ماذا يجب على المؤمن معرفته من الفضل والعمل الصالح فيه، وخاصة العشر الأوائل منه، حتى نكون من الفائزين.
عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا؛ أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، سيدخل علينا في الأيام القليلة بحول الله شهر من الأشهر الحرم وهو ذو الحجة، فماذا يجب على المؤمن معرفته من الفضل والعمل الصالح فيه، وخاصة العشر الأوائل منه، حتى نكون من الفائزين.
أولًا: يجب على المؤمن معرفة فضل هذه العشر:
فمن فضلها قسم الله عز وجل بها، قال تعالى: {﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾} [الفجر: 1، 2]، قال ابن كثير رحمه الله: المراد بها عشر ذي الحجة.
ومن فضلها حث الله عز وجل على ذكره فيها، قال عز وجل: {﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾} [الحج: 28]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “أيام العشر”.
ومن فضلها أنها أيام يحب الله العمل الصالح فيها، في الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «“ما العمل في أيام أفضل منها في هذه” قالوا: ولا الجهاد؟ قال: “ولا الجهاد، إلا رجلٌ خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء”» [1]، فوجب أن نكثر فيها من العمل الصالح.
ومن فضلها أن فيها معظم أعمال الحج.
فاليوم الثامن يوم التروية حيث يحرم الناس بالحج لمن دخل بحج التمتُّع، فيلبُّون تلبية التوحيد، ويتجرد الرجال من المخيط والمحيط ويلبسون لباس الإحرام.
وفي اليوم التاسع يقف الحجاج بعرفة في مشهد عظيم يذكرنا بالوقوف بين يدي الله لأجل الحساب، لباسهم واحد، وقلبهم واحد، يجأرون إلى ربهم ويتضرعون ويدعون، قبلتهم واحدة يستشعرون أنهم جسدٌ واحدٌ وأمة واحدة رغم اختلاف أجناسهم وأوطانهم وبلدانهم ولغاتهم وألوانهم، فما أعظم هذا الدين الذي وحَّدهم، وجعلهم إخوة لاتفاضل بينهم إلا بالتقوى.
فهل تذكرنا هذه المعاني الرفيعة والدروس البليغة من الحج؟ فنسمو عن مآثر الجاهلية وتعظمها بالآباء، والافتخار بالأموال والأحساب والأنساب، والقبلية المقيتة والبغيضة التي تفرق شمل المسلمين، وتزيل قوتهم واتحادهم؛ قال تعالى: {﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾} [الحجرات: 10]، وقال تعالى: {﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾} [الحجرات: 13].
ويذكرنا اليوم التاسع بتمام نعمة الإسلام وإكمال الدين الذي يسعى الكثير من الناس بفرط جهلهم واستكبارهم عن الحق إلى وَصْم شرائع الإسلام بالتخلُّف والنقصان، فيسعون إلى محاداة الله ورسوله واستيراد شرائع مضادة له هنا وهناك.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آيةٌ في كتابكم تقرءونها، لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: {﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾} [المائدة: 3]، قال عمر:«قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائمٌ بعرفة يوم جمعة»[2].
وفي اليوم العاشر يرمي الحجاج جمرة العقبة الكبرى، ثم ينحرون هديهم، كما ننحر نحن أضاحينا، ثم يطوفون طواف الركن في الحج؛ وهو طواف الإفاضة، ثم يحلقون شعورهم أو يقصرون، قال تعالى: {﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾} [الحج: 27 – 29].
وفي أيام التشريق يمكثون بمنًى فيرمون في كل يوم الجمار الثلاث: الجمرة الصغرى، والوسطى، والكبرى، كل واحدة بسبع حصيات، فيكبرون مع كل حصاة، فإذا فرغوا استقبلوا القبلة، وأكثروا من الدعاء، فهل استعذنا نحن بالله واستجرنا به من الشيطان؟ وهل اتخذناه عدوًّا كما أمر رب العزة والجلال وحذرنا منه، فقال: {﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾} [فاطر: 6].
ثم بعد قضاء نسكهم يرجعون إلى بلدانهم، وهم يرجون مغفرة الله ورحمته، قال صلى الله عليه وسلم: ” «من أتى هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه» “[3]؛ أي: مغفورًا له.
فاللهم اغفر لنا ذنوبنا، وتجاوز عن سيئاتنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى؛ أما بعد:
بعد أن عرفنا بعض فضائل هذه العشر، فإذا عرفت فالزم، وهي النقطة الثانية.
ثانيًا: يجب الاجتهاد في العمل الصالح: وهذا العمل لاينحصر، وكل واحد يجتهد -بعد أداء الفرائض- فيما ينشط ويتيسَّر له، ومن ذلك:
أولًا: الالتزام بما فرض الله عليك من الفرائض؛ كالصلاة في أوقاتها والزكاة إذا حال حولها، والصوم لمن كان عليه صوم فرض أو نذر، والحج للمستطيع، وغيرها، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «“وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه”» [4].
ثانيًا: الإكثار من نوافل العبادات: كرواتب الصلاة وقيام الليل، والصدقات التطوعية، وصيام يوم عرفة لغير الحاج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «“صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده”» [5]، وعرفة الذي يندب صومه هو وقت وقوف الناس بعرفة، وذكر الله، وتلاوة القرآن، وعمارة المساجد، وسائر الطاعات، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: “وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه”[6].
عباد الله، أذكركم ختامًا بقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يُضحِّي، فلا يمس من شعره وبشره شيئًا”[7]، وحمل الكثير من العلماء النهي على الكراهة وليس التحريم، فالذي لا يريد أن يباشر الأضحية بنفسه فلا حرج عليه في تقليم أظافره والأخذ من شعره، ومن أراد أن يضحي وأخذ منها ناسيًا أو متعمدًا فليستغفر الله، وأضحيته صحيحة.
فاللهم لا تحرمنا من الخير في هذه العشر، وزكِّي أنفسنا أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، وارزقنا الحج إلى بيتك الحرام، آمين؛ (تتمة الدعاء).
[1] رواه البخاري برقم: 969.
[2] رواه البخاري برقم: 45.
[3] رواه مسلم برقم: 1350.
[4] رواه البخاري برقم: 6502.
[5] رواه مسلم برقم: 1162.
[6] رواه البخاري برقم: 6502.
[7] رواه مسلم برقم: 5232.
Source link