النبي ﷺ هو المثَل الأعلى في الخلُق العظيم وجميع الكمالات، والقدوة الحسَنة لمَن كان يرجو الله واليوم الآخَر.
ليس مِن شكٍّ في أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو المثَل الأعلى في الخلُق العظيم وجميع الكمالات، والقدوة الحسَنة لمَن كان يرجو الله واليوم الآخَر، وهو الذي تولى الله تهذيبه وأحسن تأديبه؛ ليُعطيه مقاليد الرسالة العامة، ويُكمِل به عقد النبوَّة.
ولا بدَّ لهذا الإصلاح الشامل والدعوة إلى الحق مِن تألُّف القبائل والعشائر، واستِمالة الأفئدة، واستِهواء العُقول، وحسْن المُعامَلة، والتودُّد إلى الناس، وإن الزواج لَمِن أعظم الروابط الإنسانية التي تزرَع المودَّة، وتجمَع النفوس على المحبَّة، وبه تكون المُناصَرة والمؤازَرة، وتَنكشِف خبايا النفوس فتتميز الأُسَر والبُيوتات.
ولم يَعرِف التاريخ مُصلِحًا أفضلَ خلُقًا، ولا أحسنَ معامَلةً، ولا قائدًا أعلى أدبًا وأعظم سياسةً من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد أوضح هذا المعنى وأكَّده في أذهان العرب المُعترِفين بفضله وشمائله مِن قِبَل زواجه بالعدد الكثير مِن النساء، ما بين قرشيَّة وإسرائيليَّة، وابنتَي أوفى أصدقائه أبي بكر وعُمر – رضي الله عنهما – وابنة أعدى أعدائه أبي سفيان الذي أسلم مِن بعْد، فلم تُحفَظ له هَفوة، ولم تؤخَذ عليه زلَّة, بل كان في بيته الأسوةَ الصالِحة للزوج الصالح في الوفاء وحسْن العِشرة، والرِّفق والتكريم والمؤانَسة واللُّطف، واحتِمال ما يبدو منهنَّ مِن الغضب والغيرة والإيذاء، ومقابَلة ذلك كله بالحِكمة والصفح الجميل، وتلك بعض الشواهد لذلك.
قضى النبي – صلى الله عليه وسلم – مِن زهرة شبابه المبارك خمسًا وعشرين سنة مع خديجة بنت خُويلِد – رضي الله عنها – ولم يتزوَّج عليها ولا أحبَّ أحدًا مثل حبِّه لها، وظلَّ طوال عمره يَذكرها ويُكرم صديقاتها وصواحِبها؛ فقد زارتْه مرةً عَجوز في بيت عائشة فأكرَمها وبسَط لها رِداءه فأجلَسَها عليه، فلما انصرَفت سألتْه عائشة عنها فقال: «إنها كانت تَزور خديجة».
وصحَّ أن عائشة غارَت مِن خَديجة حين سمعَتْ ثناء الرسول عليها بحَضرتِها فأجابت بقولها: “هل كانت إلا عجوزًا أبدلَك الله خيرًا منها؟!” تعني نفسها؛ لجمالها وحَداثة سنِّها، وأنه لم يَتزوَّج بِكرًا غيرها، وأنها ابنة صديقه أبي بكر – رضي الله تعالى عنه – قالت: فغضب، وقال: «لا والله ما أبدلَني خيرًا منها؛ آمنَتْ بي إذ كفَر الناس، وصدَّقتْني إذ كذبني الناس، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمني الناس، ورزَقني الله منها الولد دون غيرها»، قالت: “فقلت في نفسي: لا أذكرها بعدها بسيئة أبدًا”؛ (رواه ابن عبد الدولابيُّ).
وروى الشيخان عنها أنها قالت: “ما غِرت على أحد مِن نِساء النبي – صلى الله عليه وسلم – ما غِرتُ على خَديجة، وما رأيتها قطُّ ولكن كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُكثِر ذِكرَها، وربما ذبَح الشاة ثم يُقطِّعها أعضاء ثمَّ يَبعثها في صدائق خديجة – أي: صديقاتها مِن النساء – وربما قلتُ له: “لم يكن في الدنيا امرأة إلا خَديجة؟” فيقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد»، يُريد الرسول أن يُعدِّد مآثِرها، وزاد في رواية – كما في صحيح مسلم عنها -: “كان إذا ذبَح الشاة قال: «أرسلوها إلى أصدقاء خديجة»، فذكرتُ له يومًا، فقال: «إني لأحبُّ حبيبَها».
فانظر إلى عظيم وفائه – صلوات الله وسلامه عليه – لخديجة حتى بعد وفاتها وبعد زواجِه بعدد كثير مِن النِّسوة.
وإذا كان هذا حالَه بعد وفاتها، فما ظنُّك بمعاملته لها في حياتها؟ ومما يدلُّ على حسْن رعايتِه لنسائه وعشرته لهنَّ بالمعروف ما فاضَت به كتُب السنَّة والسِّيَر مِن فضائل أخلاقه وشمائله – عليه الصلاة والسلام.
قالت عائشة – رضي الله عنها -: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا خَلا في بيتِه أليَنَ الناس بسَّامًا ضَحاكًا، وقالت: ما ضرَب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – امرأة له ولا خادِمًا قط”؛ (رواه النسائي).
وسُئلت عما كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يصنَع في أهلِه، قالت: “كان في مِهنَة أهلِه فإذا حضَرت الصلاة قام إلى الصلاة”؛ (رواه البخاري) ، وقالت: “كان أليَنَ الناس، وأكرَم الناس، وكان رجلاً مِن رجالكم إلا أنه كان بسامًا”؛ رواه ابن سعد.
وفي الصحيحَين عنها قالت: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعلَم إذا كنتِ راضيةً عنِّي وإذا كنتِ عليَّ غضْبَى»، فقلت: مِن أين تَعرِف ذلك؟ قال: «أما إذا كنتِ عني راضيةً، فإنك تقولين: لا وربِّ محمد، وإذا كنتِ غضبى قلتِ: لا وربِّ إبراهيم» قلت: أجلْ والله يا رسول الله، ما أَهجُر إلا اسمَك.
وكان يقول لها: «كنتُ لكِ كأبي زَرعٍ لأمِّ زرع، غير أني لا أُطلِّقك»؛ (متفق عليه) ، مِن حديث عائشة دون الاستِثناء، ورواه بهذه الزيادة الزبير بن بكار والخطيب، وحديث أم زرع مشهور، وفيه أنَّ أبا زرعٍ كان يُكرم أمَّ زرعٍ أبلَغ الإكرام، ويقدِّم لها مِن ألوان النعيم والنِّعَم، وضروب السخاء والإذْن لها في أن تُميِّر أهلَها ما جعَل الرسول – عليه الصلاة والسلام – يَختاره في هذا التشبيه على غيرِه مِن العرب.
وفي الصحيحَين وغيرهما عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يَستُرني برِدائه وأنا أنظر إلى الحبَشة يَلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأمه”، ولأحمَد عنها أن الحبَشة كانوا يلعبون عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في يوم عيدٍ، قالت: فاطَّلعتُ مِن فوق عاتقِه فطأطأ لي منكبَيه، فجعلتُ أنظر إليهم مِن فوق عاتقِه حتى شَبعتُ وانصَرفتُ.
وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يَمزح معهنَّ ويَنزِل إلى درجات عقولهنَّ في الأعمال والأخلاق، حتى روى أبو داود والنسائي من السنن الكبرى، وابن ماجة في حديث عائشة بسند صحيح أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يُسابِق عائشة في العدْو، فسبَقتْه يومًا وسبَقها في بعض الأيام، فقال – عليه السلام -: «هذه بتلك»، وعنها – رضي الله عنه – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرمَ النساء إلا كريم، ولا أهانَهنَّ إلا لئيم»؛ (رواه ابن عساكر بهذه الزيادة، ورواه ابن حبان في صحيحِه بحَذفِها).
ومما يَنطِق بلينِ جانبِه، وخَفضِ جَناحه، وحسنِ أدبه مع زوجاته – عليه الصلاة والسلام -: استِشارة زوجِه أمِّ سلمة – رضي الله تعالى عنها – في أمر مِن أهمِّ أمور المسلمين يوم الحُديبيَة؛ فقد عاهَد النبي – صلى الله عليه وسلم – المشركين على تركِ القتال عشر سِنين، ووافقَهم على شروطٍ ظاهِرها فيه الإجحاف بالمسلمين، فكَرِهَ ذلك أصحابه، وأبَوا أن يَتحلَّلوا بالحَلْقِ أو التقصير من إحرامهم بالعمرة ليعودوا إلى المدينة، وخالَفوا أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يُنفِّذه واحد منهم، ولم يَحصُل مثل ذلك مِن قبْل ولا مِن بعد، فأحزنَه ذلك، وشقَّ عليه، فذهب إلى أمِّ سلمة يَستشيرُها، فقال: «هلك الناس»، فأشارَت عليه بأن يَخرج إليهم ويَحلِق رأسه، فعند ذلك يُسرعون إلى حلقِ رؤوسهم، وقد أصابَت في قولِها، فإنهم سارَعوا إلى طاعته، وامتثَلوا أمر نبيِّهم واعتَذروا عما كان منهم، وفي هذا دليل على أنه يرى للرجل أن يَستشير أهله ليَستطلِع ما عندهم مِن حلِّ ما تعقَّد مِن الأمور، وهذا مِن سماحَة أخلاقه وشريعته – عليه الصلاة والسلام.
ومِن رحمته ورقَّة إحساسِه ملاحَظة شعور غيره، وعدم استهانتِه بآلام الناس؛ فقد مرَّ بلال – رضي الله عنه – بصفيَّة بنت حُيِّي زوجه – عليه السلام – وابنةِ عمٍّ لها على قَتلى اليهود، فصكَّت ابنة عمِّها وجهَها وحثَت عليه التراب وهي تصيح وتَبكي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – «أُنزِعت الرحمَة مِن قلبِك حين تمرّ بالمرأتَين على قتلاهما» ؟!))؛ (رواه ابن إسحاق).
ولم يكن حبُّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لبعض نسائه ذلك الحب الشديد الغالب على قلبه، والخارج عن إرادته مانعًا مِن إنصاف مَن يجب إنصافها منهنَّ، والقضاء لها على مَن يَنتقِصها أو يُسيئ إليها؛ فقد أخرج الترمذيُّ أن صفيَّة بلَغها أن عائشة وحفصة قالتا: “نحن أكرم على رسول الله منها”، فذكرتْ ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «ألا قلتِ: وكيف تكون خيرًا مني، وزوجي محمد، وأبي هارون، وعمي موسى» ؟!)).
وقد لقَّبتها زينب بنت عمتِه مرة باليهودية احتقارًا لها، فهجرها النبي – صلى الله عليه وسلم – مدة طويلةً؛ عقوبةً لها.
وقالت عائشة: “ما رأيتُ صانعة طعام مثل صفية، صنعَت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – طعامًا وهو في بيتي فأخَذني أَفْكَل – بوزن أحمد: الرعدة والقُشَعْريرة – فارتعدتُ مِن شدَّة الغيرة، فكسرتُ الإناء ثم ندمتُ، فقلت: يا رسول الله ما كفارة ما صنعتُ؟ قال: «إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام»؛ (رواه أبو داود والنسائي) ، وقالت عائشة تَعيب صفية: “يا رسول الله، حسبُك مِن صفية قِصَرها!”، فقال لها: «لقد قلتِ كلمة لو مُزجتْ بماء البحر لمزجَته»؛ (رواه أبو داود والترمذي) – مزجته: غيَّرتْه وأثَّرت فيه.
وكان مِن نتائج إكرام النبي – صلى الله عليه وسلم – لزوجاته وعنايتِه الفائقة بهنَّ ومُراعاة ظروفهنَّ الخاصة: أن شاقَّت أم حبيبة بنت أبي سفيان أباها، وكان مشركًا يومئذ؛ وذلك أنها هاجَرت مُسلمةً إلى الحبشة مع زوجها عُبيدالله بن جحْش فترك الإسلام واعتنقَ النصرانية، فتبرَّأت منه ولم تقبَل رجاءه في أن تكون معه على الزوجية، ولما عَلِم النبي – صلى الله عليه وسلم – أنها أصبَحت لا نصيرَ لها ولا عائل مِن زوج أو أبٍ، وأنها ستجد مِن أهلِها شرًّا وعَناءً، أرسل إلى النجاشيِّ ليَخطبها له، ففعل، وذهبَت إلى المدينة فأكرَمها وأحسَن استِقبالها، فكان ذلك سببًا في زيادة إيمانها واستِمساكِها بدينها، ثم إن أباها قَدِم إليها بعد ذلك يدعوها إلى الكفر، فدخَل بيتَها ولما رغب في الجلوس على فراشها، طوتْه ومنَعت يده مِن لمسه أو الاقتراب منه فاشتدَّ غضبُه وقال لها: “أراغبة بهذا الفراش يا بُنيَّة عني؟ أم بي عنه؟” فأجابته على الفور: “به عنك؛ لأنه فراش رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنت رجل نَجِس غير مؤمن”، فغضب عليها وقال: “لقد أصابك بعدي شرٌّ” فقالت له: “لا والله بل خير”.
وقد كان لعائشة مِن قلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحبِّه البالغ ما لم يكن لغيرها، ومع ذلك لم يُفضِّل بعضهم على بعض في القسَم أو المَبيت أو النفقة أو غير ذلك مما هو داخل في حدود إرادته الشريفة، وكان يَطوف عليهنَّ جميعًا فيَدنو مِن كل واحدة من غير مسيس حتى يَبلغ إلى التي هو يومُها فيَبيت عِندها، وكان يزورهنَّ كلهنَّ صباحًا للوعظ والتعليم، ومساءً للمُجامَلة والمؤانَسة، وكنَّ يَجتمعن معه في بيت كلٍّ منهنَّ، وكان إذا أراد السفر ضرب القرعة بينهنَّ، ولما حجَّ كلهنَّ معه، فهل تراه ميَّز عائشة أو غيرها على إحداهنَّ بشيء؟ اللهم لا.
ومع هذا العدل الشامل وتحرِّي الإنصاف والتِزامه بينهنَّ مِن غير فارق، كان يعتذر إلى الله – تعالى – عما يجد في نفسه مِن المَيل الشديد لعائشة، فيقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تَملِك ولا أملك»؛ يعني: المحبة القلبية؛ رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: رُوي مُرسَلاً، وهو أصحُّ.
ومِن الإصابة في الرأي وعلاج الأمور بالحِكمة اعتِزال نسائه شَهرًا حين تظاهَرْن عليه يَسألْنَه ثياب الزينة وزيادة النفقة، ويُكلِّفنه ما ليس عنده، ولم يشتدَّ غضبُه عليهنَّ؛ لعلمِه أن الخير في التزام الهدوء والسلامة في التأنِّي حتى يقضي الله بقضائه المُتقبَّل.
وخلاصة القصة ما في رواية البخاري ومسلم – واللفظ لمسلم – عن جابر بن عبدالله قال: دخَل أبو بكر ليستأذن على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوجد الناس جلوسًا ببابِه لم يؤذَن لأحد منهم، قال: فأَذِن لأبي بكر فدخَل، ثم جاء عمر فاستأذن فأَذِن له فدخل، فوجد النبي – صلى الله عليه وسلم – جالسًا واجمًا (مُهتمًّا) ساكتًا وحوله نساؤه، قال عمر: فقلت: والله لأقولنَّ شيئًا أُضحِك به النبي – صلى الله عليه وسلم – فقلت: يا رسول الله، لو رأيت بنتَ خارجة سألتني النفقة فقمتُ إليها فوجأْتُ عنُقَها (دققتُه)؟! فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال: «هنَّ حولي – كما ترى – يسألَنني النفقة» ، فقام أبو بكر إلى عائشة يَجأ عنُقَها، وقام عمر إلى حفصة يَجأ عنُقَها (يدقُّه)، كِلاهما يقول: تَسألْن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما ليس عنده، فقلْنَ: والله لا نسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبدًا ما ليس عِنده، ثم اعتزلهنَّ شهرًا أو تسعًا وعِشرين، ثم نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29].
قال: فبدأ بعائشة، فقال: «يا عائشة، إني أريد أن أَعرِض عليك أمرًا أُحبُّ ألا تعجَلي فيه حتى تَستشيري أبويك» قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيكَ – يا رسول الله – أستشير أبويَّ؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخِرة.
قال العلماء: أما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – عائشة أن تُشاوِر أبوَيها فإنه كان يُحبُّها، وكان يَخاف أن يَحملها فرط الشباب على أن تَختار فِراقَه، ويعلم أن أبوَيها لا يُشيران عليها بفراقِه.
ورُوى أنه لما نزَلت آية التخيير بدأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعائشة، وكانت أحبهنَّ إليه، فخيَّرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخِرة فرُئي الفرح في وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتابَعْنها على ذلك، فلما اختَرْن الله ورسوله شكَرهنَّ الله على ذلك وقصَره عليهم، فقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52].
ولما مَرض مرضَه الأخير شقَّ عليه أن يَنتقِل بين بيوتهنَّ كل يوم كما كان يفعل في حال صحَّته فكان يسأل: «أين أنا غدًا، أين أنا غدًا» ؟؛ يريد يوم عائشة، فأَذِنَ له أزواجه كلهنَّ أن يكون حيث شاء، فاختار بيت عائشة، وفيه توفي؛ (رواه البخاري).
ورُوي عن عائشة أنه بعَث في مرضِه إلى نسائه، فاجتمعنَ فقال: «إني لا أستطيع أن أَدور بينكنَّ فإن رأيتُنَّ أن تأذَنَّ لي أن أكون عند عائشة فأَذنَّ له»؛ (رواه أبو داود).
فانظر إليه – صلوات الله وسلامه عليه – كيف ضرَب المثل الأعلى بنفسه في حُسنِ معامَلة أهله في حال صحَّته ومرَضِه وإقامتِه وسفره؛ ليَقتدي به مَن يُريد سلامة دينه مِن الظلم والمحاباة.
والحق الذي لا ريب فيه أن الإسلام رفَع شأن المرأة وأعطاها من الحقوق والمزايا ما لم تظفَر به في دين سابق أو أمة مِن الأمم، وما يُراد لها بعد ذلك مِن منازَعة الرجل في اختصاصه ومساواتها له فإنما هو إسفاف وجهل بطبيعة المرأة وكرامتِها.
قال الأستاذ الإمام – رحمه الله -:
هذه الدرجة التي رُفع النساء إليها لم يرفعهنَّ إليها دين سابق، ولا شريعة مِن الشرائع، بل لم تصل إليها أمة مِن الأمم قبل الإسلام ولا بعدَه، وهذه الأمم الأوربيَّة التي كان مِن تقدُّمها في الحضارة والمدنيَّة أن بالغَتْ في تكريم النساء واحترامهنَّ، وعُنيتْ بتربيتهنَّ وتعليمهنَّ العلوم والفنون – لا تزال قوانين بعضِها تمنَع المرأة مِن حق التصرُّف في مالها بدون إذن زوجها، وغير ذلك من الحقوق التي منحَتْها إياها الشريعة الإسلامية مِن نحو ثلاثة عشر قرنًا ونصْف.
وقد كان النساء في أوربا منذ خمسين سنة بمنزلة الأَرِقاء في كل شيء، كما كنَّ في عهد الجاهلية عند العرب أو أسوأ حالاً، ونحن لا نقول: إن الدين المسيحيَّ أمرهم بذلك؛ لأننا نَعتقِد أن تعليم المسيح لم يَخلُص لهم كاملاً سالِمًا مِن الإضافات والبدع، والمعروف أن ما كانوا عليه مِن الدِّين لم يُرَقِّ المرأة، وإنما كان ارتقاؤها مِن أثر المدنية الجديدة في القرن الماضي.
فصلاة الله وسلامه عليك يا سيد المُنصِفين، وأعظم المصلِحين، وخير خلق الله أجمعين.
__________________________________________________
الكاتب: عبدالله بن عبداللطيف
Source link