الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومن والاه، أمَّا بعدُ:
فمن تأمل كلام شيخ الإسلام في إثبات الكمال المطلق لله تعالى بالعقل، وتنزيهه عن صفات النقص في ذاته وصفاته وأفعاله:- ظهر له مراده، من أن هذا شيء مستقر في فطر بني آدم، وأن الشريعة جاءت موافقة للعقل الصريح والفطرة الصحيحة؛ فقال مجموع الفتاوى (3/ 87-88): “فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع من أنه سبحانه لا كفؤ له ولا سمي له، وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات، فيعلم قطعًا أنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة ولا السموات ولا الكواكب ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض ولا الآدميين، ولا أبدانهم ولا أنفسهم ولا غير ذلك، بل يعلم أن حقيقته عن مماثلات شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر؛ فإن الحقيقتين إذا تماثلتا: جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما وجب لها؛ فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذلك من الوجوب والفناء، فيكون الشيء الواحد واجبًا بنفسه غير واجب بنفسه، موجودًا معدومًا، وذلك جمع بين النقيضين، وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري أو يد كيدي ونحو ذلك تعالى الله عن قولهم علوا كبيرًا… إن كثيرا مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضًا، والقرآن يبين ما يستدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه؛ كما ذكر الله ذلك في غير موضع، فإنه سبحانه وتعالى: بين من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك:- ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه؛ كما بين أيضًا ما دل على نبوة أنبيائه؛ وما دل على المعاد وإمكانه، فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: – من جهة أن الشارع أخبر بها. ومن جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها، والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وهي أيضًا عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضًا”. اهـ. مختصرًا.
وقال أيضًا شارحًا لما قد يُشكل على بعض الناس: “مجموع الفتاوى” (6/ 71-74): “… أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية؛ بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه؛ فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وأن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك.
ودلالة القرآن على الأمور نوعان: أحدهما خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به.
والثاني: دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب، فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية؛ لأن الشرع دلّ عليها وأرشد إليها، وعقلية؛ لأنها تعلم صحتها بالعقل، ولا يقال: إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر.
وثبوت معنى الكمال قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى؛ فما في القرآن من إثبات الحمد له، وتفصيل محامده، وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه ونحو ذلك:- كله دال على هذا المعنى؛ وقد ثبت لفظ الكامل فيما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص: 1، 2]، أن الصَّمَدُ هو المستحق للكمال، وهو السيد الذي كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكم الذي قد كمل في حُكمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الشريف الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه وتعالى، وهذه صفة لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ ولا كمثله شيء، وهكذا سائر صفات الكمال، ولم يعلم أحد من الأمة نازع في هذا المعنى؛ بل هذا المعنى مستقر في فطر الناس؛ بل هم مفطورون عليه؛ فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق؛ فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطريًا ضروريًا في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها.
إلى أن قال (6/ 75): “والمقصود هنا: أن نبين أن ثبوت الكمال لله معلوم بالعقل، وأن نقيض ذلك منتف عنه؛ فإن الاعتماد في الإثبات والنفي على هذه الطريق مستقيم في العقل والشرع”.
وقال أيضًا: “مجموع الفتاوى” (6/ 348): “وذلك أن الذي علم بالعقل والسمع أنه يمتنع أن يكون الرب تعالى فقيرًا إلى خلقه؛ بل هو الغني عن العالمين، وقد علم أنه حي قيوم بنفسه، وأن نفسه المقدسة قائمة بنفسه وموجودة بذاته، وأنه أحد صمد غني بنفسه، ليس ثبوته وغناه مستفادًا من غيره، وإنما هو بنفسه لم يزل ولا يزال حقًا صمدًا قيومًا”.
ثم حكى ما قرره من دلالة العقل على كثير مما دلَّ عليه السمع، فقال في “مجموع الفتاوى”(3/ 99): “فإنه ليس في الأمم من أثبت قديمًا مماثلاً له في ذاته، سواء قال إنه يشاركه، أو قال: إنه لا فعل له؛ بل من شبّه به شيئًا من مخلوقاته فإنما يشبهه به في بعض الأمور، وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه؛ فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين، وعلم أيضًا بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد بينهما من قدر مشترك، كاتفاقهما في مسمى الوجود والقيام بالنفس والذات ونحو ذلك، فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض وإنه لا بد من إثبات خصائص الربوبية”
إذا تقرر هذا من صفات الله تعالى ما قد يعلم بالعقل، كما يعلم أنه عالم، وأنه قادر، وأنه حي،
أنه حي عليم قدير مريد، وكذلك السمع والبصر والكلام وكذلك الحب والرضا والغضب
علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل، لأنه ولو لم يكن موصوفا بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز، ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبَكَم.
والحاصل أن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته، كما أن إثبات صفات الكمال والحمد واجب له لذاته، وهو أظهر فى العقول والفطر،
فليس في العقول أبين ولا أجلى من معرفتها بكمال خالق هذا العالم، وتنزيهه عن العيوب والنقائص،، والله أعلم.
Source link