شكر النعمة – طريق الإسلام

من ثمرات تقوى الله وطاعته استمرار المؤمن على شكر نعم الله واستمراره على التمتع بما قسم الله من غير تعب ولا مرض ولا تنغيص ولا أذى يمس جسده أو عرضه أو بلاده أو مجتمعه.

الحمد الله الذي وعد وتأذن بمزيد الفضل والإنعام على من اتقى وشكر، الحمد لله المنعم الواهب الذي لا تنفد خزائنه ولا ينقطع مدده ولا تغل يده ولا يزول ما عنده، يده سحاء الليل والنهار على من خلق من البشر، وعلى من خلق من غير جنس البشر، إليه وحده ينتهي الأمر كله، وإليه وحده ترجع الأمور.

 

نحمده حمد الشاكرين المتقين، ونشهد أن لا إله لهذا الوجود ومن في الوجود سواه، إله تنزه عن الصاحبة والوالد والولد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، خلق فأبدع، وأعطى ومنع، ورفع ووضع، لا يند عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

 

نحمده حمدًا يليق بجلاله، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله محمد البشير النذير الذي عبد الله واتقاه حق تقراه وشكره، وصبر على بلواه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الغر الميامين شموس الدجى وأقمار المعارف الذين تأسوا بهديه وأتبعوا النور الذي جاء به، واجعلنا معهم ومن تبعهم إلى يوم الدين. أما بعد فيا أيها العباد المؤمنون الشاكرون إن شاء الله تعالى بعد أن أوصيتكم ونفسي بتقوى الله عز وجل- إليكم في مقامكم هذا شيئا مما يفتح الله به ويعين عليه – إليكم شيئًا عن مفهوم النعمة التي أنعم الله بها على عباده الآدميين، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، حرهم وعبدهم، ذكرهم وأنثاهم، غنيهم وفقيرهم – نعم والله إليكم شيئا عن مفهوم النعمة على العباد وعلى غيرهم ممن خلق الله في جوف هذا الكون وفي رحبه وفي فضاه من العوالم الفطرية من كل ذات كبد رطبة تحتاج إلى الماء والطعام والهواء.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32، 34].

 

هذه الآيات أخي المسلم تحمل شيئا من مفهوم النعمة والإنعام من خلال نعمة تسخير الكون لك ولغيرك من البشر. وهذا الكون المسخر تسبقه نعمة كبرى في مفهوم النعمة والإنعام فالسمع قول باري الكون وباريك يا إنسان هذا الكون، اسمع مفهوم النعمة الكبرى والإنعام الأول الذي يسبق كل شيء في حياتك، ويعد نعمة كبرى مما أنعم الله عليك. اسمع قول من برى الأجنة في الأرحام، وأغطش الضوء في الظلام، وسلخ الليل من النهار، ورعى الوجود بعينه التي لا تنام. اسمع قوله ممتنا عليك بنعمته الأولى في خطابه لمن هو بشر مثلك في خطابه لنبيه زكريا عليه السلام: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9].

 

بل اسمع مفهوم النعمة الكبرى التي تكمن في وجودك وخلقك على غير مثال سابق {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2].

 

إذا فأول النعم وأزكاها وأكبرها في حياتك أيها الآدمي الضعيف هي نعمة الخلق والإيجاد إذ قبل أن يخلفك الله لم تكن شيئا مذكورا. فإن ركب الشيطان رأسك أيها الآدمي الضعيف، فقل لنا: من أين جئت؟ ولماذا جئت؟ وإلى أين ستنتهي؟ هل كنت تعلم من أمرك شيئا قبل خلق الله لك؟؟

 

ومن هنا يا عباد الله فالنعمة لا يفسر معناها بالحد الأدنى الذي تفهمه عقول البشر القاصرة من أنها نعمة المال والصحة في البدن والأمن في الوطن فحسب، بل مفهم النعمة أكبر وإحصاؤها أكبر، بل يعز على العادين.

 

أخي المسلم ليس مفهم النعمة في الملايين، وفي ملك القصور والرياش والذهب والفضة، وليست النعمة في الجاه والمنصب وشرف النسب، وليست النعمة في إحراز النصر والمنفعة وحصول المراد وتحقيق الرغبات. كل هذه الأمور – أيها الإخوة – من النعم المشاعة بين الناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، ذكرهم وأنثاهم، كبيرهم وصغيرهم، كل بقدر ما قسم الله له وأراد.

 

ولكن مفهوم النعمة الكبرى التي يمتلكها كل الناس على حد سواء هي نعمة الخلق والإيجاد، فليت شعري أن يفهم المسلم فحوى هذه النعمة: كيف كانت؟ وكيف تمت؟ ومن عند من جاءت؟ ومن ذا الذي يكلؤها العباد؟؟

 

تعال أخي المسلم لنتأمل فضل هذه النعمة وتدرجها في حياة البشر منذ أن أراد الله أن يعمر هذه الأرض خليفته فيها آدم عليه السلام وذريته من بعده.

 

سر إلهي عجيب دقيق محكم بديع لا يعلم شأنه إلا الله الخلاق العليم.

 

ويشير القرآن الكريم إلى هذه النعمة الكبرى التي هي سر عجيب ما استأثر الله بعلمه فيقول جل من قائل عظيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]. وفي آية أخري يقول – وقوله الحق: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67].

 

سبحان الله لا تقال إلا له أخي المسلم. انظر في هذا التدرج العجيب من نعم الله عليك وأنت في أدق المراحل وأخطرها من حياتك. فأي نعمة أكبر من نعمة الخلق والإيجاد. تأمل أخي المسلم – رعاك الله – في أسرار هذا التكوين من أي شيء بدأ؟ إنه من تراب، ثم إلى أي شيء انتهى؟ إن ذلك أخطر وأدق.

 

فمن أين جئت؟ لقد جئت خلقا صغيرًا دقيقًا خطيرًا حقيرًا مهينًا، ثم عظيمًا من عظمة خالقك وقدرته، فتأمل كيف تتدرج بك نعمة الله في هذا الطور من أطوار تكوينك؟

 

إنك نطفة مهينة تتنقل في الأصلاب حتى إذا انتهى بك المطاف إلى صلب أبيك خرجت بطريقة فذة فريدة ترعاها عين الإله الذي يرعى الأناسي كلها بقدرته وحكمته. نعم تخرج من صلب أبيك لا تعلم من أمرك شيئا، تخرج بطريقة تصحبها لذية ومحبة وسكينة وغريزة إنسانية حتى تقذف بك هذه الغريزة والسكينة العفة الطاهرة في رحم أمك نطفة طاهرة، لأنك خرجت من شهوة حلال إلى فرج حلال، حتى إذا استقر بك المقام في البيت الأول الذي أعده الله لك وأعده لإقامتك مدة حددة لا يعلمها سواه.

 

تأمل نعمة الله على هذا البيت المبني بقيم العطف والحنان. إن عناية الله بك ونعمته عليك تكمن في إيوائك بهذا الظل الظليل رحم الأم العطوف الرحوم الرءوم، وكل هذا وأنت لا تعلم من أمرك شيئًا، ولا يعلم أبوك من أمرك شيئًا، بل لا تعلم الأم من أموك شيئا على الرغم من أنها ألصق الناس بك. لأنها تحملك. فما النعم الإلهية التي أمدك الله بها في مقر إقامتك في هذه المرحلة من حياتك في رحم الأم؟ نعم والله إنك تأوي حين تأوي هذه الأم، وتستيقظ حين تستيقظ، وتأنس حيث تأنس، وتسكن حين تسكن. تتحمل في سبيل إقامتك في رحمها كثيرا من العناء والمشاق والأمراض، وتغير المزاج، تعاف هذا الطعام اللذيذ إلى غيره، وتعاف هذا المشرب اللذيذ إلى غيره، وتطعمك بقدرة قادر بواسطة خلايا عروقها وعصارة كبدها وحلاوة قلبها، وحنو عواطفها ولب لباب روحها فأنت جزء من حياتها.

 

بل أغلى من حياتها كلها، فسبحان من سخر لك هذه النعم وأنت لا تدري من أمرك شيئا، ثم انظر وقد تعاقب عليك الليل والنهار في هذا العرق الأمومي طوال تسعة أشهر قد تزيد وقد تنقص بقدرة علام الغيوب الخلاق العليم.

 

ويومئ القرآن الكريم على مفهوم هذه النعمة الجديدة التي يوليك إياها ذو الفضل والإنعام، وأولها علمه المحيط بك وبكل شيء. {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 8، 9].

 

الله أكبر، أخي المسلم تأمل – رعاك الله – هذا المشهد الرباني وعناية الله تكلؤك بعلمه الواسع المحيط. أطلق لنفسك عنان الحقيقة والخيال والتبصر لترى هل أنت أو غيرك من البشر قادرون على إحصاء نعم الله عليه. تأمل سعة القدرة وسعة العلم وسعة الرحمة، وسعة النعمة وسعة العطاء.

 

نعم والله تأمل؛ إن على هذا الكون من إناث الآدميين ملايين لا يحصيها إلا خالقها، وملايين من إناث الحيوان، وملايين من إناث الطير، وملايين من إناث النبات، وكل حمل تقله هذه الأناسي من الإناث من كل جنس ونوع ولون محاط بقدرة الله ونعمته برحمته وعلمه الواسع فهو وحده الواسع العليم.

 

ثم تأمل في مرحلة من مراحل الفضل والإنعام عليك، وقد بدأت تستعد للخروج من سجف الغيب، كم من نعمة تسبق هذه المرحلة. فقد كلف بأمرك ملك يقيد مدى حياتك وأجلك ورزقك، وشقي أم سعيد. وكل هذا وقد سبق تفضيلك على غير مثال سابق لا يشتبه مع هذه الملايين من البشر فجعل لك يدين وقدمين وساقين وعينين وسمعين وعظما وغضروفا ولحما ودما وبشرة وجلدا وحركة وسكونا، حتى إذا دنت ساعة الخروج فتعال وانظر إلى هذا المشهد الذي يحيط بك، إن الله قد سخر لك ملكا من الملائكة وبشرا من الناس، أولهم الأم، فطلق ومخاض وتأوه وتولول، ووقوف وقيام وانزواء ورقاد واصفرار وذبول وصحو وغيبوبة. وثانيهم أب قد شده الموقف ما بين يأس ورجاء وخوف وهلع وانتظار واستبشار وترح وفرح يقطع الساعات، والدقائق تحوم بخواطره وتحرك نياط قلبه وتستولي على عواطفه حتى يأتي البشير فيخبر بما أقر الله وأراد.

 

وثالث هؤلاء البشر قرابة ما بين جد وعم وعمة وأخ وأخت وخال وخالة وصديق وجار كلهم يدعو ويستبشر بمقدمك ورابع هؤلاء البشر أناس أطباء سخروا لرعايتك في هذه اللحظات من حياتك. وفوق الجميع عناية الله ونعمته برحمته وتسخيره.

 

فسبحان الله كم أخذت من النعم وأنت بعد لا تنفع ولا تضر؟ إنها عناية الله، حتى إذا خطت بك أول خطوة في طريق خروجك من الرحم إلى هذا الكون الفسيح الذي لا يعلم أبعلكه ولا علوه من لممثله إلا خالقه بديع السماوات والأرض. نعم والله تأمل هذه النعم تترى على هذا المشهد المتحرك، فقد وكل بك ملك الرحمة من عند الرحمن الرحيم تتحرك لا يمسك سوء ولا عناء. لقد ثبت العلم الحديث من خلال تجارب الطب الحديث أن عددا من الأطباء علموا من أسرار الله في خلقه، وخصوصًا أسرار الحمل والولادة، علموا أشياء لا تخطر لذهن أحد ولكنها عناية الله.

 

من هذه الأسرار؛ ما يعرف بالبشيمة قطعة لزجة لينة رخوة تحمل ماء سيالًا نظيفًا وتكتسب هواء طلقًا نقيًا يتسرب بواسطة شعيبات عرقية دموية تمد الجنين طوال إقامته بسر من أسرار الحياة. وإلا كيف يحيا من لا يعيش تحت شمس ولا هواء، حتى إذا يبق إلا الخروج النهائي انفجرت هذه البشيمة وسالت عبر آفاق الرحم والمهبل والفرج، حتى فوهة المخرج وما ذلك إلا لأنها تحمل مادة سيالة مطهرة تأتي في طريقها على كل أذى فتزيله تسهيلا لمسلك العبور فسبحان من بيده ملكوت كل شيء.

 

حتى إذا استهللت على هذا الكون الفسيح بعد مدة الحمل رأيت النور بعد الظلام والسعة بعد الضيق وكبر أفراد البيت فرحة بهذه الإطلالة. فمن أنت؟ إنها عناية الله. ومن هنا تبدأ نعم تترى. فأم تبر، وثدي يدر، وأب يمير، إن أضجعتك الأم قبلتك وإن حملتك قبلتك وإن أرضعتك قبلتك، وإن غابت عند لشئونها ورجعت إليك قبلتك. وإن حملك أبوك قبلك وإن أضجعك قبلك وإن رجع من شأنه أوى إليك وابتسم في وجهك وذكر اسم الله عليك.

 

وهنالك أخ يحملك ويداعبك، وأخت تقبلك وتلاعبت، كلهم رحمة لك. من عند أرحم الراحمين. ثم تعيش حرا طليقا في الأحضان حتى تبلغ سن الرشد، وليس عليك من التكاليف الشرعية ما على غيرك، وهذا من نعم إليه عليك.

 

فليت شعري هل نستطيع أن نحصي نعم الله علينا؟ وهل صدقنا في محبة الله وطاعته؟ فتلك المحبة وتلك الطاعة نعمة أيضًا.

 

اللهم إنا لا نملك إلا أن نقول سبحانك! لا تقال إلا لك، يا ذا الفضل والإنعام. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].

 

أما بعد:

فيا أيها العباد المؤمنون الشاكرون، إن تقوى الله وطاعته تعني أمورا كثيرة في حياة المسلم وفي أخراه، فإذا رأيت العبد المسلم يتقي الله ويطيعه ويتقرب إليه فاشهد له بالإيمان وأحر بنجاحه وفوزه في الدنيا وفي الآخرة. وآية الله تبارك وتعالي: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

 

وإن من ثمرات تقوى الله وطاعته استمرار المؤمن على شكر نعم الله واستمراره على التمتع بما قسم الله من غير تعب ولا مرض ولا تنغيص ولا أذى يمس جسده أو عرضه أو بلاده أو مجتمعه.

 

فالله الله أيها المؤمن لا تقابل نعمة الله بالجحود والنكران، وذلك فيما تفعله وتعمله وتتلفظ به، تهمل فرائض دينك وتعصي من أنعم عليك وتقصر في أداء واجباتك نحو ربك، ثم نحو بلدك ومجتمعك وأسرتك وعملك الذي أنيط بك للقيام على مصالح المسلمين إن حسبة وإن تكليفا.

 

أيها العباد المؤمنون:

قلبوا صفحات تاريخ الإسلام واقرأوا عن حياة الرعيل الأول من صحب محمد – صلى الله عليه وسلم – ومن جنوده المسلمين ومن مجتمعه المسلم حين تحدر الإيمان في قلوبهم والتفوا حول راية الإسلام ماذا صنعوا بالدنيا؟ وماذا صنعت الدنيا بهم؟؟ لقد ألبسوا ثياب الأمن والعدل والسلام، وتوجوا الحياة بكتاب الله وأضاءوا الدهر بنور محمد وهديه، جمعوا الشرق والغرب والشمال والجنوب ووسط الكرة الأرضية على دين واحد لعبادة رب واحد. وطئت سنابك خيلهم جبال البرانس وشقوا عباب آسيا وأوربا وأدغال أفريقيا حتى رفرف علم الإسلام في كل أرض، وخاف محمدا وصحبه ورجاهم بعد الله قاصي الأرض ودانيها، وكان ذلك الرعيل في مكة المكرمة والمدينة المنورة وبلاد الشام محط أنظار العالم لما كان يسود فيه من خلق وعلم ورفعة وإيمان وبر وصدق وتعاطف وتراحم وإيثار رعيل قوي، ومؤمنين أكفاء أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وهذا هو ما صانعوه بالدنيا.

 

وأما ما صنعته الدنيا بهم فذلك عهد قل أن يجود الزمان بمثله، ولن يجود ولن يعود حتى يرجع المسلمون إلى الله وإلى دينه وإلى سنة رسوله. ففي ذلك الخير كل الخير وفي ذلك شكر لأنعم الله.

 

مما صنعته الدنيا بأولئك المؤمنين قبلنا تسخير الكائنات لهم ونصرهم بحول الله وقدرته. أوجدت منهم الحياة اخوانا متحابين متآلفين مصداقا لقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

 

ذلك هو واقع ذلك الرعيل المؤمن فما واقعنا اليد نحن المسلمين؟

إن واقعنا اليوم يقول لنا وللمسلمين جميعا لو بعث محمد وصحبه قبل البعث لرأوا جهادنا قبل جهادنا الكفار واجبا، لأننا نعصي الله ونتشبث بالدين ونتخذه وراءنا ظهيرا نمارسه في المظهر دون المخبر. نرى المتدينين الملتزمين المستقيمين على دين أدته فنسخر منهم، ونرى المنحرفين فنشايعهم ونجالسهم ونؤاكلهم، وآية بعدنا عن دين الله وعدم استقامتنا عليه وما يجري في البلدان الإسلامية من حولنا من الفتن والإحن والمصائب وطغيان الحكام وجبروتهم وتفرقهم أحزابا كما يعبرون عنه بحزب الأمة وحزب الشعب والبرلمان وحزب السنة، وترى المستقيمين على منهج السلف الصالح مبعدين مستذلين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

وآية بعدنا عن دين الله وعدم استقامتنا ما يجري بين ظهرانينا في بيوتنا وأماكن لقائنا من الغربة والقطيعة والشحناء والبغضاء والتدابر والتكاثر بالمال. أصبحنا عبيدا للدرهم والدينار همنا فقط فيما جمعنا وكم جمعنا؟ وكم ملكنا؟ وكم ربحنا؟ وكم خسرنا؟ وليس همنا في كم صلينا؟ ولا في كم تصدقنا؟ ولا في كم حججنا واعتمرنا؟ ولا في كم سورة من القرآن حفظنا؟ ولا في كم حديث من أحاديث المصطفى قرأنا وعلمنا.

 

قولوا لي بربكم، ها نحن الآن فئة من فئات المسلمين اجتمعنا في هذا المسجد لأداء فريضة الجمعة وسمعنا الخطبة وبعد تأدية الصلاة سنخرج من هذا المسجد ونتفرق كل على شاكلته وإلى سبيله، ولكن هل سيضمنا سياج الإيمان والعمل لدين الله وبه كما اجتمعنا الآن؟ لا والله سنتفرق بعد قليل، ولكن كيف وإلى أين؟ إن أعدادا منا ستتجه إلى موائد الطعام الفاخرة في مناسبة الأسبوع ما بين قصف ولهو وطعن في عرض فلان وفلانة. سيتجمع فريق منا على موائد اللهو والفجور إلا من عصم إليه وقليل ما هم.

 

ولكن هل فكر كل منا بعد خروجه من المسجد دبر كل صلاة؟ هل فكر في القيام بصلاة نافلة في بيته وقراءة سورة من سور القرآن أو الاطلاع على شيء من الأحاديث الشريفة، كل ذلك لم يكن إلا من قلة هم المتقون المؤمنون. إذا فما الوقع الذي نعيشه ويعيشه كثير من أفراد المسلمين في البلدان الإسلامية؟ الواقع الذي نعيشه يعد فراغنا من صلواتنا هو أن نهرع إلى أشرطة الأغاني الخليعة وغير الخليعة وأشرطة الفيديو ومتابعة المسلسلات التليفزيونية وقراءة المجلات الخليعة النكراء، واللهث وراء المادة بشتى الوسائل المحرمة في المعاملات كالغش والخيانة والكذب وحب التكاثر والتكالب عل زخرف الدنيا وحطامها. صحيح أن المسلم مباح له فعل الأسباب للعيش الحلال، ولكن لا يجعل الدنيا غاية، بل وسيلة وكفى، لأن رزق الله لا يأتي به جمع جامع ولا حرص حريص، وليس لك أيها المخلوق من الرزق إلا ما قسم الله لك شئت أم أبيت، رضيت أم سخطت. والله وحده الرزاق ذو القوة المتين.

 

فاللهم يا رب الأرباب، ويا مالك السبع الشداد، ويا رازق العباد من حاضر وباد هيئ لنا من أمرنا رشدنا وردنا إلى دينك ردًا جميلًا.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأذل الشرك والمشركين، واجمع كلمة المسلمين على الحق، وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وخلص بلادهم من الاستعمار من اليهود وأعوان اليهود.

 

اللهم سلط على أعداء الإسلام، وشتت شملهم، وخضد شوكتهم، وخذهم بجنودك التي لا يعلمها إلا أنت.

 

عباد الله:

صلوا وسلموا على أكرم نبي وأشرف هاد، واذكروا الله العلي العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

___________________________________________________
الكاتب: د. محمد بن سعد الدبل


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

شرح ما يفعل من رأى الرؤيا أو الحلم

منذ حوالي ساعة الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان؛ فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه؛ فلينفث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *