مجاهدة النفس أولها صعبٌ وأخرها عذبٌ، قال أحد الصالحين: سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك.
عباد الله: إن الله أمر بمجاهدة النفس على لزوم الطاعة، والبعد عن المعصية، فقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78]. قال عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
مجاهدة النفس من أهم المهمات، وهو الجهاد الأكبر وهو حق الجهاد، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله». (رواه أحمد)، وقال بعض الصحابة رضي الله عنهم لمن سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها.
مجاهدة النفس حملها على اتباع أوامر الله تعالى، والوقوف عند حدوده، واجتناب نواهيه، ومخالفة الهوى، وفطامها عن الشَّهوات، وتزكيتها بالأعمال الصالحة، لتفضي إلى الفلاح. {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].
ولجهاد النفس مراتب ينبغي معرفتُها؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: ” جهاد النفس على أربع مراتب: الأولى: مجاهدتها على تعلُّم الهدى ودين الحق، والثانية: مجاهدتها على العمل به بعد علمه، والثالثة: مجاهدتها على الدعوة إلى الحق، الرابعة: مجاهدتها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله… فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربَّانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يُسمَّى ربانيًّا حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه، فمن علِم وعمل وعلَّمَ فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات”.
وجهاد النفس على الطاعة والمثابرة على أداء الواجبات من أفضل الأعمال، ولا يكمل إيمان العبد إلا بالصبر، وكبح جماح النفس عن الانزلاق في المحرمات.
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ انْ تهْمِلْهُ شَب عَلَى ** حب الرضَاعِ وَانْ تفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
والعبد إذا صبر على أداء الواجبات على وجهها، وحبس نفسه عن مقارفة السيئات تعبداً وامتثالاً لأوامره سبحانه؛ أورثه ذلك طمأنينة وراحة نفسية، وأحس من نفسه محبة للطاعة، وكرهاً للمعصية؛ فتصير صفة من صفاته، فإذا حقق المجاهدة حصل له عون من الله، فسدده ووفقه، وهيأ له أسباب ذلك. يقول تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، ويكون هواه فيما يحبه الله ويرضاه، قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به». وهذه علامة من علامات كمال إيمان العبد.
مجاهدة النفس الأمارة بالسوء، في ترك المحارم، سُئل عمر رضي الله عنه عن قوم يشتهون المعاصي ولا يعملون بها، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3].
مجاهدة النفس أولها صعبٌ وأخرها عذبٌ، قال أحد الصالحين: سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك.
وقد كان النبي خيرَ قدوة في مجاهدة النفس، فعن عائشة رضى الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً». (متفق عليه)، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء. قلنا: وما هممت؟ قال: أن أقعد وأذره». (رواه البخاري).
وقد اقتدى به أصحابه واهتدى بهديه المهتدون، فعن ربيعة بن كعب الأسلمي رضى الله عنه قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سل»، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: «أو غير ذلك» ؟» قلت: هو ذاك، قال: «فأعنى على نفسك بكثرة السجود». (رواه مسلم).
وعن أبىّ بن كعب رضى الله عنه قال: «كان رجل لا أعلم رجلاً أبعدَ من المسجد منه وكانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفى الرمضاء، فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد جمع الله لك ذلك كُلَّهُ» (رواه مسلم).
فعليكم -عباد الله- بالصبر على أداء الطاعات، ومجاهدة النفس على ذلك، فإنه لا يتم الإيمان إلا بالصبر، قال ابن رجب -رحمه الله-:” وأعظم مجاهدة النفس على طاعة الله عمارة بيوته بالذكر والطاعة”.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمتــه ** أتطلب الربح مما فيه خســـران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين، من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
Source link