وأفضل مولودٍ عرفَتْه البشريَّة إلى يرث الله الأرض ومن عليها، فقد قامت الدُّنيا له، واشتهر ميلاده قبل الميلاد، وتحدَّث الكون به قبل ظهورِه، وبعد ميلاده تحدَّث به الزمان…
الحمد لله ربِّ العالمين، القائل في محكَمِ كتابه الكريم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]، نَحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال – ولم يزل قائلاً عليمًا، وآمِرًا حكيمًا -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
ونشهد أنَّ سيدنا محمَّدًا عبده ورسوله، خاطبَه ربُّه قائلاً: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1 – 4]، اللهم ارفع قدْرَه، وعظِّم من شأنه، وصلِّ اللهم عليه وعلى آله وصحبه الذين آمَنوا به، واتَّبَعوا النُّور الذي أُنْزِل معه، أولئك هم المُفْلِحون.
أمَّا بعد، فيا أيُّها المسلمون:
يقول الله تعالى في كتابه الكريم موضحًا جوهر رسالة رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وفي كلِّ لحظة تلد الأمَّهات، وفي كلِّ يوم يخرج إلى الدُّنيا آلاف المواليد، ولا نعلم شيئًا عن مستقبلِهم – حيث إنَّ المستقبل بيد الله تعالى – كما لا ندري شيئًا عن أمورهم – ولذا لَم تقم الدُّنيا لهم ولا تحتفل بِميلادهم – فإذا نبتوا نباتًا حسَنًا، وقدَّموا المَجد لأُمَمِهم كان لِزامًا على الشعوب أن تَذْكرهم بالخير.
أمَّا ميلاد سيِّد البشَر، ورحمة الله المُهْداة للإنسانيَّة جَمْعاء، وأفضل مولودٍ عرفَتْه البشريَّة إلى يرث الله الأرض ومن عليها، فقد قامت الدُّنيا له، واشتهر ميلاده قبل الميلاد، وتحدَّث الكون به قبل ظهورِه، وبعد ميلاده تحدَّث به الزمان، وسعدت بذِكْراه الأكوان، وسُجِّل ميلاده في كتب المُرْسَلين قبل مولده؛ حيث بشَّر به موسى – عليه السَّلام – في التوراة، وبشَّر به عيسى – عليه السَّلام – في الإنجيل.
ولقد وضَّح القرآن الكريمُ هذه الحقيقة، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6].
لَم يَحْظ مولودٌ في الدُّنيا بتلك المكانة، ولَم ينَلْ وليدٌ تلك الرُّتبة مثل رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقد ورد في صحيح الخبر، وفي ضوء ما جاء في القرآن الكريم أنَّ أبرهة مَلِكَ الحبشة قرَّر هدم الكعبة المشرَّفة، فسيَّرَ جيشًا كبيرًا، ولقد أخذه الغرور، وهيمن عليه الظُّلم وغطرسَةُ القوَّة، وما أن وصل إلى أسوار مكَّة حتَّى فوجِئَ ذلك الجيش بقنابل من السَّماء ترميهم بحجارةٍ من سجِّيل فجعلَتْهم كعصفٍ مأكول، فقُتِل أبرهة ومن معه من الطُّغاة.
وإذا كانت الشِّرذمة الطاغية تدبِّر وتخطِّط لبناء ما يسمَّى بِهَيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، فإنَّ الله الذي حفظ بيته الحرام من أبرهة وحبشِه قادرٌ على حماية المسجد الأقصى من سفَّاكي الدِّماء وقتَلة الأنبياء والأبرياء والأطفال!
في هذا العام الذي وقعت فيه أحداثُ الكعبة المشرَّفة، والذي سمَّاه العرب عام الفيل، فكان تاريخًا للعرب يؤرِّخون به حوادثهم، فقالوا: وُلِد محمَّد بن عبدالله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في الثاني عشر من ربيعٍ الأول عام الفيل، ولقد شاءت إرادة الله تعالى أن تقع أهمُّ ذكريات رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في شهر ربيع الأول؛ روى الفاكهيُّ في “أخبار مكة” عن ابن عبَّاس – رضي الله عنهما – “أن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ولد في شهر ربيع الأول، وأُنْزلَتْ عليه السُّورةُ يوم الاثنينِ في أوَّل شهر ربيع الأول – أيْ: بدأَتْ علامات النُّبوة في شهر ربيع الأوَّل – وهاجر في شهر ربيع الأول”، ولقد كان العرب يُطْلِقون على شهر ربيع الأول “ربيعَ الخير”؛ حيث إنَّ الخير يأتي معه.
أيُّها المسلمون:
ما أحوجَنا – ونحن نعيش في رحاب ذِكْرى ميلاد رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن نوضِّح أنَّ رسول الإسلام جاء خاتَمًا لرسالات السَّماء، فليس بِدْعًا من الرُّسل، وإنَّما جاء متمِّمًا لِمَن سبقه من الرُّسل؛ ولِهذا قرَّر رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – هذه الحقيقةَ في أحاديثه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «إنَّ مثَلي ومثل الأنبياء قبلي كمثَلِ رجلٍ بنَى بيتًا، فأحسنه وأجمله إلاَّ موضع لَبِنة من زاويةٍ، فجعل الناس يَطُوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاَّ وُضِعَت هذه اللَّبِنة! فأنا اللَّبِنة، وأنا خاتَمُ النبيِّين»؛ (رواه الشَّيخان) .
فالبيت في الحديث الشريف هو الإسلام، وأمَّا بُناته فهم الرُّسل والأنبياء – عليهم الصَّلاة والسَّلام – وفي ضوء هذا؛ فمهمَّة الرُّسل جميعًا واحدة، وأهدافهم متَّفقة، وإن اختلفت أزمانُهم ومناهجهم، فالدِّين عند الله الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، من لدن آدم – عليه السَّلام – إلى خاتَمِ الأنبياء والمرسلين، وما أرسل الله من رسولٍ إلاَّ بلسان قومه؛ ليبين لَهم أنَّهم خُلِقوا ليعبدوا الله وحده لا شريك له، ولِيَشكروه على ما أولاهم من نعمة الخلافة في الأرض على دعائم ثابتةٍ من العلم والإيمان، والفضيلة والعزَّة والكرامة.
هذا هو الإسلام الذي وضع كلُّ رسول في بناءِ صرحِه الخالد لبنةً، وأخذ البيتُ يتكامل شيئًا فشيئًا حتَّى أتَمَّه إمامُ المرسلين وخاتم النبيِّين محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – فكانت هذه اللبنة مثلاً لسيِّد المرسلين رسول الوَحْدة، والختام، والكمال، والرحمة الشاملة، سيِّدنا وصفيِّنا محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم.
وفي ضوء هذا الحديث الشريف يتَّضِح أنَّ دين الله واحدٌ لَم يتغيَّر ولم يتبدَّل، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، فاتفقت دعوة الرُّسل جميعًا على التوحيد وتوجيه العقول إلى كلمةٍ سواء؛ {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]، فكان أساسُ دعوتِهم: “اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا”، و”اتقوا الله حقَّ تقاته”؛ فلم يخلقكم عبثًا.
إنَّ الدِّين المتَّفَق عليه بين رسالات الأنبياء يقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالِح، والخلُق الكريم، ولَم يأت رسولٌ من رسل الله لِيَدعو إلى قتل الأبرياء ونَهْب حقوق الآخَرين، وتدنيس المقدَّسات، وإنَّما جاؤوا جميعًا لِنَشر الحُبِّ والوئام؛ لأنَّهم جميعًا دُعاة السَّلام وحُماة القِيَم والفَضائل.
ولقد شاءتْ إرادة الله تعالى أن تكون رسالةُ خاتم الرسل والأنبياء وسطيَّة في نِظامها؛ حيث إنَّ الله تعالى قد أرسله بالحنيفيَّة السَّمحة والشريعة الجامعة التي يَحيا الناس بها في كرامةٍ، ويَصِلون بها إلى أعلى الدرجات في الرُّقي والكمال، فليست رسالةُ صاحبِ الذِّكرى الطيِّبة سيِّدنا محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – محدَّدةً بقوم دون قوم، أو بوطنٍ دون وطن، كالرِّسالات التي سبقَتْها، وإنَّما هي رسالة عالَمِيَّة للبشرية جَمعاء؛ لأنَّها دعَتْ إلى الحرية والعزَّة والفضيلة، وجاءت بما يُسْعِد الإنسانيَّة كلَّها إلى يوم الدِّين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].
وقال الله تعالى في أوَّل آية من سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وجاء في الحديث الصَّحيح أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «كان كلُّ نبِيٍّ يُبعَث إلى قومه خاصَّة، وبُعِثتُ إلى النَّاس عامة».
وروى الإمام مسلم في “صحيحه” أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «أحَبُّ الدِّين إلى الله الحنيفيَّة السَّمحة»، وهو قولٌ حقٌّ لا جدال فيه، ومِن شواهده أنه ليس في شريعة الإسلام ما يصعب اعتقاده على الناس، أو يشقُّ عليهم العملُ به؛ قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال – سبحانه وتعالى – : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78].
فالإسلام – الذي جاء به خيرُ الأنام، والذي يكفل حِفْظَ النَّفس، والعقل، والمال، والنَّسَب، والنَّسْل، والعِرض – يُسايِر العقول، ويُجاري التطوُّر، ويَصلُح لكلِّ زمان ومكان، ويعلم الله أنَّه الدِّين الذي تتزكَّى به النُّفوس عن طريق معرفة الله وعبادته، وهو الذي يدعم الرَّوابط الإنسانيَّة، ويقيمها على أساس المَحبَّة والعدل، والإخاء والمساواة، والحرية المسؤولة التي لا تَعرف الفوضى، ولا تُخالف جوهر الإسلام، ولقد كانت سيرة رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – تطبيقًا عمليًّا لهذا الدين الحقِّ.
أيُّها المسلمون:
ما أحوجَنا في هذه الأيام العصبية من تاريخ الأمَّة الإسلامية إلى التمسُّك بما جاء به رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قولاً وعملاً! ما أحوجَنا إلى الدِّراسة الواعية لسيرة الرَّحمة المُهداة؛ لنأخذ منها العبرة لأنفسنا ولأمَّتنا!
ولْنَتَّقِ الله في أقوالنا وأفعالنا، ولْنَعلم أن النَّصر مع الصبر، وأنَّ الفرج يأتي بعد الكرب، وأنَّ مع العسر يسرًا، وأنَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتَّى يغيِّروا ما بأنفسهم؛ روى الإمامُ مسلمٌ وغيْرُه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «كلُّ أمتي يدخلون الجنَّة إلاَّ مَن أبى»، قالوا: يا رسول الله، ومَن يأبى؟! قال: «مَن أطاعني دخل الجنَّة، ومن عصاني فقد أبى»، وتوبوا إلى جميعًا أيُّها المؤمنون؛ لعلَّكم تُفلِحون.
____________________________________________________
الكاتب: الشيخ فكري حسن إسماعيل
Source link