الحرب تسبب عدم الأمان للمجتمع، ثم تسبِّب الجوع، ثم دمار البنى التحتية والمؤسسية، ودمار في أجساد المصابين، ودمار مؤسساتي، ثم دمار للإنسان، هنا تهاجر المواهب، وتهاجر الموارد البشرية المميزة؛ طمعًا في الأمان…
مقدمة:
قالوا قديمًا: إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه؛ بمعنى أنه دائمًا يبحث عن جماعة من البشر يعيش ويتعامل معهم، سواء كانت الأسرة أو الأصدقاء أو حتى جماعة العمل، فلا يمكن لعاملٍ أو موظف أن يعمل بمفرده، بل يحتاج إلى وسط اجتماعي في المؤسسة؛ ليتبادل معهم الحديث وأداء الأعمال، والأدوار، ويتلقى الأوامر.
وبقدر ما يخلق الموظفون والإدارة بيئة اجتماعية إيجابية، بقدر ما يؤدي ذلك إلى تحقيق السعادة في مكان العمل، والتحفيز نحو الإنجاز، بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، عندما نقول: إن هذا يزيد من فرص الحفاظ على المواهب الموجودة، ويدفع لاستقطاب مواهب جديدة.
طبيعة الحياة:
هل الحياة مستقرة بطبعها؟ هل حياة الإنسان ثابتة لا تتغير؟ الجواب: إن من المستحيل أن نقول: إن الحياة مستقرة بطبعها، بل هي متغيرة وسريعة التغير أحيانًا، بدليل أنك ربما تكون سعيدًا الآن، ثم يحدث أمر غير متوقَّع يعكر سعادتك، سواء كان حدثًا شخصيًّا، أو عائليًّا، أو حتى عند أحد الأصدقاء والأقارب، فالقاعدة الثابتة أن دوام الحال من المُحال.
ولكن الفارق بين الناس هو قدرتهم على التحكم في آثار تلك المتغيرات، بحيث لا تتضرر حياتهم وأعمالهم، حتى يصلوا إلى حالة من التكيف مع تلك المتغيرات، وينطبق هذا أيضًا على بيئة العمل، فإذا ما حصل تغيرات كبيرة في المؤسسة بسبب عوامل داخلية أو خارجية، كان واجبًا على إدارة المؤسسة أن تبتكِرَ الحلول التي تخفف من تلك الآثار السلبية عليها وعلى الموظفين، حتى تحافظ على أدائها، ولو في أدنى المستويات، ولا تصل لمرحلة الانهيار.
الموارد البشرية تحت النار:
تخيل معي ذلك المشهد، نزوح آلاف البشر وهجرتهم من بلد يتعرض للدمار والقصف بالصواريخ والقنابل، حتى يصل إلى الهاوية، هم يهاجرون لأنهم يطلبون الأمان والاستقرار في بلد مطمئن ينعَم بالسلام والرفاه، نعم، إن ذلك ما يزال يحصل في العالم، ويمكنك أن تقرأ عن المآسي في فلسطين وأوكرانيا واليمن وغيرها من الدول.
ومع أننا خرجنا من آثار الحربين العالميتين الأولى والثانية، ونحن نلعن تلك الحروب وما ترتب عليها من مآسٍ وانهيارات اقتصادية واجتماعية ونفسية، إلا أن هناك قُوًى لا تزال تمارس الحرب كنوع من الهواية واللعب بمقدَّرات الشعوب والدول الضعيفة الأخرى.
أنا هنا لا أتحدث كسياسي، ولكن أتحدث كفرد يرى أمام عينيه في حياته الطبيعية آثار الحروب، وكفردٍ مهتم بالموارد البشرية التي تعتبر الخزان الكبير الذي يزوِّد البلاد بالطاقات المختلفة، وأرى آثار الحروب من مآسٍ وكوارث ودمار للبُنى التحتية والاجتماعية، والمؤسسات الحكومية والخاصة، وما تعانيه الدول من آثار ما بعد الحرب في إعادة بناء نفسها، وما تأخذه من وقت طويل في ذلك.
هجرة المواهب:
هذا العنوان الكبير الذي كان محل اهتمام الباحثين والمؤلفين، واجتمع لأجله الكُتَّاب والمهتمون في المؤتمرات واللقاءات العلمية؛ ليدرسوا أسبابه وآثاره، ويقدِّموا الحلول للتخفيف من هجرة المواهب، أستطيع أن أقول بكل ثقة، وضمن ما شاهدته وأنا أعيش تحت القصف: إن الحروب من أكبر الأسباب التي تؤدي إلى هجرة المواهب، وهو سبب أعمق بكثير من الأسباب الأخرى؛ كعدم التقدير، وقلة الامتيازات، وضعف مستوى الرواتب الشهرية، وغيرها.
فالحرب تسبب عدم الأمان للمجتمع، ثم تسبِّب الجوع، ثم دمار البنى التحتية والمؤسسية، ودمار في أجساد المصابين، ودمار مؤسساتي، ثم دمار للإنسان، هنا تهاجر المواهب، وتهاجر الموارد البشرية المميزة؛ طمعًا في الأمان والعمل في دول أكثر استقرارًا ليوفر لعائلته الأمن والمأكل والملبس، فهو هنا لا يبحث عن الامتيازات والمكافآت بالدرجة الأولى، لكن أولويته الأولى هي الاستقرار، وأينما وُجِدَ الخوف، فمن الصعب أن تجد البشر، بخاصة المميزون منهم.
وقد تعلَّمنا قديمًا هرم ماسلو؛ الذي تحدث عن الاحتياجات الإنسانية، وقال: إن حاجة الإنسان للطعام والشراب، والمأكل والملبس هي من الحاجات الأولية التي تكون في قاعدة الهرم، ثم يأتي بعد ذلك حاجته للأمان، وللأسف هذان الأمران مفقودان في البلاد التي تعاني من الحروب، فكيف تريد تلك الدول أن تنهض بمواردها البشرية في ظل تلك الأوضاع الكارثية؟
الاستنتاج:
لذا؛ فإني أقول: إن الحروب والمعارك من أكبر الأسباب وأقواها في هجرة الناس عمومًا، وهجرة المواهب على وجه الخصوص؛ لذا يجب العمل على ما يلي:
1- تشكيل هيئة دولية لإدارة الموارد البشرية، يكون أحد مهامها وأدوارها هو التذكير والتوعية دائمًا بآثار الحروب السلبية على الموارد البشرية الموهوبة وغير الموهوبة.
2- أن يكون لدى المؤسسات في الدول المصنَّفة بأنها مناطق حمراء خُططٌ للطوارئ، تُخفِّف قدر الإمكان من هجرة المواهب وقت الحروب.
3- أن تحترم الدول المستضيفة المواهب المهاجرة، وأن تقدم لهم كافة سبل الدعم والإسناد، والأمن والسلام، والامتيازات اللازمة.
__________________________________________________________
الكاتب: شعبان وليد شعبان صبَّاح
Source link