المساواةُ بالمفهوم الذي انتشرت به اليوم فلم تجلِبْ للمرأة غير الشقاء، ولم تَجْنِ من ورائه غير فِقدان الرجل لرجولته؛ لأنها فقدت أنوثتَها، ونحن نرى أمثلة كثيرة كانت بمثابة الفاتورة التي أصبحت المرأة مطالبة بسدادها نظيرَ تلك المساواة المزعومة
في الرموز والمسمَّيات القديمة والتي توارثتها الأجيالُ معانٍ لا بد وأن ننقِّب عنها، وألا نسلِّم بالرمز من الناحية الجمالية فقط، أو نظنه مبالغة، وإنما هي رموز وضَعها الأقدمون بفكرهم؛ لتكون اسمًا جامعًا لباقةٍ من الصفات، و”فارس الأحلام” من بينِ تلك المسمَّيات، فما أسماه الأقدمون بالفارس إلا لأنهم رأَوا المرأة تميلُ للفرسان، وهم لم يصنِّفوا ويحدِّدوا بدقة صفاتِ الفارس التي جذَبت المرأة، والتي إن وجدت بغيره استمالت قلبَها إليه، وقد نعزو ذلك لبساطة التفكير في العصور السابقة، وربما هم أبقوا على المسمَّى؛ لأن الفارس كان لا يزال حيًّا بينهم، فكان مثالاً يمكن للرجل أن يتعلمَ منه بطريقة مباشرة، ولكن اليوم لم يعُدْ هناك فرسان بالمعنى والصورة التي ورِثْناها من الأقدمين، فلم يعُدْ بيننا فارسُ السيف والدرع والفرس، ولكن بقيت لنا صفاتُ وأخلاقُ الفارس حيَّةً يحتذيها من يشاء.
والفارس قديمًا أو حديثًا ما هو إلا مجموعٌ لصفات حميدة، وإن كتبناها كمعادلة على نسَق المعادلات الكيميائية.
فيمكن أن نقول:
صبر + شجاعة + شهامة + اعتزاز بالنفس + ثقة + يقين + قوة + عدل + كفاح وتجربة = فارس
فإن غابت صورةُ الفارس التقليدية بقيت صفاتُه، فمن أين جاءت استحالة إيجاده في كل زمن وعصر؟!
إن كان مِن بين الرجال مَن هم أهلٌ لحمل صفات الفرسان، فمن حق البنات وقتَها أن يحلُمْنَ بالفرسان، وإن كان من حق البنات أن يحظَيْنَ بفرسان، فمن واجبِهن أن يكنَّ أميراتٍ بأخلاقهن، وما كانت روايات الطفولة والحكايات الموروثة إلا تجسيدًا لأخلاق الأميرة والفارس، ولكن أخَذها البعض على غير ذلك، وحملوها على غير محملِها، ويبدو أن متغيرات العصر الفكرية، والدعوات المتزايدة لتحرير المرأة ومساواتها بالرجل، كانت سببًا رئيسًا في ذلك، وقد عمَّقت المشكلة وأوجدتها من قبلُ ولم يكُنْ للمشكلة وجود من قبلها، فما كان يضير المرأة أن تستشعر الضعف وتنشُدَ الأمن والحماية في رجل يصبح هو فارسَها، وما كان الرجلُ يميل للدناءة، فيلهو بالمرأة الضعيفة التي تنشُدُ فيه الرجولة، وما كان ليسخَرَ منها، بل كانت المرأة أنثى بطبيعتها وفطرتها ونقائها، وكان الرجل رجلاً بأخلاقه ورجولتِه التي لا يتنازلُ عنها.
وهذا لا يعني تحجيم المرأة في المجتمع، وإنما يعني أن تكتسب المرأةُ من العلم والمعرفة ما شاءت، على أن تنشأَ في بيتِها على أنها أنثى، ولقد كانت صيانةُ الفتاة في بيت والدها ومن ثم زوجها إعزازًا وإكبارًا لها، لا تقييدًا، وإنما ألبستها الدعوات ما شانها، وأبدلتها في عقول الفتيات؛ لتصبح تقييدًا وإهمالاً وإقصاءً عن المجتمع والمشاركة والإسهام فيه، وفكرُ المرأة حرٌّ ما دام لم يخرُجْ بفطرتها عما خُلِقَتْ له وخُلِق لها.
ويقول مصطفى صادق الرافعي عن ضعف المرأة كلامًا عذبًا، إن وَعَتْه النساء ما اسْتَأْنَ مِن صفات الضعف الفطرية فيهن، وإن وعاها الرجل ما استشعر رجولتَه بالاستعلاء على المرأة وتتبّع سُبُلَ ضعفها ليعلوَها، فيقول في مقال بعنوان “تربية لؤلؤية” في كتاب “وحي القلم ج1”: “لم يخلُقِ اللهُ المرأةَ قوة عقل فتكون قوة إيجاب، ولكنه أبدعها قوة عاطفة لتكون قوة سلب؛ فهي بخصائصها، والرجلُ بخصائصه، والسلب بطبيعتِه متحجِّب صابر هادئ منتظر، ولكنه بذلك قانونٌ طبيعي تتمُّ به الطبيعة.
وينبغي أن يكون العلمُ قوةً لصفات المرأة لا ضعفًا، وزيادة لا نقصًا، فما يحتاج العالم إذا خرج صوتها في مشاكله أن يكون كصوت الرجل صيحة في معركة، بل تحتاج هذه المشاكلُ صوتًا رقيقًا مؤثرًا محبوبًا مجمعًا على طاعته، كصوت الأم في بيتها”، وما أراد الرافعي إلا أن يميز بين المرأة والرجل؛ فالقوةُ في أحدِهما تتمثل بصورة، وفي الآخَرِ بصورة أخرى، ولا تنتقص من قيمتِها في هذا أو ذاك، وهذا هو الاختلافُ المطلوب، ولن تكونَ أبدًا مساواة مطلَقة بين الرجل والمرأة؛ إذ هما في الأصل مختلفانِ، كمن يساوي بين الموز والتفاح، وما بينهما شَبَه إلا أنهما من الفاكهة؛ فحقوق المرأة تختلف عن حقوق الرجل، ولا يشتركانِ إلا في حقوق إنسانية عامة،
أما المساواةُ بالمفهوم الذي انتشرت به اليوم فلم تجلِبْ للمرأة غير الشقاء، ولم تَجْنِ من ورائه غير فِقدان الرجل لرجولته؛ لأنها فقدت أنوثتَها، ونحن نرى أمثلة كثيرة كانت بمثابة الفاتورة التي أصبحت المرأة مطالبة بسدادها نظيرَ تلك المساواة المزعومة، ففي السابق كان يُقدِم الرجل على خدمة المرأة وإيثارها ولو لم تكن زوجةً له، فكانت تُقَدَّم عليه في الحقوق المشتركة، فإن وُجِدَ رجل وامرأة ومقعد واحد كان لها وليس له، وإن كان الزحام قدَّمها عليه،
ونعرف في قصة موسى – عليه السلام – شهامتَه في السقاية للفتاتين، فكانت الشهامةُ صفةً يتوارثها الأبناء عن الآباء منذ القِدَم إلى أن علتِ الصَّيحات التي تطالب بحق المرأة، ومساواتها بالرجل، فماتت الشهامة أو الكثير منها، واليوم إن وُجِدَ رجُل وامرأة ومقعد واحد، كان مِن نصيب مَن سبق إليه، وإن كان الرجلَ، ولم يعُدْ يضير الرجل أن يسبق المرأة لمصلحة فينال ما يريد في دقائق، وتنتظر هي الساعات الطوال، ولم يعُدِ الشاب كفئًا لحمل الأعباء والمسؤولية؛ إذ المجتمع أوهمه أن عليه النصف فقط.
إن العلة لا تعالَجُ بالسلب، فلا نزيد المشكلة بأن ننزع من المرأة ما بقي من طبيعتها وفطرتها، بل نعالجها معالجة إيجاب، نعدِّل من أفكار أبنائنا وبناتنا، ونزرَعُ فيهم أخلاقَ الفارس والأميرة بلا مبالغة، والمبالغة أُسُّ البلاء، ولا بأس أن نضيف لموروثنا من حكايات الماضي ما يُناسِبُ عصرنا، ويحل مشكلاتنا الجديدة، على ألا نفقد أجمَلَ ما في الحكاية من مَيْلِ الرجل الفطري للمرأة، ومَيْلِها إليه، وصورة الرجل الفارس بأخلاقه، والمرأة الأميرة بأخلاقها، وليتحمل الرجل العبء، لا أقول: كله، بل معظمه؛ لأنه رجل، هكذا أمده الله سبحانه بأسبابِ القوة، ولم يجعَلِ اللهُ الرجالَ قوّامين على النِّساء إلا ليحملوا العبءَ الأكبر في الحياة، ولولا ما وهَبهم الله من قوة تحمُّل وتجلُّد لَما كان لهم شرَفُ القوامة، والقوامة ليست إذلالاً للمرأة، بل إعزازًا لها.
وأذكر سيدة قالت لي ذات يوم بأنها سعيدة بحياتها في مجتمع متحفِّظ بتقاليده، يُبقي المرأةَ كالملكة في بيتها، ورجال البيت جميعًا قائمون على مصالحها، وتلك هي الحرية؛ فحريةُ المرأة وحقوقها في الرعاية والإعزاز، لا في الخروج والكفاح كالرجال،
وأُنهي مقالي وحديثي إليكم بذاك النصِّ المميَّز للرافعي إذ يقول: “لا حريةَ للمرأة في أمَّةٍ من الأمم، إلا إذا شعَر كلُّ رجُلٍ في هذه الأمة بكرامة كلِّ امرأة فيها؛ بحيث لو أهينت واحدةٌ، ثار الكلُّ فاستقادوا لها، كأن كراماتِ الرجالِ أجمعين قد أُهينَتْ في هذه الواحدة؛ يومَئذ تصبحُ المرأةُ حُرَّة، لا بحريتها هي، ولكن بأنها محروسةٌ بملايين من الرجالِ”.
أبالحراسة والرعاية تُقيَّد حرية العقل والفكر والعاطفة؟! أم هي صيانة وأمان وإعزاز؟!
Source link