حقيقة التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من نور الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله خوف عقاب الله.
لقد كرم الله تعالى الأنبياء والمرسلين بأن جعل التقوى أصلاً من أصول أعمالهم وغرضًا بارزًا من أغراض دعوتهم وهدفًا من أهداف تربيتهم. فهذا نوحٌ عليه السلام يدعو قومَه إلى التقوى بنصٍّ واضحٍ وصريحٍ في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:105-110].
ذكر الله تعالى هنا الأمر بالتقوى ثلاث مرات في خمس آيات لما يدل عليه هذا الخلق الكريم من اهتمامٍ وعنايةٍ في الذكر الحكيم بأمر رب العالمين ومثل هذا يقال في شأن هودٍ مع قومه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء:124].
وفي شأن صالح مع قومه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء:242].
وفي شأن لوط مع قومه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 161].
وفي قوم إبراهيم: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت:16].
كذلك أقوام شعيب وإلياس وغيرهم من الأنبياء والمرسلين لقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
عباد الله: وفي دين الاسلام وشريعة خير الأنام محمد صل الله عليه وسلم، كانت التقوى هدفاً رئيسي وغاية ضرورية لتشريعات الإسلام وعباداته، ففي عبادة الصوم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] فإذا لم يحدث الصيام للإنسان تلك التقوى، فإنه لم يحقق الغرض الذي شرعه الله من أجله، ويقول صلى الله عليه وسلم-: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (البخاري).
يقول ابن كثير: يقول -تعالى- مخاطباً المؤمنين من هذه الأمة وآمراً لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتـها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة.. [ج 1/202].
وقال ابن القيم: .. فهو [أي الصيام] من أكبر العون على التقوى.
وحقيقة التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من نور الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله خوف عقاب الله. وضرب لها أبو هريرة -رضي الله عنه- مثلا حين سأله رجل: ما التقوى؟ فأجابه أبو هريرة: هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال الرجل: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، فقال: ذاك التقوى.
خلّ الذنوبَ صغيرهــا *** وكبيرها فهو التُّقــــــــى
واصنع كماشٍ فوق أر *** ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيـــــــرةً *** إن الجبال من الحصـــى
وإذا سموت في درجات التقوى فإن التقوى أن تدع أشياء من الحلال مخافة أن يجرك فعلها إلى الحرام، قال ابن عمر -رضي الله عنه-: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر (البخاري)، وقال الحسن البصرى -رحمه الله-: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام، وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: تمام التقوى أن يتقي الله العبد، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حرام يكون بينه وبين الحرام، واختصر أحمد ابن حنبل -رحمه الله- هذا الكلام قائلًا: التقوى: ترك ما تهوى لما تخشى.
ونخلص من هذا كله أن أول درجات التقوى هي: فعل الواجبات، وترك المحرمات، وثانيها: التقرب بالنوافل والقربات واجتناب المكروهات… ثم ما يزال العبد يترقى في درجاتها حتى يجعل بينه وبين الحرام سترة من الحلال.
قال نافع خرجت مع ابن عمر رضي الله عنهما في بعض نواحي المدينة فوضعوا سفرة، فمر بهم راع فقال له عبد الله هلم يا راعي _ أي شاركنا طعامنا_ فقال الراعي: إني صائم.
قال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره في هذا الشعاب.
قال الراعي: أبادر أيامي.
قال ابن عمر: هل لك أن تبيعنا شاة ونعطيك من لحمها ما تفطر عليه؟
قال الراعي: أنها لمولاي.
قال ابن عمر: فما عسى أن تقول لمولاك إن قلت أكلها الذئب؟
فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء يقول فأين الله؟ فبعث ابن عمر إلى سيد الراعي فاشترى منه الغنم والراعي فاعتق الراعي ووهب له الغنم، إنها التقوى.
أيها المسلمون: ولأهمية التقوى ومنزلتها العظيمة كانت وصية الله -سبحانه-، ووصية جميع الأنبياء لأقوامهم، ووصية النبي-صلى الله عليه وسلم- لأمته، ووصية الصحابة والصالحين. فأما إنها وصية الله للأولين والأخرين، فقد قال -سبحانه-: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وأكد -عز وجل- قائلًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وفي القرآن أكثر من خمسين مرة يأمرنا -سبحانه- قائلًا: (اتَّقُوا اللَّهَ).
والتقوي وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، فعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة» (الترمذي)، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني أريد سفرًا فزودني، قال: «زودك الله التقوى» (الترمذي).
والتقوى وصية الصحابة والتابعين، فعن عبد الله بن عكيم قال: خطبنا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل قال: أوصيكم بتقوى الله (الحاكم)، ولما أراد أبو بكر -رضي الله عنه- أن يستخلف عمر -رضي الله عنه- بعث إليه فدعاه فأتاه، فقال: إني أدعوك إلى أمر متعب لمن وليه، فاتق الله يا عمر بطاعته، وأطعه بتقواه، فإن المتقي آمن محفوظ (الطبراني). وهذا عمر -رضي الله عنه- يكتب إلى ابنه عبد الله: أما بعد: فإنه من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده؛ فليكن التقوى عماد عملك، وجلاء قلبك.
ولذا فيسنُّ لكل خطيب وكل مودع لمسافر وكل موصٍ… أن يأمر بتقوى الله تعالى.
عباد الله: للتقوى فضائل عظيمة في حياة الأفراد والمجتمعات فمن ذلك:
أن التقوى أفضل لباس وخير زاد: قال -سبحانه-: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، وقال -سبحانه-: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب} [البقرة:197]. فاللباس نوعان: لباس للجسد من الأقمشة والجلود؛ ليحميها من الحر والبرد، ولباس التقوى؛ ليقي النفس من المعاصي وعذاب جهنم، ولا شك أن الثاني خير من الأول.
وما لِبسَ الإنسانُ أبهى من التقى *** وإن هو غالي في حِسانِ الملابسِ
ومنها: أن التقوى مفتاح لقبول الأعمال الصالحة: قال -سبحانه-: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
ومن فضائلها: معية الله ومحبته للمتقين: قال -سبحانه-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[البقرة:194]، وقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنَّ الله يحب التقي الغني الخفي» (مسلم).
ومن ذلك: ولاية الله للمتقين: قال تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19]، أولئك أولياء الله الذين تبشرهم الملائكة عند موتهم وفي آخرتهم، قال -سبحانه-: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 62 – 63]، فأما عند موتهم {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30 ]، وفي يوم القيامة {لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].
عباد الله: وللمتقين صفات ينبغي لكم مسلم أن يسعى للإتصاف بها قولا وسلوكاً وعملاً منها:
الإيمان بالغيب والعمل الصالح: قال -سبحانه-: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:2-3].
ثانيًا: المسارعة إلى التوبة إن بدر منه ذنب: قال -سبحانه-: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
ومنها: تعظيم شعائر الله: قال -سبحانه-: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
ومنها: العدل حتى مع من يبغض: قال -سبحانه-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
ومن ذلك: من توافرت فيه هذه الصفات المذكورة في قوله -سبحانه-: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، وقد تضمنت هذه الآيات عدة صفات للمتقين منها: الإيمان بالله وباليوم الآخرة وبالملائكة وبكتبه وبالأنبياء، وبذل المال للأقارب والأيتام والمساكين وابن السبيل والسائلين، وفك الرقاب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر في مواقفه…
أيها المؤمنون: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه فليقل: إني امرؤٌ صائم»؛ (رواه البخاري ومسلم).
فهذا توجيهٌ لما يجبُ أن يكون عليه الصائم من كمال النفس، وطِيب الروح، وتأثير التقوى؛ لأن رمضان يصِل النفوس بالله فيُشرِقُ عليها من لدُنه النور حتى تذوقَ حلاوةَ الإيمان، ومن ذاقَ حلاوةَ الإيمان لم يعرفِ البغضاء ولا الشر ولا العُدوان.
وإذا تحقَّقت التقوى في القلوب فإنه تمحُو الغشَّ من نفوس أهلها محوًا، ويملؤها خوفُ الله ورجاؤه فتعِفُّ نفوسهم عن الحرام، وتغضُّ أبصارهم عن المحارم، وتقِف ألسنتُهم عن الكذب؛ لأنها جرَت بذكر الله واستغفاره، وهانَت عليهم الدنيا حين أرادوا اللهَ والدار الآخرة، فغدَا الناسُ آمنين أن يغشَّهم تاجر، أو يعتدِي عليهم فاجِر وهذا من أعظم ثمرات التقوى وأجلّها.
ومن هذه الثمرات: تفريج الكربات: فالتقي يفرج الله عنه كل كرب في دنياه وآخراه، قال -سبحانه-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، وينجيه الله إذ يهلك الفاسقين، قال -سبحانه-: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18].
ومنها: تيسير المصالح: قال -سبحانه-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4].
ومنها: تيسير العلم النافع: فقد اشترط الله في العبد التقوى ليعلمه، قائلًا: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:182].
ومن ذلك: حصول البصيرة ومغفرة الذنوب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29].
ومن هذه الثمرات: توسعة الارزاق ونزول البركات: قال -سبحانه-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3]، وقال -عز وجل-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96].
ثم إن للمتقين الدرجات العليا من الجنة: فقد كررها القرآن مرارًا: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]، وثانية: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31]، وثالثة: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وأخرى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55]، ولما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: «تقوى الله وحسن الخلق» (الترمذي).
إن التقوى أسلوب حياة فالتقوى توجد في جميع مجالات الحياة وحيث وجد التصرف الإنساني:
فالطالب في مدرسته عليه أن يكون متقيا لله سبحانه وتعالى فإن استطاع أن يغافل مدرسه ويغش في امتحانه فهو لن يستطيع أن يفلت من رقابة الله سبحانه وتعالى فعليه أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى يراه فيمتنع عن الغش لكي لا يقع في ما حرم الله.
المدرس عليه أن يكون متقيا لله سبحانه وتعالى فعليه أن يعطي درسه بحيث يصل إلى جميع الطلاب ويكون في المقام الذي يفترض أن يوجد فيه فيكون المربي والمدرس.
الموظف في مكان عمله إن استطاع أن يؤمن الظروف التي تكفل له بعده عن عين الرقيب وقبل على نفسه الرشوة فعليه أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى يراه ويعلم بفعله فعليه أن يمتنع عن الرشوة لكي يجعل بين وبين ما حرم الله وقاية.
التاجر إن استطاع أن يغش في بضاعته ويخدع الزبون فعليه أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم بفعلته وأنه لن يرضى عنها فعليه أن يجعل وقاية بينه وبين محارمه.
الطبيب إن علم أن مريضه ليس بحاجة لعمل جراحي ولكنه اقنع ذلك المريض بأنه بحاجة لذلك العمل لكي يكسب من ورائه المال فعليه أن يدرك أن الله سبحانه وتعالى يعلم بفعله وأنه لن يرضى به فعليه أن يمتنع عن ذلك الفعل كي يضع وقاية بينه وبين ما حرم الله.
وهي مطلوبة من الحاكم والوزير والمدير والضابط ورب الأسرة والرجل والمرأة ومن الناس جميعاَ، وهكذا نستطيع أن نعمم التقوى على جميع مجالات الحياة ليعيش المجتمع في أمن وأمان ورغد من العيش واطمئنان.
عليكَ بتَقوى اللّه في كل أمــــــرِه *** تجد غبَّها يوم الحسابِ المطَّولِ
ألا إِن تقوى اللّه خيرُ مغبــــــــــــةٍ *** وأفضلُ زادِ الظاعنِ المتحمــــلِ
ولا خيرَ في طول الحياةِ وعيشِها *** إِذا أنتَ منها بالتقى لم ترحــــلِ
أيها المؤمنون: فإذا كان الإيمان أمرًا سريًّا، وكانت التقوى أمرًا سريًّا، وكان الصيام أمرًا سريًّا، فناسب ذلك أن يأتي الصيام بين الإيمان والتقوى؛ لأنَّ الثلاثة أمورٌ سرّيَّة لا يطَّلع عليها إلا علام الغيوب، ولذلك اسمع إلى قول مولانا في الحديث القدسي يؤكد سرّيَّة الصيام، فيقول: «كلُّ عمل ابنِ آدمَ له، إلا الصومَ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّةٌ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَب، فإن شاتمه أَحَدٌ أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم، والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيده، لخَلُوفُ فمِ الصَّائم أطيبُ عند الله من ريح المسْك، للصائم فرحتان يفرحُهما: إذا أفطر فَرِحَ بفطره، وإذا لقي ربَّه فرح بصومه»؛ (متَّفق عليه).
معاشر المسلمين: انظروا إلى هذه الثمرات العظيمة للتقوى والتي هي من مقاصد الصوم، واستغلوا شهر رمضان بتربية نفوسكم وتزكيتها بالتقوى لتفلحوا في الدنيا والأخرى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى *** ولاقيت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثلــــه *** وأنك لم تُرصد كما كان أرصــــدا
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
__________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري
Source link