بداية دعونا نتفق على ألا نختلف أن لكل مستحدَث في العلمِ مائزةً تميِّزه، وجائزة تُجيزه، وأيضًا عائبة تعيبه، ولربما كانت العيوب من فرط جهل المستخدِمين، أو من عدم القناعة بأن لكل جديد مخاطرَه التي تستدعي إظهار التحفُّظات والواجبات حين الأخذ به
بداية دعونا نتفق على ألا نختلف أن لكل مستحدَث في العلمِ مائزةً تميِّزه، وجائزة تُجيزه، وأيضًا عائبة تعيبه، ولربما كانت العيوب من فرط جهل المستخدِمين، أو من عدم القناعة بأن لكل جديد مخاطرَه التي تستدعي إظهار التحفُّظات والواجبات حين الأخذ به.
وليس إنصافًا أن نذكر ونُفنِّد العيوب قبل سرد بعض المزايا، ولا أريد أن أقول عيوبًا بالمعنى المفهوم الواصل إلينا، فلو أننا تتبَّعنا ما يجب على الناشر الأخذ به لصار النشر التقني في الصدارة لا تعيبه عائبة.
قبل أن نسرُدَ ثلاثة من عناصره المعنصرة، التي جعلت منه مادة حاضرة، نقول:
إن الإنسان القديم كان توَّاقًا شغوفًا بالنشر منذ الخليقة الأولى، وتشهد بذلك الأحجارُ والنقوش والرسوم التي وُجدت على جدران المعابد والمباني القديمة إبان العصور العديدة؛ كحضارات المصريين، وبلاد الرافدين، وبابل، وآشور، وسومر في العراق، وغيرها لتُعَزِّز وتؤكد حرص القديم على نشر أخباره، ويوميات حياته وطقوسه، وتناوب الحكام عليه.
ولقد وفَّق الله قومًا حين اجتهدوا في فكِّ الرموز والطلاسم كفَكِّ “رموز حجر رشيد” بمصر، فأمكن لهم معرفة الكثير من تاريخ الأمم والشعوب والحضارات، وشاء المولى عز وجل حين قَصَّ علينا قصص السابقين أن تكون هناك همزةُ وصل بين ما اكتُشف وما أشار إليه القرآن؛ لتكون تلك الاكتشافات قد أخذت توثيقًا بقص القرآن لأصحابِها وقراهم، وها هو العلم الحديث يستكشف كل يوم ما أثبته القرآن الكريم من قرون عدة، فسبحان الحي القيوم! ولقد كانت أدوات النشر على بساطتها – من نحوت ورسوم – أسبق إلى البقاء والمعاصرة لزماننا هذا ولحظتنا تلك، فسبحان مبقيها لتكون للناس آيةً!
ولقد مرَّ النشر عبر العصور بالكثير من التطوُّرات التي كشفت عن شغف الإنسان به، ومع ازدياد الحاجة إليه تتالت الاستباقات لتطويره، وتلك نبذة أخذتها عنه من نشر لموقع إلكتروني لتاريخ تطور النشر هذا، مُفادها:
في عام 1714م حصل البريطاني هنري ميل على براءة أول اختراع لأول آلة كاتبة، وتلاه المخترع الأمريكي وليم أوستن بريت في عام 1829م، وكانت آلته مصمَّمة على شكل عجلة نصف دائرية.
وفي عام 1833م استطاع الفَرنسي بروجين عملَ أول آلة كاتبة مصمَّمة بطريقة حديثة، قادرة على تحريك الورقة بين الحروف والسطور، وذلك عن طريق أسطوانة بلاتينية.
وظهرت أول آلة استخدمت هذه التقنية في عام 1843م، على يد مخترع أمريكي يدعى تشارلز جروفر، وكانت مصمَّمة على أن الجزء الخاص بالطباعة حَلْقة مَعدِنية، تدور رأسيًّا حول الأسطوانة، وكانت مزوَّدة أفقيًّا بعدد من المفاتيح، تعمل بطريقة دوران العجلة؛ حتى يكون الحرفُ المطلوب في وسط وضع الكتابة، وبعد ذلك يُضغط عليه.
توالَت الاختراعات بعد ذلك، اعتمادًا على هذا التكنيك، ففي عام 1856م صمَّم المخترع الأمريكي ألفريد بيتش آلةً مشابهة، لكن باختلاف بسيط.
وفي عام 1856م صمَّم مخترع أمريكي يدعى صموئيل فرنسيس – آلةً على شكل دائري للوحة الكتابة، وجرس يعطي إنذارًا عند نهاية السطر، وحامل ورق متحرِّك، وشريط التحبير، وكان تصميم لوحة الحروف يشبه البيانو، فعليه مفاتيح سوداء وأخرى بيضاء.
ولسنا بصدد الحديث عن نشأة وتطور أدوات النشر والكتابة، لنصل إلى الحاسوب الحالي الذي حدا بمستخدِميه إلى رفاهية لا تتعدَّى مجرد اللمس لتنفيذ الأمر أو مجموعة من الأوامر؛ لكننا نقرُّ بأن الحاجة هي التي دفعت المذكورين بعاليه إلى إيجاد بدائل لها خصائص السرعة والذيوع، فمع انفتاح الشعوب وتقدُّم العلم، والاعتراف بالأوراق والمطبوعات كمستند لإثبات الهُوِيَّة والتأكيد على الشهادات والمِنح – صار الأمر ضرورةً ملحَّة.
وحتى لا نشطط ونرى أنفسنا وقد جرَّتنا الأحبار هي الأخرى إلى تواريخ تطورها، نقف عند ثَنية من ذلك المسار، لنقول:
لو أننا تخيَّلنا الآن ميزانًا قد جيء به وقد نصبت كِفتاه في موضع المساواة، لنلقي في إحداهما ثلاثة من معايير تفوقه، في مقابل أخريات من موجبات الحذر من مخاطره، فنكون قد تعرَّضنا وما عرضنا، فلسنا أهل التخصص فيه.
السرعة:
وأول تلك الخصائص التي جعلت من النشر التقني “الإلكتروني” طفرةً علمية حديثة ورائعة – هي تلك الخصيصة التي وفَّرت الوقت والجهد المبذولينِ لتلك العملية، فلعل مَن ذاكر يرجع معنا وبالذاكرة للكاتب الجالس القرفصاء، أو لزمان جميل يوم أن شرع “الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه” في كتابة المصحف بعد جمعه؛ لاستشهاد كثير مِن حفظته في الحروب والغزوات؛ حيث كانوا ينسخون وينقلون من الألواح والحجارة وسعف النخيل والعظام، ليجمع القرآن الكريم وتصبح صيرورة الكتابة إلى ما هو عليه الآن، ولك أن تتخيَّل كم مِن الوقت كانت تستغرق تلك العملية مع بساطة الإمكانات المتاحة، فسبحان الله العظيم الذي علَّمنا ما لم نكن نعلم، وكان فضله علينا عظيمًا!
فالماهر بلوحة المفاتيح المتمرِّس لها يستطيع في قليلٍ من الوقت كتابةَ المئات من الصفحات، ساهَمَت في ذلك تقنيات تتطور بين لحظة وأخرى في برامج “منسقات النصوص”، وقد تتعدى تلك الخاصية لتكون بمثابة الإسعافات الأولية لمن خمل عقله أن يتذكر معلومة تاريخية، أو قواعد نَحْوية، أو ما شابه، فما عليه إلا أن يجول جولة سريعة عبر محركات البحث العديدة، لتكون المعلومة مِلك يمينه في وقت وجيز، فيا لها من نعمة قد مَنَّ الله على الناس بها!
فنرى أن تلك الخصيصة التي هي إحدى ثلاث من موجبات ذيوعه وانتشاره – قد حازت الصدارة في أن تكون بلا منازع سائدة، وكل يوم يزداد تقدُّمها، ما دام العاملون عليها يجتهدون فيما يخدم الإنسانية جمعاء.
قلة التكاليف:
وتلك ثانية لا نستطيع إنكارها أو التغافل عن أحقيتها في أن تكون أحد عناصر ومقومات شيوع النشر “الإلكتروني”، ولأسباب عديدة لا ينبغي الخوض فيها، بعيدًا عن طغيان العنصر المادي لدى بعض دُور النشر، التي ترى أن عملية النشر تِجارية بحتة؛ لاعتبارها مصدر رزق وعيش لهم، ومع تراكم المشكلات الاقتصادية على الناس، وبخاصة أرباب الفكر والكتَّاب، فإنهم قد رأَوا في النشر التقني فُسحة من الأمل، بخروج كتاباتهم للنور، والتفاف العَامَّة حول ما يكتبون، وردود أفعال القرَّاء والمطَّلعين عليها، من خلال التعليقات والمشاركات لها، وأيضًا الإعلان عنهم، فصار النشر التقني مفرًّا وملجأً لمن أعيَتْه الحيل، وأنهكته تكاليف النشر.
ومع ابتداع منصات “التواصل الاجتماعي”، التي لا أستطيع الجزم بكونها مضيعة للوقت، ولا التأكيد على أنها منافذ للناس، ومحطات لتلاقي الأفكار، وخير إنجاز لها ما حدث في “كانون الثاني” بمصرنا الحبيبة وثورة الخامس والعشرين من إطلاق دعوات كان لها بالغ الأثر في تقويض عرشِ النظام القائم.
ولقد عمد كثيرٌ من الأفرادِ إلى تكوين ما يُسمَّى بالمجموعات والشبكات؛ كالنوادي الأدبية والعلمية، ثم ترسل الدعوات للمشاركة، وتكوين العضويات في تلك المنتديات وما شابه؛ ليزداد التعارف وتتلاقى الأفكار، ولربما تلاقت الأفئدة على ما تحب وتكره.
وكذلك دُور النشر الإلكترونية والمرخَّصة، فتصدر كتبًا “إلكترونية” يتم التعامل معها من قِبل المتخصصين باستخدام برامج عرض وبرامج لفكِّ الضغط لتلك الكتب (B D F)، كل هذا يتم بأقل التكاليف، بل ربما كان بلا تكاليف أصلًا، وإن كانت مواقع عرض الفيديو والصوت والحركة والمسماة “يوتيوب” تحتاج لبعض المال لشراء مساحات نشر لصوت وصورة عليها، تكون هي الأخرى أقل بكثير من تكاليف النشر المكتبي.
ولو تكلَّمنا عن مواقع التواصل على تعدُّدها وتنوعها، لرأيناها عاملًا رئيسيًّا في الترويج للنشر الإلكتروني، أو إنها إحدى أدواته الكبرى، التي منها تنبثق أنوار المبدعين الذين لا يجدون إلا جُهدَهم، فتكون تلك المواقع على تنوعها منصاتِ تعريف بهم، ومسارحَ لمعروضهم الفكري والأدبي.
الانتشار:
وتبقى الثالثة الأخيرة، وهي ما تطغى على سالفتَي الذكر، ولا نقول بأنها أحد المقومات، بل قل إن شئت: إنها أمُّ المقومات التي جعلت من “النشر التقني” منفذًا لا غنى عنه، ومدخرًا لمن لم يجد المعلومة متاحةً في كتاب ورقي أو موسوعة أو مجلد، فحدثاء السن – ولا أقول: مَن شبوا وشابوا – يستطيعون وبمجرد اللمس أن يقوموا بنشر ما يكتبون على ألوف مؤلَّفة من الناس في أقل مما نتصور، فمَن لديه بسيط علم بالحاسوب والتعامل مع “برامج منسقات النصوص”، ومواقع التواصل وما شابه، لا يتخطى الأمر مجرد أوامر بسيطة من برنامج “النوافذ ويندوز”، نسخ ولصق ومشاركة مع الأصدقاء والمعارف، ليصير القاطن في قارَّة أسيا يقرأ ما كتب مَن في مصر في ثوانٍ معدودات، فسبحان مَن علَّم الإنسان ذلك، وسبحان مَن عنده مفاتح العلم!
قرأت ذات مرة عبارة جاء فيها: “ما نراه الآن مِن علم واقع، كان ذات يوم خيالًا في رؤوس المفكِّرين”، بالطبع صدق، فمَن كان يظن أن الحاسوب الذي اختُرع من زمن، وكان في البداية مجموعة من عمليات حسابية بسيطة تقوم على لغة الصفر والواحد “رقمية”، وقد جُهزت له مساحة كبيرة لتحتويَه، فضلًا عن الطاقة الكهربية الهائلة التي كان يستخدمها، وكان حينها معجزة العصر – سوف يصير به الحال ليوضع بين راحتي يد الإنسان، وقد جمع له من العلم الغزيز وكوَّن له شبكة أرضية عالَمية، يستطيع منها الانتشار والتواصل والإرسال في شتى بقاع الأرض؟!
إن مَن يُدقِّق في مفهوم التقنية “التكنولوجيا”، يجد أنها الشيء الوحيد الذي يَرخُصُ بالتقادم، برغم تطور إمكاناتها، وتعدد المنافع الناجمة عن استخدامها، ولعل المقولة الشائعة “بأن الأميَّة لم تعد تقف عند مجرد عدم المعرفة بأبجديات القراءة وحروف الهجاء، بل تطورت ليُنعت بها مَن لم يكن على علم بالحاسوب واستخداماته” – صادقة، وتلك عُقْبَى التغيُّر والتحول لمفاهيم الحضارة، فلكل عصر متطلبات الغلبة والأسبقية فيه.
ها نحن قد تعرضنا لثلاثة من دواعي غَلبة النشر الإلكتروني، وسيطرته وفرضه على الساحة العلمية والفكرية؛ لِما سبق الذكر عنه، وما أراني قد سردت جديدًا؛ إذ سبقني لذلك آخرون.
ونتحول بعين ثانية لتلك التي أخرجناها من نطاق العيوب إلى منعطف التحفظات، فنقطع بأن النعمة إن لم تجد لها مِن حَفَظَة زالت، وصارت نقمة على مَن يحوزها، وبالتعرض لتلك التحفظات التي سبق أن قلنا: إنها في الكِفَّة المقابلة لكفة المزايا، نقول بعد الحمد لله:
التوثيق:
تعدُّ مسألة التوثيق واحدةً من العوائق التي تعيق وصول النشر “الإلكتروني” لحد الكمال؛ إذ توجد جهات ومؤسسات إلى يومنا هذا لا تعترف بالنشر التقني؛ لاعتباره يفتقد إلى الأختام والإشراف من جهات متخصصة، ودليلهم في ذلك: منصات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت مرتعًا خصبًا لا حدَّ له، فترى الكل يكتب؛ الصغير والكبير، المتخصص وغير المتخصص، وأصبح الشأن السياسي من أكثر الشؤون التي تشغل بال الكثير، وأنامل الناشرين لا تمل من الشروع في تصديق الأكاذيب، وتكذيب الحقائق، وكم من سجال دار عبر مواقع التواصل وأودى بهم لقطيعة وخصام.
وبعيدًا عن منصات التواصل وثرثرة الكثير، نعوِّل على واحدة هامة قد تكون مفيدة لحدٍّ ما، ولكن تفتقد لعنوان الفقرة من عدم التوثيق، ألا وهي دُور النشر الإلكتروني، التي أتاحت لمن لا حيلة له أن يجد منفذًا إلى ما يروم ويرجو، فها هي دُور نشر تقنية كثيرة تجمع إليها من كل حدب وصوب مِن شتى أقطار الأرض وتتبارى في صنع المسابقات الأدبية والعلمية للحصول على أجود الأعمال وأرقاها، وترصد الجوائز الأدبية والمادية التي تحفز الكثير للاشتراك والمتابعة.
وإني لأعلم دُور نشر وشبكات أدبية وعلمية عربية تُعَدُّ منصات للارتقاء والنهوض، وتصحيح الكثير من مفاهيم دُسَّت في الكتب الورقية كدسِّ السم في العسل.
ولسنا بصدد الحكم على جزئية بعينها ولا قضية معينة، لكن ما نتعرض له أن النشر التقني على روعته بما امتاز به من سابق مزايا، يفتقد لاعتراف الأكثرية بشرعيته وسيادته.
ولا ننكر أن المؤسسات الإدارية والثقافية والعلمية وغيرها قد شرعت في تكوين مجموعات “جروبات” تجمع العاملين ومَن لهم صلة بتلك الجهة؛ ليكونوا على تواصل متى تقطعت بهم المسافات والبلاد.
الأمانة والمصداقية:
وهي واحدة تعد بيت القصيد في هذا الأمر، ولربما كانت – كما يقولون – “رمانة الميزان” في مساواة النشر التقني بالنشر المكتبي، فكلنا يعلم أن الأمانة هي أن تكتب وتنشر ما تراه حقًّا قد حدث، أو أن تنقل بصدق ما تعلم، دون تحيز أو محاباة.
ولقد تعرَّضت لتلك الجزئية في مقال نُشر لي بالشبكة الطيبة (حضارة الكلمة / اللغة والقلم / فن الكتابة)، ولأن الأمانة والمصداقية من جليل المعايير التي يجب أن تؤخذ في الحسبان حين النشر بنوعيه مكتبيًّا كان أو تقنيًّا؛ فمن الخطورة أن يترك الباب للنشر التقني على مصراعيه لكل مَن أراد أن يكتب أو يخلط المفاهيم، أو أن يتعرَّض لمساءلة الثوابت والشرع.
ولقد أصبحنا في زمانٍ صارت فيه الفتن جَمَّةً وكثيرة، وتعددت مناحي الإغراء، فأصبح “النشر التقني” مَسلكًا ومهربًا لمن أراد ألا يُسأَل، وتحت أسماء مستعارة وصفحات مجهولة الهُوِيَّة يتم الترويج للفواحش والفتن والدسائس، وتشويه الثابت من العقائد، وغيرها من الأمور الشائكة، التي تمس الأمن العربي والثقافي.
فيا أيها الشباب العربي، ممَّن بلغوا سن الرشد عمرًا وعقلًا، تحرَّوا الصدقَ فيما تكتبون وتنقلون، ولا يحملنَّكم الولاءُ لفصيل أن ترجُموا بالحجارة مَن تكرهون، إنكم لن تضرُّوهم قدرَ ما تضرون مجتمعكم، وإن من باب الأمانة والإيمان أن تصمتوا وقت أن تستدعي الحالة صمتًا، وإذا تكلمتم أن تكونوا مُنصِفين، وارتقوا في الأسباب، واعلموا أن الشاعرَ العربي قد أصاب موضعًا مِن حكمة حين قال:
وما مِن كاتبٍ إلا سيفنى *** ويَبقَى الدهرَ ما كتبَتْ يداهُ
وما بجديد قد أتى، لكنه قد أيقن واستشعر خطرَ الآية في سورة التأديب: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6][1].
إن الأمانةَ معيارٌ متَّفَق عليه، لكن لا يحاسب به بعد الله إلا مَن كان على بصيرةٍ، وقلب مستنير يخاف الله، ويعلم أن في إشاعة الفتنة زلزلةً لكيان المجتمع، وهدم الأسر، وتقويض البنيان، وأن في تحري الرشد رشادًا وفطنة؛ فحاذروا الفتنة، ولا يخدعنك مما تكتبه البريق، فلرُبَّ طريق تسلكه تظن أنه الأسهل لنيل المنى، وما يدريك أنها سبيل المفترين[2].
ولا أرى حرجًا في أن أتطرق في لقطة سريعة قد تدهش المراوغ في أمر العقيدة ورسالة الإسلام السمحة “لَمَّا سرق درع الإمام علي بن أبي طالب، واتهم فيها اليهودي – وكلنا يعرف القصة – برأه الله مِن فوق سبعٍ شداد؛ لينفي عن الملة السمحة الظلم والأخذ بغير حق.
المسؤولية:
لا تكاد تنشق كواحدة من عيوب النشر التقني حتى تعود لتلتصق بسابقاتها مِن المصداقية والأمانة؛ حيث انعدام الأوليين ينجم عن عدم وجود شخص بعينه مسؤول ليسأل عما يكتب بدون حجة أو سند قوي، وكما أسلفنا أنه مع ذيوع وشيوع النشر التقني مِن كل مَن علِم ومَن لم يعلم، أصبح السوق مباحًا، والباب مفتوحًا على مصراعيه للفتوى التي قد تُضِلُّ الكثير من الناس، والإشاعة المغرضة التي تجتاح البيوت اجتياح السيل العَرِم.
ولقد عَوَّلت الأنظمة في بلادنا العربية على الوَزارات المعنيَّة بالأمن القومي – أن تناهض – قدر المستطاع – تلك الكهوف الإلكترونية الخربة، التي تسعى لخدمة أعداء الأمة.
وبنظرة للجزئية السالف إيرادها في المقال بصدد العيوب والتحفُّظات، ما زلنا نُنوِّه إلى أن منصات التواصل عليها العبء الأكبر في الترويج للمفاهيم الخاطئة للمبادئ، وإشعال نيران الفتن، وصناعة الاختلاف على المتفق عليه.
فَحَرِيٌّ بالمؤسسات المسؤولة في الدولة، والمأخوذ بعهدتها في شتى الأمور – أن تكون ذات عين يقظة، وعقل حاضر يُفنِّد تلك الصفحات، فيعزز الملتزم منها ويقويه بإضفاء شرعية عليه، وفعل العكس مع المناظر الآخر الذي يُسيء، ويضر أكثر مما ينفع، واتِّخاذ كل ما هو رادع وقاطع لسبيل المجرمين.
إن الكِتاب المنشور المطبوع باقٍ، وإن تقطعت أوصاله وتمزق إهابه، فلربما أُغلقت المواقع التي كنا عليها، والتقنيات التي تهدم وتخرب أكثر من تلك التي تبني، والله أعلم.
ربما كانت تلك الثلاثة كافية بأن تجعل للنشر التقني مخاطر علينا تحاشيها وتجنبها، ولا ننكر أن النشر التقني قد ساهم بشكل كبير في النهضة بما تَفَرَّد به من ثلاث في عالي المقال، لكن التاليات أحرى بأن ننتبه، وأن نكون على أرضٍ ثابتة حين نطلع لنَمِيزَ الخبيث من الطيب، حتى ولو كان على هوى الواحد منا، أو كانت أهواؤه مواتية لِما تشتهي السفن.
وفي الختام – ولعلِّي قد تجاوزتُ حدِّي، فأستحق نقدي، ولسعي بسياط الاسترسال، وكثرة المقال – أُذكِّر بأخيرة، ربما كانت هي واسطة عقد يتميز بها النشر المكتبي، ويفتقد لها نظيره التقني؛ ألا وهي:
روح الكتابة:
والسؤال الآن: مَن منا ينكر أن اقتناء كتاب، والخلود لشرفة تطل على بستان قد وشَّاه الزهر بعبيره، فنقطف وردة ذات أريج وريح طيب، فتكون بين دفتي الكتاب، كلما فتح ذكَّرتنا بأيام وساعات صفاء، وأيام لا تنسى في الحياة؟!
أعتقد أن النشر التقني يفتقد كثيرًا لواحدة كتلك، حتى ولو شَب عن الطوق فتى من فتيان اليوم، وقال: بهاتفي النقَّال والحاسوب المحمول أستطيع الجلوس حيثما شئت، وإلى أي مكان انتقلت!
أقول له: ربما لم تذق حلاوة القراءة والتنقل بين سطور الكتب، وذكريات مع الصفحات، لتتنفس عبق الزمن الجميل، وسوف أبارزك بنفس سلاحك يا فتى، بمقال تفضلَتْ بنشره الكريمةُ (ثقافة ومعرفة /فكر)، بعنوان “مصادر صناعية”، حين سردت فيه قائلًا:
“أحسُّ هذا المصدر الآن، أعيشُ لحظاته، فها هو “التيار الكهربي” مُنقَطِع من ساعة مبكرة من صباح يومي، وتلك هي الساعة التي تعوَّدت وتأقلَمْتُ فيها أن أجلس إلى جهازي، وأمسك بالفأرة، وأطوفُ عبرَ صفحاتي المحفوظة، والشبكة العنكبوتية؛ إشباعًا لرَغَبات الفكر والعقل؛ وتسهيلًا لمهمة البحث بأناملَ وسبَّابةٍ وإبهام.
أجد نفسي الآن أمامَ ثلاثةٍ لا رابع لها: “القلم، والورقة، والكتاب”، حاولتُ أن أتواكب معهم قدرَ المستطاع، علمًا بأنه وَضْعٌ مؤقَّت، ولكن من المحن تنجلي المِنحُ؛ كما يستبشرون.
وتلك الحالة استدعت لديَّ حالةً أخرى من الإشفاق والإنصاف للرعيل الأول، كيف كان يحيا بدون تلك الطاقة المحسوسة غيرِ الملموسة، وليس الكلامُ عن تقنية الحاسوب وحسب، بل كل ما انسدَل تحت مسمَّى “تقنية” تتطلب الطاقة لكي تؤدي دورَها المصنوعة لأجله”[3].
ولك أن تتخيَّل مَا ذكرت، لن تجد مِن مفر سوى الكتاب الورقي الملموس.
عفوًا للإطالة، فالنشر التقني أدعى بأن يتناولها الكتَّاب وأهل الفكر للذود عن المبادئ، شبهات كثيرة اختلط فيه الحابل بالنابل، وصارت الألسنة على كثرتها بدون رقيب، كأسلحة فتاكة تهتك أعراض الأمم.
فيا ربَّ العالمين، احفظ بلاد المسلمين والعرب من كل سوء وفتنة، واجعل الدائرة على الطغاة المفترين!
تم بحمد الله
[1] المعيارية الغائبة عن الأقلام الكاتبة.
[2] المعيارية الغائبة عن الأقلام الكاتبة.
[3] مصادر صناعية (1).
__________________________________________________________
الكاتب: محمد صادق عبدالعال
Source link