الكلام عن الجمعة وفضائلِها وخصائصها، ألَّف فيها العلماء كتباً، فهذا المقال لا تستوعب هذا كلَّه، وإنما نأخذ بعضا منها، ولننتقل إلى الجمعة يوم القيامة، هذا اليوم كيف سيكون حال أهله؟ هذه الصلاة؛ كيف يكون شأنهم هناك يوم القيامة؟
عباد الله؛ الله سبحانه وتعالى خلق لنا الزمنَ بما فيه؛ من أيام وشهور، وسنين ودهور، لنغتنمها في طاعة الله، لا في معصية الله سبحانه وتعالى.
وفضّل الله سبحانه وتعالى بعضَ الأزمان على بعض، فليغتنم العاقل الفقيه هذه الأزمان.
ففي هذه المواسم الطيبة لمحاتٌ وأزمانٌ معينة، فيها خيرٌ كثير يغفل عنه الكثير من الناس، ومن ذلك؛ هذا اليوم الذي أنتم فيه؛ يوم الجمعة سيد الأيام، يوم الجمعة الذي [كَانَتِ الْعَرَبُ -تسميه عروبة، لأنها- تُسَمِّي الْأَيَّامَ -السبعة عندهم كانت في العرب العاربة لها أسماء خاصة، فعندهم يوم الأحد يسمى- أَوَّلَ، ثُمَّ -يوم الاثنين ويسمى- أَهْوَنَ، ثُمَّ جُبَار -وهو يوم الثلاثاء-، ثُمَّ دُبَارَ، -وهو يوم الأربعاء-، ثُمَّ مُؤْنِس -يوم الخميس-، ثُمَّ الْعَرُوبَةَ -وهو يوم الجمعة-، ثُمَّ شِيَارَ -وهو عندهم يوم السبت-، قَالَ الشَّاعِرُ -مِنَ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ الْعَارِبَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ-:
أُرَجِّي أَنْ أَعِيشَ وأَنّ يَوْمِي *** بأَوَّلَ أَوْ بِأَهْوَنَ أَوْ جُبـــــارِ
أَو التّالِي دُبارِ فإِنْ أفُتْــــــه *** فمُؤْنِسٍ أَو عَرُوبَةَ أَو شِيارِ
واختار الله سبحانه وتعالى يوم الجمعة من بين الأيام، قَالَ قتادة -رحمه الله-: [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى صَفَايا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا، وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَه، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَرْضِ الْمَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشهور رمضانَ والأشهرَ الحرم، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَعَظِّموا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تُعَظم الْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ وَأَهْلِ الْعَقْلِ]. تفسير ابن كثير ت سلامة (4/148، 149)
وذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه، وفي سورة سماها سورة الجمعة، واختص الله هذا اليوم بصلاٍة خاصَّة هي صلاةُ الجمعة، حث عليها في كتابه، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
ولأهمية هذا اليوم العظيم يوم الجمعة، وأهمية الصلاة فيه، صلاة الجمعة التي اجتمعتم لها الآن، تارك هذه الصلاة تهاونا حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّ تاركَ صلاةِ الجمعةِ تهاونًا هو من الغافلين، ومن الذين ختم على قلوبهم والعياذ بالله، فقد ثبت أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنهما- سَمِعَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ». (م) 40- (865.
فيا من تسمع صوتي الآن، وأنت قاعد في بيتك ولا عذر لك، ألا تخشى أن يختم على قلبك، يا تارك الجمعة تهاونًا دون عذر شرعي، أن تكون من الغافلين، ومن ترك ثلاث جمع، ماذا يحدث له؟ كان من الذين طُبِع على قلوبهم، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ، ثَلَاثًا، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ».
بل هذا الرجل؛ تارك صلاة الجمعة ثلاث مرات دون عذر يحشر في زمرة المنافقين، والعياذ بالله، لما ثبت عَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ» -أي من ترك صلاة الجمعة- «ثَلَاثًا» -متواليات- «مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَهُوَ مُنَافِقٌ». (حب) (258، صححه الألباني في صحيح موارد الظمآن: (54، وصَحِيح التَّرْغِيبِ (727.
إنّ تاركَ الجمعة يكون من الذين تركوا الدين وراءهم، وتركوا الإسلام خلف ظهورهم، وهذا ما ثبت عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله -تعالى- عنهما قَالَ: (مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ جُمَعٍ مُتَوَالِيَاتٍ، فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ. (يع) (2712، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ: (733.
إن بعض الناس ويا للأسف! هو من أهل الجنة، ولكن لتأخُّرِه عن الجمعة سيتأخر عن دخول الجنة، فإنه إن يتخلف عن الجمعة، فسيتخلف أيضاً عن الجنة، هذا ما ثبت عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «احْضُرُوا الْجُمُعَةَ، وَادْنُوا مِنْ الْإمَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَخَلَّفُ عَنْ الْجُمُعَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَخَلَّفُ عَنْ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِهَا». (حم) (20124، (هق) (5724، انظر صَحِيح الْجَامِع: (201، صَحِيح التَّرْغِيبِ: (713)
حتى إنه ليتخلف عن الجنة وإنه لمن أهلها، أهلِ الجنة، ويتأخر عن الجمعة، إذن يتأخر عن دخول الجنة هناك، ويقول له الناس: أنت رجل صالح، لـِمَ لا تجري وتسعى على أن تدخل الجنة معنا، فلا يستطيع، أخَّرَه تخلفه عن صلاة الجمعة.
وليومِ الجمعة خصائصُه، والجمعةُ يوم النظافة، يومُ الاغتسال للرجال والنساء، من حضر الجمعة ومن لم يحضرها، النظافة للجميع في الأسبوع يوما، فللجمعة نظافةٌ خاصَّةٌ، وغُسلٌ خاصٌّ، فمن أراد أن يحصل على ثواب الجمعة فليغتسل، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: (دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو قَتَادَةَ) -هو أبوه، الولد يروي عن أبيه، أنه دخل عليَّ- (يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَنَا أَغْتَسِلُ، قَالَ: (غُسْلُكَ هَذَا مِنْ جَنَابَةٍ؟!) قُلْتُ: (نَعَمْ!) قَالَ: (فَأَعِدْ غُسْلًا آخَرَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يَزَلْ طَاهِرًا إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى». (خز) (1760) (حب) (1222، الصحيحة (2321).
اجعل غسلاً خاصًّا للجمعة، بعد أن تغتسل للنظافة، بعد أن تغتسل للجنابة، اجعل ختام غسلك للجمعة بنية الجمعة.
وفي هذا اليوم؛ بعد الغُسلِ، ولُبس أحسن الثياب والملابس، والتطيُّبِ إن وجد طيبا، تتزيّن لأنك ستقف بين يدي رب العالمين.
في هذا اليوم تتوجّه إلى الجمعة، إلى الصلاة يوم الجمعة، وتحسن الإنصات للخطيب، وحسن الإنصات ثوابه عظيم، وتصلي معهم، فقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ؟ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ». (م) 26- (857.
من فعل ذلك غفرت ذنوب أسبوع كاملٍ زائد ثلاثة أيام، عشرة أيام مغفور لصاحب الجمعة، نسأل الله أن نكون من هؤلاء المغفور لهم، آمين.
حتى يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام.
وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَسَّلَ رَأسَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ»، -أَرَادَ بِقَوْلِهِ «اغْتَسَلَ»: أَيْ: غَسَلَ سَائِرَ بَدَنِهِ. «وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ»، -(بَكَّرَ، أَتَى الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، -وجاء مبكرا إلى المسجد،- وَكُلُّ مَنْ أَسْرَعَ إِلَى شَيْءٍ فَقَدْ بَكَّرَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا (ابْتَكَرَ) فَمَعْنَاهُ: أَدْرَكَ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ، وَأَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ بَاكُورَتُهُ، وَابْتَكَرَ الرَّجُلُ: إِذَا أَكَلَ بَاكُورَةَ الْفَوَاكِهِ. وَقِيلَ: كَرَّرَهُ لِلتَّأكِيدِ، وَبِهِ جَزَمَ اِبْنُ الْعَرَبِيِّ. تحفة الأحوذي (2/ 32.
وفي رواية: «وَغَدَا» -أي: جاء مبكراً في ساعة الغُدُوِّ- «وَابْتَكَرَ»، «وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ»، «فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ».
وفي رواية: «فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ» -لم يقل لصاحبه أنصت، أو لم يتكلم أو ما شابه ذلك، لم يلغ،- «كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا».
يعني إنسان صلى سنةً كاملةً فقام ليلها وصام نهارها، من جاء إلى يوم الجمعة هذا أجره يساوي هذا الأجر.
ومن علامات حسن الخاتمة للعبد المؤمن أن يموت يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، إِلَّا وَقَاهُ اللهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ». (فِتْنَةَ الْقَبْرِ) أَيْ: عَذَابَهُ وَسُؤَالَهُ. تحفة الأحوذي (3/ 138).
وما يكون في القبر من عذاب وما شابه ذلك، من مات في هذه الليلة أو في هذا اليوم مغفور له، ولا يُسأل بل وُقي هذه الفتنة.
ألا واعلموا عباد الله! أنه لا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة، كما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله -تعالى- عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا»، «وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَاتَ»، -هذه الأمور كلُّها كانت يوم الجمعة وهي من الفضائل، خَلْقُ آدم؛ فضيلةٌ لآدم وذريته، أُدخل الجنة؛ دخول الجنة فضيلة لآدم ولذريته المؤمنين، وفيه أُخرج منها.
هل إخراجه فضيلة؟ نعم! فضيلة؛ لتكاثر النسل، لنأتي نحن، ويأتي الأبناء، فضيلة لآدم عليه السلام، وفيه تيب عليه وفيه مات، التوبة فضيلة، وموته في هذا اليوم كله فضيلة، كيف يكون الموت فضيلة؟ (تِيبَ عَلَيْهِ) -أَيْ: وُفِّقَ لِلتَّوْبَةِ وَقُبِلَتْ مِنْهُ، وَهِيَ أَعْظَمُ الْمِنَّةِ -من الله عز وجل- عَلَيْهِ، -حيث- قَالَ الله تَعَالَى: {ثُمَّ اِجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122]. عون المعبود (3/ 14.
{وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ} – وَ-هنا- فِيهَا نِعْمَتَانِ -أن تقوم الساعة يوم الجمعة؛ نعمتان- عَظِيمَتَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ: -الأولى- وُصُولُهُمْ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيم، -نعيمٌ في القبر، ونعيمٌ في الآخرة، هذا في موت الإنسان المؤمن،- وَحُصُولُ أَعْدَائِهِمْ فِي عَذَابِ الْجَحِيم، -وهذه أيضا نعمة للمؤمنين.- عون المعبود (3/ 14)-.
«وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ تُصْبِحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» -أي في صبيحة يوم الجمعة- «مُصِيخَةً، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ شَفَقًا مِنْ السَّاعَةِ، إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ»، -فالجنِّ والإنس في غفلة،- أي: كلّ دوابِّ الأرض تُصْبِحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُصيخة، أي- مُصْغِيَة -تتسمّع منتظرة صوتاً-، مُسْتَمِعَة، -من طلوع الفجر– إلى طلوع الشمس، خوفًا مِنْ السَّاعَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَة ستَظْهَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ بَيْن الصُّبْحِ وَ -بين- طُلُوعِ الشَّمْس. انظر عون (3/ 14. «إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ».
«وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى فِيهَا شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ»، «وَلَا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَرٍّ، إِلَّا أَعَاذَهُ اللهُ مِنْهُ»، (-وَأَشَارَ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا-).
يعني ساعة الإجابة يوم الجمعة ليست طويلة، كما في رواية أبي داود: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «التَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ بَعْدَ العَصْرِ إِلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ»، (ت) (489، (491، (س) (1430، (حم) (7688، وهي ساعة لا يرد فيها الدعاء.
الكلام عن الجمعة وفضائلِها وخصائصها، ألَّف فيها العلماء كتباً، فهذا المقال لا تستوعب هذا كلَّه، وإنما نأخذ بعضا منها، ولننتقل إلى الجمعة يوم القيامة، هذا اليوم كيف سيكون حال أهله؟ هذه الصلاة؛ صلاة الجمعة كيف يكون شأنهم هناك يوم القيامة؟
الجمعة في الآخرة، تأتي كأنها عروسٌ بيضاءُ، تشع بالأنوار تضيء لأهلها، في موكب مهيب من الملائكة عليهم السلام، فـعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ الْأَيَّامَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى هَيْئَتِهَا»، -سبتٌ وأحدٌ واثنينُ، وثلاثاءُ وأربعاءُ وخميسٌ- «وَيَبْعَثُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً، أَهْلُهَا يَحُفُّونَ بِهَا» -ويستديرون حولها-؛ «كَالْعَرُوسِ تُهْدَى إِلَى كَرِيمِهَا، تُضِيءُ لَهُمْ، يَمْشُونَ فِي ضَوْئِهَا»، -من هم؟ نسأل الله أن نكون أنا وأنت، وسائر من حافظ على هذه الصلاة من المسلمين، تضيء لهم ويمشون في ضوئها،- «أَلْوَانُهُمْ كَالثَّلْجِ بَيَاضًا، وَرِيحُهُمْ يَسْطَعُ كَالْمِسْكِ، يَخُوضُونَ فِي جِبَالِ الْكَافُورِ» -والمسك طيبٌ، والكافور عبارة عن نبات طيب الرائحة، «يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ الثَّقَلَانِ»، -بقيَّةُ الناس ممن لا يصلون هذه الجمعة، أو من الأمم السابقة من المؤمنين من أهل الموقف من الجن والإنس، والثقلان وأهل الموقف-، «لَا يُطْرِقُونَ» -ولا يصرفون أبصارهم عنهم-؛ «تَعَجُّبًا حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، لَا يُخَالِطُهُمُ أَحَدٌ»، -فقط أهلُ الجمعة هم الذين يدخلون الجنة، فلا يخالطهم أحد على هذه الصفة،- «إِلَّا الْمُؤَذِّنُونَ الْمُحْتَسِبُونَ».
هذا هو يوم الجمعة، هذا هو سيد الأيام، إنه عيدنا أهلَ الإسلام كلَّ أسبوع، إنه الذي اختاره الله لنا بعد أن ضلّ عنه اليهود، فأخذوا السبت، وضل عنه النصارى، فأخذوا الأحد، وهدانا الله له كما ثبت، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام وَفِي كَفِّهِ مِرْآةٌ بَيْضَاءٌ، فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ»، -مرآة فيها نكتة سوداء،- «فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ، يَعْرِضُهَا عَلَيْكَ رَبُّكَ عز وجل لِتَكُونَ لَكَ عِيدًا، وَلِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ، تَكُونُ أَنْتَ الْأَوَّلَ، وَيَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِكَ، قُلْتُ: مَا لَنَا فِيهَا» ؟) –النبي صلى الله عليه وسلم يسأل جبريل، « ما لنا فيها؟- (قَالَ: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، لَكُمْ فِيهَا سَاعَةٌ مَنْ دَعَا رَبَّهُ عز وجل فِيهَا بِخَيْرٍ هُوَ لَهُ قَسْمٌ»، -يعني ربنا كتب هذا الخير أن يكون- «أَعْطَاهُ اللهُ عز وجل، أَوْ لَيْسَ لَهُ بِقَسْمٍ»، -يعني إنسان دعا الله عز وجل بشيءٍ اللهُ لم يقسم له هذا الشيء، ولم يقدِّر له هذا الشيء، ودعا به،- «إِلَّا ذُخِرَ لَهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، أَوْ تَعَوَّذَ فِيهَا مِنْ شَرِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَعَاذَهُ اللهُ مِنْ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَنَحْنُ نَدْعُوهُ فِي الْآخِرَةِ» -الملائكة يدعون في الآخرة يوم الجمعة ويسمونه-: «يَوْمَ الْمَزِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ»، أي: واسعا، «مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، نَزَلَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ عِلِّيِّينَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، ثُمَّ حَفَّ الْكُرْسِيَّ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ حَفَّ الْمَنَابِرَ بِكَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ جَاءَ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ يَجِيءُ أَهْلُ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى الْكَثِيبِ» –الكَثِيب -في اللغة-: الرَّمْل الـُمسْتَطِيل المُحْدَوْدِب-؛ -ليس جبلا كبيرا، وإنما كثيب من الرمل وهو معروف عند العرب، وهذا الكثيب لونه أبيض-، «وَهُوَ كَثِيبٌ أَبْيَضُ مِنْ مِسْكٍ أَذْفَرَ» -وهو من عطور المسك، -أي جيد إلى الغاية مع رائحته شديدة طيبة وجيدة.
«فَيَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ عز وجل، حَتَّى يَنْظُرُوا إِلَى وَجْهِهِ عز وجل، وَهو يَقُولُ» -سبحانه، فهل نكون هناك في ذلك الوقت؟ نسأل الله ذلك، فماذا يقول رب العزة؟ يقول-: «أَنَا الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي، فَاسْأَلُونِي».
«فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا، فَيَقُولُ: رِضَايَ أَحَلَّكُمْ دَارِي، وَأَنَالَكُمْ كَرَامَتِي»، يعني هذا السؤال مفروغ منه، فأنتم وصلتم إلى هذا الرضا، «فَسَلُونِي. فَيَسْأَلُونَهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، إِلَى مِقْدَارِ مُنْصَرَفِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ»، -يعني بمجرد أن جاء الإنسان إلى الجمعة للصلاة، ثم رجع إلى بيته بعد الصلاة، هذا المقدار يقفون أمام الله يسألونه ما شاؤوا إلى مقدار منصرفهم يوم الجمعة- «ثُمَّ يَرْجِعُ أَهْلُ الْغُرَفِ إِلَى غُرَفِهِمْ»، -فما وصفها هذه الغرف؟- «وَهِيَ زَبَرْجَدَةٌ» الزبرجد والزمرد، أحجار كريمة غالية الثمن- «خَضْرَاءُ أَوْ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ»، والياقوتة -الحمراء- من الأحجار كريمة أيضا؛ من أجود الأنواع، وأكثرها صلابةً بعد الماس، خاصة ذو اللون الأحمر.
«مُطَّرِدَةٌ فِيهَا أَنْهَارُهَا، مُتَدَلِّيَةٌ فِيهَا ثِمَارُهَا، فِيهَا أَزْوَاجُهَا وَخَدَمُهَا، فَلَيْسُوا هُمْ فِي الْجَنَّةِ بِأَشْوَقَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ»، -ينتظرون هذا اليوم لأنه يوم المزيد- «لِيَزْدَادُوا مِنْهُ كَرَامَةً، وَلِيَزْدَادُوا نَظَرًا إِلَى وَجْهِهِ عز وجلّ وَلِذَلِكَ دُعِيَ يَوْمَ الْمَزِيدِ».
هذا يوم يحتاج منا إلى تحفيز الهمم، لنكثر من الصلاة والسلام عليه، صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ عليه السلام، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَلَاةِ فِيهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»، فَقَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟) أي بلي جسدك، هم يعرفون أن الأرض تأكل أجساد الناس، فكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَاكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ».
فهو حيٌّ في قبره حياةً برزخية، تختلف عن الحياة الدنيا، تصل إليه أعمالنا، وتصل إليه صلواتنا، وما إن نصلي عليه صلى الله عليه وسلم حتى تبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وأقم الصلاة {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
__________________________________________________
الكاتب: الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد
Source link