فما المقصود بالتَّنَمُّر؟ وما هي أشكاله؟ وما هي صوره؟ وكيف حارب الإسلام تلك الظاهرة؟
أما بعد: أيها الإخوة الأحباب، حديثنا في ذلك اليوم الطيب المبارك عن ظاهرة من أخطر الظواهر التي حرمها الإسلام، وحذَّر من خطرها وضررها، ظاهرة قد انتشرت بين أبناء المجتمع، وأصبحت أمرًا معتادًا بين أفراد المجتمع؛ إنها ظاهرة التَّنَمُّر.
فما المقصود بالتَّنَمُّر؟ وما هي أشكاله؟ وما هي صوره؟ وكيف حارب الإسلام تلك الظاهرة؟
أعيروني القلوب والأسماع أيها الكرام.
أولًا: تعريف التَّنَمُّر: معاشر الموحدين، لقد عرَّف العلماء التَّنَمُّر بأنه السلوك العدوانيُّ المتكرر الذي يهدف إلى الإضرار بفرد آخر بطريقة عمدية، سواء كان هذا الإضرار نفسيًّا أو جسديًّا، والتصرفات التي يندرج تحتها مفهوم التَّنَمُّر كثيرة ومتنوعة.
ويعرف أيضًا بأنه: كلُّ لفظ وفِعْلٍ يصدر من فرد أو مجموعة من الأفراد، يتسبب في إيذاء وإساءة فرد آخر أضعف، وقد يكون جسديًّا، أو لفظيًّا، أو بأي شكل كان؛ بغرض الترهيب والتخويف لاتباعه، والانصياع لأوامره.
فمنها الإساءة بالنظر، ومنها التنابز بالألقاب، ومنها استخدام الألفاظ الجارحة، أو كتابة جمل تسيء إلى مشاعر فردٍ، وقد تكون أيضًا استبعادًا من ممارسة نشاط معين، أو حضور مناسبة اجتماعية، أو إكراه الشخص على فعل شيء يرفضه.
والتَّنَمُّر قد يَصِلُ أيضًا للإساءة الجسدية، والشخص المتنمر في الغالب لا يكون منتبهًا إلى ما يفعله، وقد يفعله بالقصد، وهنا الدافع كما حدَّده علماء النفس يكون الغَيرة، أو لأنه قد تعرض لهذا الفعل في يوم من الأيام.
ثانيًا: صور التَّنَمُّر وأشكاله:
الصور الأولى: العنصرية البغيضة:
اعلموا بارك الله فيكم أن الإسلام ينظر إلى الناس نظرةَ مساواة من حيث أصل الخِلْقَةِ، فليس هناك جنس يُفضَّل على جنس آخر في الخلقة، بل إن الناس يتساوون في الكرامة، من حيث إنهم جميعًا بنو آدم؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وإذا كان هناك تفاضل فيما بينهم، فإنما هو يرجع في الأصل إلى الأعمال الفاضلة التي يكتسبونها بجهودهم المشرفة؛ ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة أمَرَ الله مناديًا ينادي: ألَا إني جعلتُ نسبًا، وجعلتُم نسبًا، فجَعلتُ أكرمكم أتقاكم، فأبيتُم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خيرٌ من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي، وأضَعُ نسبكم، أين المتقون» ؟))؛ [رواه الطبراني في الأوسط والصغير، والبيهقي مرفوعًا وموقوفًا، وقال: المحفوظ الموقوف، وتقدم في أول كتاب العلم، حديث أبي هريرة الصحيح فيه: «من بَطَّأ به عمله، لم يسرع به نسبه»[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرَها بالآباء، الناس بنو آدم، وآدم من تراب، مؤمن تقيٌّ، وفاجر شقيٌّ، لَينتهيَنَّ أقوامٌ يفتخرون برجال، إنما هم فَحْمٌ من فَحْمِ جهنمَ، أو ليكونن أهون على الله من الجِعْلان، التي تدفع النَّتِن بأنفها»[2].
وأما الذي يحتقرون الناس لأنهم أغنياء، أو لأنهم في مناصب مُغْرِيَّة، أو لأن كلمتهم في الناس مسموعة، أو لأن الشعب يخشاهم ويخافهم، فإنني أقول لهم: أنهم يجب أنْ يَفْهَمُوا أن وزنهم في نظر دين الله بحسب عملهم الصالح النافع لهم ولغيرهم، وأنهم بدون عمل صالح يعملونه ابتغاء وجه الله، ويكون مرسومًا بحدود شريعة الله، فإنهم حينئذٍ أهون على الله، وأحقر من الخنافس والصراصير وحشرات المزابل، كما مرَّ في الحديث النبوي باب الكبر[3] عن المعرور، قال: لقيت أبا ذر بالرَّبَذة وعليه حُلَّة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: ((إني سابَبْتُ رجلًا فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، أعيَّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فَلْيُطْعِمْه مما يأكل، ولْيُلْبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»[4].
ومن التَّنَمُّر أذى الجار والتسلُّط عليه:
إخوة الإيمان، ومن مظاهر التَّنَمُّر التي نعاني منها التَّنَمُّرُ على الجيران والتسلط عليهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه».
وفي رواية: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه».
يقول ابن حجر: “وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار، وأن إضراره من الكبائر”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل وتصدَّقُ، وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله: «لا خير فيها، وهي من أهل النار» ، وقال: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدَّق بأثْوَارٍ من الأقِطِ ولا تؤذي أحدًا، فقال رسول الله: «هي من أهل الجنة»[5].
ففي حديث أبي جحيفة قال: ((جاء رجل إلى النبي يشكو جاره، فقال له: «اطرح متاعك في الطريق» ، قال: فجَعَلَ الناس يمرون به فيلعنونه – أي: يلعنون من كان يؤذي جاره – فجاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، ما لقيت من الناس، قال: «وما لقيت منهم» ؟ قال: يلعنوني، قال: «فقد لعنك الله قبل الناس» ، قال: يا رسول الله، فإني لا أعود))[6].
الاستهزاء والسخرية من الآخرين:
ومن مظاهر التَّنَمُّر على الآخرين في زمن العولمة كما يقولون، وزمن القنوات الفضائية والتمدن والتقدم، ظهرت اللامبالاة في ثياب عصرية بالية، وصار الناس لا يبالون بكثير من أمور الدين الحنيف، فأصبح الحجاب بدعة وتخلفًا، وأصبح الربا فائدة، والجهاد إرهابًا، وأصبح الذئب راعيًا، والخصم الجائر قاضيًا، ونطق الرُّويبضة، ووُسِّد الأمر إلى غير أهله، وأصبح الاستهزاء والسخرية فنًّا يُخدَم ويُراعى ويُعتنى به، وأصبح يُدرَّس على هؤلاء السفهاء، وأصبحوا يقدمون مكافآت لمن يمارسون ذلك في حياتهم، والعجب كل العجب أنك ترى أناسًا يسخرون وهم خنازير من الجياد الأصيلة، وكلاب يسخرون بالظِّباء الجميلة، وتراهم كَذَبَة يستهزؤون بالصادقين، وخونة يسخرون من الأمناء، وجبناء يسخرون من الشجعان، ومنافقين يسخرون من الصادقين.
إذا عيَّر الطائيَّ بالبخل مــــــــادرٌ *** وعيَّر قُسًّا بالفَهَاهةِ باقــــــــــــــــــلُ
وطاولت السحب السماءَ سفاهـة *** وفاخرت الأرضَ الحصى والجنادلُ
وقال السُّهى للشمس أنت ضئيلة *** وقال الدُّجى يا صبحُ لونك حائـــلُ
فيا موتُ زُرْ إن الحياة ذميمـــــة *** ويا نفسُ جِدِّي إن دهرك هــــــــازلُ
فأصبح أصحاب العفن الفني يسخرون من العلماء والخلفاء والأمراء، وأصبح السفهاء يسخرون بكل شيء؛ فهذا يسخر بالقرآن، وآخر يسخر بالسنة، وآخر يسخر بالمؤمنين والمؤمنات.
فيا من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، كفُّوا عن هذا الغثاء، وهذا العفن، ويا من لا تبالي بالاستهزاء، هيا لتعرف حقيقة الاستهزاء والسخرية، وموقف الشرع منهما.
فاليوم ترى وتسمع منافقين يسخرون من مؤمنين، وعلمانيين يسخرون من دعاة مخلصين صادقين، فيا سبحان الله! منافق يضلِّل عالمًا، ومجرم يضلل تقيًّا، هذا زمان انتكست فيه الموازين، وأصبح الأمر عاديًّا، حتى أضحى عالِمُ الدين والشريعة مصدرَ سخرية واستهزاء، فهم يسخرون من ثيابه وكلامه، ومن علمه الذي يحمله، حتى تزعزعت الثقة بين العلماء وعامة الأمة، فهيا يا من لا تبالي بتلك البلية، لتسمع إلى الله وهو يحذر من ذلك؛ يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
والسخرية: التحقير والاستهزاء، وتارة تكون بالتضحيك منه، والتشهير به، وتارة يحطه عن درجة الاعتبار، وإلحاقه بمن لا حرمة له ولا قيمة؛ كما يقول القائل:
فذاك الذي إن عاش لا يُعتنى به *** وإن مات لا تبكي عليه البواكي
وكما يقول القائل: هو أحقر من أن يُذْكَرَ.
وأمثلة قول ذلك الشاعر كثيرة، مما يدل على احتقار الإنسان لأخيه، واستصغاره لشأنه، وازدرائه لحقِّه وحُرمتِه وعدم العناية به، وهذا إن حَدَثَ بين المسلم وأخيه، فهو ضربة موجعة للرابطة التي تجمع بينهما؛ لأنه لا يليق ولا يجوز بين المتفقين في عقيدة واحدة، فهذه العقيدة أقوى وآصل، وأبقى وأشرف، فكيف لا يبالي بحرمة أخيه الذي أمره سبحانه وتعالى ألَّا يسخر ولا يستهزئ منه؟ بل هم جميعًا أمام الله ورسوله سواءٌ، لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، إلا بالتقوى والعمل الصالح؛ ولذا جاء الخطاب للأمة الإسلامية بجميع أفرادها، تنهاهم عن السخرية والاستهزاء؛ فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11].
قال العلَّامة ابن كثير رحمه الله: ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم؛ كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «الكِبْرُ بَطَرُ الحق، وغَمْصُ الناس، ويُروى: وغَمْطُ الناس»[7]، والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقَر أعظم قدرًا عند الله تعالى، وأحب إليه من الساخر منه المحتقِر له؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ» ﴾ [الحجرات: 11]، فنصَّ على نهي الرجال، وعطف نهي النساء.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبِعْ أحدكم على بَيْعِ أخيه، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يحقِره، التقوى ها هنا وأشار بيده إلى صدره ثلاث مرات، حسب امرئ مسلم من الشر أن يحقِرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعِرضه»[8].
التَّنَمُّر على خلق الله بالهمز واللمز:
وقوله تبارك وتعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]؛ أي لا تلمزوا الناس، والهمَّاز اللمَّاز من الرجال مذموم ملعون؛ كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، والهمز بالفعل واللمز بالقول؛ كما قال عز وجل: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]؛ أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاغيًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال؛ ولهذا قال ها هنا: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]، كما قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]؛ أي: لا يقتل بعضكم بعضًا.
قال ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير وقتادة، ومقاتل بن حيان: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]؛ أي: لا يطعن بعضكم على بعض، وقوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]؛ أي: لا تتداعَوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها[9].
التنابُزُ التداعي بالألقاب القبيحة: يا حمار، يا فاجر، يا كافر، يا قبيح، يا أعرج، يا كذا، يدعوه بألقاب لا يرضاها، هذا أيضًا من أسباب الشحناء والعداوة والبغضاء، وربما أفضى إلى القتال والفتن، فالواجب أن يدعوه بالأسماء الطيبة، والأسماء التي يحبها: يا فلان، يا محمد، يا أبا عبدالله، أما أن يدعوه بأسماء أو بعبارات وألقاب يكرهها، فهذا هو التنابز بالألقاب، فيجب الحذر من ذلك؛ لئلا يجر إلى الفتن والشحناء، والعداوة والبغضاء؛ ولهذا قال جل وعلا: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11]، فبيَّن لنا أن من تعاطى هذه الأمور يكون فاسقًا، فكيف يرضى بحاله أن يكون بعد الإيمان فاسقًا خارجًا عن طاعة الله جل وعلا؟ والفسوق هو الخروج عن الطاعة.
هناك الكثير من قصص السلف الصالح المرتبطة حول حكم التَّنَمُّر في الإسلام، فكان التنمر على أحد الصحابة من دقة ساقية، وتأتى الإجابة من رسول الله ليرفع من صاحبها أمام المتنمرين به، بل ويعطي الأوسمة والنياشين، ويجبر بخاطر صاحبها.
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((كنت أجتني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواكًا من الأراك، فكانت الريح تَكْفؤه، وكان في ساقه دِقَّةٌ، فضحِك القوم من دقة ساقي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما يضحككم» ؟ قالوا: من دقة ساقيه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «والذي نفسي بيده، لَهُمَا أثقل في الميزان من أُحُدٍ»[10].
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهْلَكُهم»[11].
التَّنَمُّر بالعلم: ومن مظاهر التَّنَمُّرِ التَّنَمُّرُ بالعلم بأن يتعلم العلم ليجادل به الناس، وليصرف به وجوه الناس إليه.
التَّنَمُّر بالعلم في المجالس فتجده – مثلًا – قرأ تفصيلًا لمسألة فرعية في (الزاد)، فإذا ما جلس في مجلس مع أقرانه، أو من سبقوه، تجده يثيرها ويفصل فيها، ولكن إذا سألته عن أبسط مسائل الطهارة، تراه لا يجد لها جوابًا.
كأن يدرس باب النكاح – مثلًا – ويحقق فيه، لكن لو تخرج به إلى باب البيع – الذي هو قبل باب النكاح في ترتيب الفقهاء – فلن تجد عنده شيئًا، كثيرٌ من الناس الآن يتنمر في علم الحديث، يقول: روى فلان عن فلان، وفيه انقطاع وسبب انقطاعه كذا، ثم لو سألته عن آية من كتاب الله، ما أجاب.
عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا تماروا به السفهاء، ولا لتخيِّروا[12] به المجالس، فمن فعل ذلك، فالنارَ فالنار»[13].
التَّنَمُّر الإلكتروني: إننا في زمن انتشر في التَّنَمُّر، وأصبح أداة للتعدي على الغير، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، واعلموا – عباد الله – أن هناك أشكالًا عديدة للتنمر الإلكتروني، نستعرضها معًا في النقاط التالية:
إشاعات وأكاذيب يتم إطلاقها للشخص المتنمَّر عليه.
السخرية وبثُّ رسائل مؤلمة، ورسائل عنصرية، عبر التعليقات عبر منصات التواصل الاجتماعي.
تأييد تلك التعليقات يعتبر تنمرًا أيضًا.
التهديد بنشر صورة أو فيديو أو محادثة خاصة.
السخرية من الشكل أو اللون، أو الديانة والثقافة، أو عدم القدرة على التحرك.
استعمال هُوِيَّةِ الضحية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والعمل على تشويه الصورة العامة له.
إرسال صور أو فيديوهات غير أخلاقية إلى الشخص المراد التَّنَمُّر عليه.
قال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
قيام الشخص المتنمِّر بسرقة حسابات شخصية للضحية، واستعمالها لأهداف غير مقبولة، وغير أخلاقية؛ وذلك بغرض التطفُّل على خصوصياته وحياته الشخصية.
يكون التَّنَمُّر أيضًا عن طريق انتحال الشخصية؛ حيث يقوم المتنمر بتقمُّص شخصية شخص ما، ووهم الآخرين بأنه هو ذاك الشخص؛ حيث يقوم – مثلًا – بسرقة الرقم السري لبريده الإلكتروني، أو لأحد حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، أو أن يقوم بأخذ الهاتف الجوال منه دون أن ينتبه؛ ليقوم بإرسال رسائل نصية مسيئة، أو صور غير لائقة، من حساب الشخص الضحية، ليظن الآخرون أنه هو المرسِل.
وهناك نوع آخر من التَّنَمُّر الإلكتروني يعتمد فيه الشخص المتنمِّر على عزل الضحية وتهميشه، كأن يقوم بطرده من نشاط ما، أو مجموعة ما على الإنترنت، أو أن يدعو جميع أصدقائه على الفيسبوك باستثناء الشخص الضحية، ويوضِّح له أنه استثناه؛ لأنه لا يرغب في وجوده في مجموعته؛ لأنه ممل وغير مهم على الإطلاق[14].
عن البراء قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العَوَاتِقَ في بيوتها، أو قال: في خُدُورِها، فقال: «يا معشر مَن آمَنَ بلسانه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبَّع عورة أخيه تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته، يَفْضَحْهُ في جوف بيته»[15].
وقال الحق جل جلاله: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148].
[1] رواه الطبراني في “المعجم الأوسط” (4511)، و”المعجم الصغير” (642)، والبيهقي في “شعب الإيمان” (5138) مرفوعًا وموقوفًا، وقال: المحفوظ الموقوف، قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (8/ 84): رواه الطبراني، وفيه طلحة بن عمرو، وهو متروك. [2] وأخرجه أحمد (8736)، والترمذي (3955)، وأبو داود (5116)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4269). [3] السلوك الاجتماعي في الإسلام (ص: 86). [4] البخاري، الفتح 1، (30)، واللفظ له، ومسلم (1661). [5] أخرجه: أحمد (2/ 440)، والبخاري في “الأدب المفرد” (119)، وابن حبان (5764)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [6] أخرجه: البخاري في الأدب المفرد (124)، وأبو داود (5153)، وابن حبان (520)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [7] أخرجه بلفظ «غمط» مسلم في الإيمان حديث: 147، وأبو داود في اللباس باب: 26، وأحمد في المسند 1/ 385، 327، وأخرجه بلفظ «غمص» الترمذي في البر باب: 61، وأحمد في المسند 4/ 134، 151. [8] أخرجه مسلم (1663) (42)، وأبو داود (3846). [9] تفسير ابن كثير، ج 4، ص 212. [10] أخرجه الطيالسي (355)، وأحمد 1/420 – 421، وفي “فضائل الصحابة” (1552)، وأبو يعلى (5310)، والفسوي 2/545 – 546، والبزار (2678)، والطبراني (8452). [11] أخرجه البخاري في “الأدب المفرد” (759)، ومسلم (2623)، وأبو داود (4983). [12] اختلفت المصادر في ضبطها، وما أثبته من حاشية السندي على ابن ماجه (1/ 111) حيث قال: “أي: لا تختاروا به خيار المجالس”. [13] أخرجه ابن ماجه (254)، وابن حبان (90)، وابن عدي في الكامل (7/ 2672)، والآجري في “أخلاق العلماء” (126)، والحاكم (1/ 86). [14] موقع إسلام ويب. [15] أخرجه ابن أبي الدنيا في “الصمت” (168)، وأبو يعلى (7423)، والبيهقي في “السنن”، 10/247، وفي “الشعب” (6754)، وفي “الآداب” (173).
_____________________________________________________
الكاتب: السيد مراد سلامة
Source link