [4] رواه الترمذي، وأحمد، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في الصحيحة 2781. [5] رواه البخاري 1144، ومسلم 774. [6] رواه البخاري 1127، ومسلم 775. [7] علي فؤاد مخيمر، مجلة التبيان، العدد السبعون: 38 – 39.
Source link