ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسَّع الله عليه في المال لا يقنع بما أُوتِيَ؛ فهو فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغِنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أُوتيَ، وقنع به، ولا ألح في الطلب فكأنه غنيٌّ.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله تعالى فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
[1] الاستغناء بالله تعالى:
في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((إن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، ثم سألوه، فأعطاهم، ثم سألوه، فأعطاهم حتى نفِد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدَّخِرَه عنكم، ومن يستعفِفْ يُعفَّه الله، ومن يستَغْنَ يُغْنِهِ الله، ومن يتصبر يصبِّرْه الله، وما أُعطِيَ أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر».
أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان، واستُشهد أبوه مالك يوم أُحُد، ولما مات والده، لم يترك له مالًا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسأله؛ فقال حين رآه: «من يستغن أغناه الله، ومن يستعفف أعفَّه الله»، فقال: ما يريد غيري، فرجع.
وأبوه كذلك يُلقَّب عفيف المسألة؛ لأنه طوى ثلاثًا فلم يسأل؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينظر إلى العفيف المسألة، فلينظر إلى هذا».
وقيل: عفيف المسألة هو مالك بن سنان الخدري، والد أبي سعيد الخدري، الصحابي المشهور، قيل له ذلك؛ لأنه طوى ثلاثًا لم يسأل.
فهذا من مناقب الوالد، وأما الولد؛ فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم 1170 حديثًا؛ منها 46 في الصحيحين.
وفي الحديث: الحض على الاستغناء عن الناس بالصبر، والتوكل على الله، وانتظار رزق الله، وأن الصبر أفضل ما أُعطيه المؤمن؛ ولذلك الجزاء عليه غير مقدَّر، ولا محدود؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
وقوله: «ومن يستعفف»؛ أي: عن سؤال الخلق، «يعفه الله»؛ أي: يجازِهِ على استعفافه بصيانة وجهه، ورفع فاقته.
وقوله: «ومن يستغن»؛ أي: بالله، وبما أعطاه، «يغنه»؛ أي: يخلق في قلبه غِنًى، أو يعطِه ما يَستغني به عن الخلق.
وقوله: «ومن يتصبر»؛ أي: يستعمل الصبر، «يصبره»: يقوِّه، ويمكنه من نفسه حتى تنقاد له، وتذعن لتحمل الشدائد، وعند ذلك يكون الله معه، فيُظْفِره بمطلوبه، ويوصله إلى مرغوبه.
والمسألة على ثلاثة أوجه: حرام، ومكروه، ومباح.
فمن سأل وهو غني من زكاة، وأظهر من الفقر فوق ما هو به، فهذا لا يحل له.
ومن سأل من تطوع، ولم يُظهِر من الفقر فوق ما هو به، فهذا مكروه، والاحتطاب خير منه.
والمباح: أن يسأل بالمعروف قريبًا أو صديقًا، أو ليكافئ، أما السؤال عند الضرورة، فواجب؛ لإحياء النفس، وأدخله الداودي في المباح.
وأما الأخذ من غير مسألة ولا إشراف نفس، فلا بأس به.
[2] القناعة والرضا:
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه».
وقوله: «قد أفلح من أسلم»؛ اشترط الإسلام للفلاح في الدنيا والآخرة، فغير المسلمين لا يفلحون.
قال: «ورُزق كفافًا»؛ والكفاف: ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحق بأهل الترفهات.
وقوله: «قنَّعه الله بما أتاه»؛ كأنه يتحدث عن الرضا وقناعة النفس وهو غِناها، وعدم الاستشراف والتطلع والنظر لِما في أيدي الناس.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله عليكم».
ومعنى أجدر: أحق، وتزدروا: تحتقروا.
وهذا حديث جامع لأنواع من الخير؛ لأن الإنسان إذا رأى من فُضِّل عليه في الدنيا، طلبت نفسه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحرص على الازدياد؛ ليلحق بذلك، أو يقاربه، وهذا هو الموجود في غالب الناس، وأما إذا ما نظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيها، ظهرت له نعمة الله تعالى عليه، فشكرها، وتواضع، وفعل فيه الخير.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الغنى عن كثرة العَرَضِ، ولكن الغنى غنى النفس».
و(العرض) هو متاع الدنيا.
ومعنى الحديث: أن الغِنى المحمود غِنى النفس، وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن من كان طالبًا للزيادة، لم يستغْنِ بما معه، فليس له غِنًى.
فمعنى الحديث: ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسَّع الله عليه في المال لا يقنع بما أُوتِيَ؛ فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغِنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أُوتيَ، وقنع به، ورضِيَ ولم يحرص على الازدياد، ولا ألح في الطلب فكأنه غنيٌّ.
وقال القرطبي: “معنى الحديث أن الغِنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفَّت عن المطامع، فعزَّت، وعظُمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة، والشرف والمدح أكثر من الغِنى الذي يناله من يكون فقيرَ النفس؛ لحرصه، فإنه يورطه في رذائل الأمور، وخسائس الأفعال”.
[3] سؤال الله تعالى ودعاؤه بالعفاف والغِنى:
وفي صحيح مسلم عن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتُّقَى، والعفاف والغِنى».
أما العفاف والعفة، فهو التنزه عما لا يُباح، والكف عنه، والغِنى هنا غِنى النفس، والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم.
قال القرطبي: (الهدى) يعني: إلى الصراط المستقيم، وهو صراط الذين أنعم عليهم، و(التقى) يعني: الخوف من الله، والحذر من مخالفته، و(العفاف): الصيانة من مطامع الدنيا، و(الغِنى): غنى النفس.
وجمع بين هذه الأربعة؛ ليجمع خير الدنيا والآخرة؛ ففي أمور الدين: الهدى والتقى، وفي الدنيا: العفاف والغِنى.
[4] التعوذ من الكفر والفقر:
وفي المسند وأبي داود عن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر».
وفي رواية للمسند عن مسلم بن أبي بكرة أنه مر بوالده وهو يدعو ويقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر، قال: فأخذتهن عنه، وكنت أدعو بهن في دُبُرِ كل صلاة، قال: فمر بي وأنا أدعو بهن، فقال: يا بني، أنَّى عقَلت هؤلاء الكلمات؟ قال: يا أبتاه، سمعتك تدعو بهن في دبر كل صلاة، فأخذتهن عنك، قال: فالزمهن يا بني؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهن في دبر كل صلاة)).
_______________________________________________________
الكاتب: الشيخ نشأت كمال
Source link