منذ حوالي ساعة
هذا الجيل الذي تُعوِّل عليه الأمة اليوم وغدًا هو جيل الألفية الثالثة، وهو جيلٌ يختلف في تكوينه المعرفي والفكري والعاطفي والاجتماعي عن الأجيال التي سبقته، فهو يصلح أن نطلق عليه جيل من زمن آخر
واقعة «نفخ البوق» التي شهدتها ساحات المسجد الأقصى في يوم الأحد 17-9-2023م، بعد محاولات سابقة، أيقظت في النفوس احتراسًا وقلقًا على مستقبل المسجد الأقصى القريب والبعيد؛ «فنفخ البوق» ليس حدثًا استفزازيًّا عاديًّا، بل هو بمثابة الإعلان عن تحويل المسجد إلى هيكل، وإيذان صهيونيّ لفَرْض طقوسهم التوراتية بالقوة على مرأى المرابطين في الأقصى، وعلى مسمع المسلمين في العالم، فهو بمثابة بيان تفوُّقٍ وسيادة، وتعبير عن بداية خطوة أساسية على طريق التأسيس الفعلي للهيكل.
هذا الإشعار اليهودي المتربِّص، أعاد إلى الأذهان السؤال الذي يتجدد كلما تعقَّد وطال أمد قضية مسجد الأقصى، فهو أصبح جزءًا من عقيدة وطبيعة هذا الجيل الذي سوف يستلم راية النضال، ويجدِّد للأمة الإسلامية آمالها في دَحْر الاحتلال، ويُعيد للأقصى حريته وطهره في أحضان المسلمين، وستبقى مآذنه شامخة، تتردد أصداء الأذان في أرجائه في الصلوات الخمس.
هذا الجيل الذي تُعوِّل عليه الأمة اليوم وغدًا هو جيل الألفية الثالثة، وهو جيلٌ يختلف في تكوينه المعرفي والفكري والعاطفي والاجتماعي عن الأجيال التي سبقته، فهو يصلح أن نطلق عليه جيل من زمن آخر، لديه قناعات، ومنافذ تكوين تتلاءم مع روح العصر الذي يوجد فيه، ومع ذلك يظل هناك سؤال عن مدى جاهزيته لتبنّي فكرة الدفاع عن أقدس مقدسات الأُمّة، هو السؤال الذي يُؤرِّق ويشغل تفكير الجيل الأكبر للأُمّة، وتزداد حوله التكهُّنات، والإجابة عنه تحتاج أن ندلج إليه بقراءة واقعية، نتلمّس فيها بعض جوانب وخصائص هذا الجيل.
في البداية نقف مع مقالٍ نُشر بتاريخ شهر مايو من عام (2021م) مِن قِبَل مجلة فورين بوليسي -وهي مجلة أمريكية تصدر كل شهرين-، ذكرت فيه: أنه بعد القصف الإسرائيلي على مدينة غزة لمدة (11) يومًا متواصلًا، واستفزازات القوات الإسرائيلية لحي الشيخ جراح، لم يتحرك لوقف العدوان إلا مجموعات شبابية استطاعت بفضل تضامنهم المجتمعي، كسر حاجز احتكار منفذ التأثير؛ من خلال إنشائهم لمجموعات دعم في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي الأماكن المستهدفة مثل الشيخ جراح، وإسماع العالم أصواتهم؛ من خلال الاحتجاجات المكثَّفة والمُنظَّمة، والتحدُّث ببلاغة إلى وسائل الإعلام العالمية، نجحوا في أن يكونوا قوة ضغط لا يمكن إنكارها.
ويذكر المقال أيضًا أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تجاهلت كثيرًا جيل ما بعد اتفاقية أوسلو، استفاقت على أن القيادة التي طالما دعمتها ليست هي القيادة الحقيقية للشعب الفلسطيني، وأن القيادة على أرض الواقع هي قيادة المجتمع المدني الذي يتزعمه ويقوده الوعي الشبابي.
وفي خارج الأرضي الفلسطينية تم رصد موجات تعاطف كبيرة وتنديد مِن قِبَل الشباب الإسلامي والعربي ضد الاعتداءات الإسرائيلية، مُظهرين معنًى عميقًا للمشاركة الوجدانية إلى جانب الاعتزاز والوعي بمفهوم الأُمَّة الواحدة.
إذًا الوعي الشبابي المُعاصر الحرّ؛ هو أحد الاستجابات التي يمكن أن تَكشف لنا عن طبيعة هذا الجيل الذي يجبرنا أن نعترف بوجود جناح شبابي مُعاصر يمكن الاستثمار فيه في سياق حركة النضال، التي يمكن تسميتها بالوعي الشبابي الذي كان في السابق وعيًا حياديًّا أو محبطًا.
وفي خضم هذه الأحداث بدأنا نراه وعيًا تراكميًّا يقف على نوع جديد من التفكير المعاصر، الذي ينطلق من ركنيين أساسيين؛ هما:
أولًا: الشعور بالتفرُّد القِيَميّ:
يقرِّر الدكتور زكي نجيب محمود، أن القِيَم تقوم بدور ربّان السفينة، التي يُجريها ويُرسيها إلى القصد المرسوم والهدف المعلوم؛ ففَهْم الإنسان على حقيقته يبدأ من فَهْم القِيَم التي يتمسك بها.
فالشاب المُعاصر يرى أن كل ما ورثه من الألوان الثقافية مُعرَّضة للامتحان؛ فكل شيء يَعتريه التغيير السريع أو الهزات المُشكِّكة، لذلك يميل في تبنّي القِيَم النابعة من داخله أولًا، ومِن ثَم الميل إلى القِيَم الأكثر شمولية وعمومية، مثل قِيَم الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان ورفض الظلم.
وفي بنائه لنَسَق قِيَمه يعتمد على عمليات الضبط والتوجيه الداخلي (Locus of Control) والتمرد على الضبط الخارجي، مما يُحرِّره عما يسميه المُفكر الإسلامي (مالك بن نبي) داء «القابلية للاستعمار»، وهو الخنوع والقبوع والخوف؛ لذلك فإن الشباب الحالي هو أكثر جراءة وتمردًا من الجيل الذي سبقه الذي ما يزال يحترم السكون، ولم يتقبل بعدُ موجة التغييرات المتلاحقة، وما يزال يُعاني من ذاكرة الهزائم والنكبات.
وقد استشرف الأستاذ عمر مسقاوي -رفيق درب المفكر الراحل مالك بن نبي- ضرورة ذلك بقوله: «الخروج من القابلية للاستعمار يتطلب جيلًا جديدًا ومعايير جديدة». وكأن جيل الألفية الثالثة بمعاييره الحالية، هو ذلك الجيل المتفرد الذي يتجرَّد من لغة المصلحة الشخصية عند الأزمات إذا رأى ضرورة ذلك، ويبتعد عن طَرْق طُبول الولاء لأصحاب السيادة؛ لأنه يرفض فكرة التبعية، ولديه إيمان مطلق بكرامة الإنسان، لا يخاف التجديد والمغامرة واقتحام المخاطر، ويفضل الاندفاع نحو القِيَم التي تُميِّزه وتميز عصره.
ثانيًا: عالميَّة المهارات
لا نبالغ إذا قلنا: إن التاريخ على امتداد ما قدَّمه من معلومات وتقنيات ومهارات، لا يُقارَن بما يشهده العصر الحاضر من تدفُّق معرفي وانفجار معلوماتي، وطفرة في عالم التواصل والاتصال، فهذا النقلة المُعاصِرة هي ثورة تختلف جذريًّا عن الثورات المعرفية التي مرَّت على البشرية كمًّا وكيفًا ونوعًا.
فالإنسان الذي وجد نفسه في هذا الزمن، أُتيحت له الفرصة في أن يطلع على نافذة مفتوحة من الأخبار والأفكار والفنون والترفيه، واكتساب كمّ هائل من المهارات، والوقوف على آخر إبداعات البشر، يستفيد منها ويُضيف إليها، فهو ابن التكنولوجيا والتقنيات المتقدمة، لا يعرف عالمًا مختلفًا عن هذا العالم الذي هو واقع لا محالة لا تستطيع أيّ أمة أو أيّ مجتمع أن تُدير له ظهرها وتنكفئ على ذاتها.
وفئة الشباب هي الفئة الأكثر تميُّزًا وإدراكًا واستيعابًا وارتباطًا بالعالم الجديد، بابتكاراتها، بأفكارها، ومهاراتها؛ فهم يشعرون بالانتماء إلى اللغة المعاصرة التي يُحقِّقون من ورائها مكاسب علمية وتقنية تُعزِّز فيهم شعورهم بالتفرد والنجاح.
إن أبناء القرن الحادي والعشرين (الألفية الثالثة) هم الأكثر قدرة على التواصل والإيصال، وابتكار منتجات اتصال مقنعة وفعَّالة؛ مثل الفيديوهات والملفات الصوتية، فَهُم مُتمرِّنون في كيفية بناء الرسائل الإعلامية وإيصال صوت الحق إلى العالم، وهم ماهرون في التفاعل مع قضايا الأمة أين ما كانت، وقضية «مسلمي الروهينجا» كانت شاهدةً على قوة مهاراتهم؛ إذ أحسنوا استخدامها، وحاولوا أن يُطبِّقوا الفهم الجوهري للقضايا الأخلاقية والقانونية المرتبطة بالوصول إلى الرسائل الإعلامية والاستفادة منها في تدويل قضية المسجد الأقصى، ونشر حسّ المسؤولية لبقية الشباب والأمة الإسلامية.
هذه المهارات العالمية، والشعور بالتفرد القِيَمِيّ كفيلان أن يَخلقا مؤشرات مُبشِّرة على قدرة استمرار نضال متميز يشبه جيل الألفية الثالثة، وبالتالي فإن من الإعداد {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة} [الأنفال: 60]؛ أن يتمّ الاهتمام بهذا الجيل اهتمامًا يُعزِّز الوعي بذواتهم وبإمكانياتهم، ويحترم عقولهم، ويُقدِّم لهم موادّ معرفية على درجة عالية من الحِرَفِيَّة تُخاطب تَصوُّرات الشباب، وتفتح المجال أمامهم لمعرفة الأخطار التي تُحيط بأُمّتهم، والتي تُحاك ضد المسجد الأقصى، مع تذكيرهم دائمًا بفعالية وحيوية دورهم تجاه المسجد الأقصى، حتى تتعمَّق لديهم تلك الِقيَم الإسلامية من التعاضد والتضامن، وأن مسؤولية أوجاع المسلمين هي جزء من أوجاعهم ومن مسؤولياتهم.
__________________________________________________
الكاتب: د. فاطمة محمد حوش
Source link