غرس الله في عباده غريزةَ حبِّ الاجتماع، فلا يَنفك المرء عن أن يكون اجتماعيًّا بطبعه، يأنس إلى أخيه الإنسان، ويَنفِر من العيش وحيدًا، ويستوحش من العُزْلة.
غرس الله في عباده غريزةَ حبِّ الاجتماع، فلا يَنفك المرء عن أن يكون اجتماعيًّا بطبعه، يأنس إلى أخيه الإنسان، ويَنفِر من العيش وحيدًا، ويستوحش من العُزْلة.
والإسلام دين الله الخالد الذي جاء ليَرسُم للناس طريقَ السعادة في الدنيا، وطريق النجاة من العذاب في الآخرة، أخذ بأيدي أتباعه إلى الصراط السوي في هذا الموضوع موجِّهًا ومُرشِدًا، ولم يَدْعهم ينساقون وراء غرائزهم دون ضَبْط أو تنظيم.
وهذا شأن هذا الدين الكامل في كلِّ أمر من أمور الحياة، إن الإسلام لا يتجاهل الغرائزَ ولا خِصالَ الفطرة فيُحرِّمها، ولكنه يُنظِّمها ويُصعِّدها، ويجعلها تسير في سبيل الخير والعمران، ومكارم الأخلاق والمُثُل العليا الكريمة.
ومن ذلك حب الإنسان الاجتماع بالناس ولقائهم، فلقد قامت أحكام الإسلام بتأكيد هذه الفِطرة، وجعل أحكامه مُنسجِمة معها؛ فقد رغَّب المسلمين بمجالسة الأخيار والاجتماع بهم، وبأن يتعاون بعضهم مع بعض على البِرِّ والتقوى؛ قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
قال الإمام النووي: “باب فضل الاختلاط بالناس، وحضور جُمَعهم وجماعتهم ومشاهد الخير، ومجالس الذِّكر معهم، وعيادة مريضهم، وحضور جنائزهم، ومواساة محتاجهم، وإرشاد جاهلهم، وغير ذلك من مصالحهم، لمن قدَر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقمَع نفسه عن الإيذاء، والصبر على الأذى.
اعلم أن الاختلاطَ بالناس على الوجه الذي ذكرتُه هو المختار الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وكذلك الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي وأحمد، وأكثر الفقهاء رضي الله عنهم أجمعين”[1].
ومعلوم أن الجليس الصالح خير من الوَحدة، وهناك حديث جميل حوله كلام، لكن معناه صحيح جدًّا وهو قوله: «والجليس الصالح خير من الوَحدة»؛ (رواه الحاكم (3: 343) والبيهقي في شُعَب الإيمان، وقال ابن حجر في الفتح (11: 331): سنده حسن، لكن المحفوظ أنه موقوف على أبي ذر، وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير، وضعَّفه الألباني في الضعيفة (5: 441) برقم (2422)، وانظر: فيض القدير؛ للمناوي (6: 372).
وقد أمرنا ربنا بالاجتماع معتصمين بحبل الله فقال – سبحانه -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وقال عز من قائل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، ونهانا عن الفرقة والتنازع فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
وهذا كله حَضٌّ على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وتحذير لهم من الاختلاف والتفرق، وتهديد للذين تَفرَّقوا واختلفوا بالعذاب العظيم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة، وإياكم والفُرْقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، مَن أراد بحبوحة الجنة، فليَلزم الجماعةَ، مَن سرَّته حسنتُه وساءته سيئته فذلكم المؤمن»؛ (رواه الترمذي (2165).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يجمع أمتي» – أو قال: «أُمَّة محمد – على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النار»؛ (رواه الترمذي (2166).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يد الله مع الجماعة»؛ (رواه الترمذي (2167)، وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن حِرْصهم على الاجتماع يُورِثهم القوة وحِفْظًا من عُدوان الأعداء؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئبُ القاصيةَ»؛ (رواه أحمد (5: 196 و6: 446)، والنَّسائي (2: 106)، وأبو داود برقم (547)، والحديث صورة مُنتزَعة من حياة العرب في البادية، فالذئب يَسهُل عليه أكل الشاة القاصية البعيدة عن القطيع، فهناك راعٍ يحمي القطيع، وقد يكون معه كلب.
ولو نظرنا في العبادات المفروضة على المسلمين لوجدنا رُوحَ الجماعة تتجلَّى فيها بأوضح صورة؛ ففي الصلاة دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث شتى إلى أن تؤدَّى جماعة، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذِّ –أي الواحد– بسبع وعشرين درجة»؛ (انظر: البخاري برقم (645)، ومسلم برقم (650).
ومن ذلك ما رواه مسلم برقم (654) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “مَن سرَّه أن يلقى الله تعالى غدًا مسلمًا، فليُحافِظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سُننَ الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صلَّيتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سُنَّة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلَّف عنها إلا مُنافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف))، ولا تَصِح صلاة الجمعة إلا إذا كانت في جماعة.
ولو ذهبنا نتدبَّر أذكارَ الصلاة والآيات التي أوجب الله قراءتها فيها، لرأينا رُوح الجماعة واضحة فيها أتمَّ وضوح.
فقراءة الفاتحة فَرْضٌ لا تَصِح الصلاة إلا بها لحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»؛ (رواه البخاري برقم (756)، ومسلم برقم (394)، وأبو داود (822)، والترمذي (247)، وابن ماجه (837)، والنسائي (910).
قال الإمام الترمذي: “قال أبو عيسى: حديث عُبادة حديث حَسَن صحيح، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: عمر بن الخطاب، وجابر بن عبدالله وعمران بن حصين وغيرهم قالوا: لا تُجزئ صلاةٌ إلا بقراءة فاتحة الكتاب، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق”.
وفي الفاتحة يقول المسلم: الحمد لله رب العالمين ولا يقول: ربي.
وفيها يقول المسلم: إياك نعبد وإياك نستعين، ولا يقول: أعبد أستعين، بل بصيغة الجمع ليستشعر رُوح الجماعة.
وكذلك في التحيات يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثم يَختِم صلاتَه بالسلام بصيغة الجمع فيقول: السلام عليكم ورحمة الله.
••••
والصيام عبادة تبدو فيها رُوح الجماعة، وإن كان الامتناع عن المفطِّرات كالأكل والشرب عملاً فرديًّا، تبدو رُوح الجماعة في هذه العبادة؛ لأن المسلم مُطالَب أن يصوم في رمضان مع إخوانه المسلمين، ولو أنه أراد أن يصوم الفريضة في غير الوقت الذي يصوم فيه الناس لم يُجزئه ذلك.
والحج شعيرة يبدو فيها هذا المعنى بأجلِّ صورة وأوضح مظهر….. وهكذا.
••••
إذًا، فالإسلام يُنمِّي في الفرد فطرتَه في حبِّ الاجتماع بالآخرين، ولكنه يُصعِّدها ويسير بها في طريق مأمون يعود بالخير والصلاح على الفرد وعلى الأمة كلها؛ من أجل ذلك كان خطاب الله – عز وجل – لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]، فالرسول صلى الله عليه وسلم مأمور أن يصبر نفسه مع هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغَداة والعَشي، وأن يُعاشِرهم ويعايشهم، وألا تتحوَّل عيناه عنهم.
إن رُوح الجماعة التي حرص الإسلام أن يُحقِّقها في أوامره وتوجيهاته لم تُلغِ ذات الفرد، ولم تُصادِم ما فطره الله عليه من بعض الغرائز الفردية، وإنما وجَّه ذلك للمصلحة التي تُحقِّق السعادة العظمى للفرد والجماعة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الجماعة رحمة، والفُرْقة عذاب» [2].
والحمد لله رب العالمين
[1] رياض الصالحين : باب فضل الاختلاط بالناس، وقد جاء بعد الحديث رقم (601).
[2] انظر: مسند أحمد (4/ 278 و375)، ومجمع الزوائد (5 /217 و 8 /182)، وصحيح الجامع الصغير برقم (3019).
Source link