بينَّا فيما مضى مدلول كلمة التوحيد في كتاب الله تعالى، ونتناول هنا عشَرةَ أحاديثَ للنبي صلى الله عليه وسلم حول هذه الكلمة
د محمد مصطفى الشيخ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله الأطهار، وصحبه الطيبين.
أما بعد:
ثانيًا – كلمة التوحيد في السنة:
فقد بينَّا فيما مضى مدلول كلمة التوحيد في كتاب الله تعالى، ونتناول هنا عشَرةَ أحاديثَ للنبي صلى الله عليه وسلم حول هذه الكلمة، وهي حديث جبريل، وحديث ابن عمر ((بُني الإسلام))، وحديث وفد عبدالقيس، وحديث الأعرابي، وحديث معاذ، وحديث ((أُمِرتُ أن أقاتل الناس))، وحديث أبي مالك عن أبيه، وحديث وفاة أبي طالب، وحديث الشُّعَب.
إن عامة الأحاديث التي جاء فيها فضلُ هذه الكلمة أو حقوقُها أو ثمارها، إنما بَيَّن المرادَ منها – أي من قول: لا إله إلا الله – أحاديثُ أُخَر، أو رواياتٌ أُخَر لنفس الأحاديث، والحجةُ قائمة بهذه الروايات المختلفة للحديث الواحد؛ سواءٌ كان تعدُّدها لتعدد الواقعة، أو لاتِّحادها مع تصرُّف بعض الرواة بذِكْر المعنى.
ومن العجيب أن هذه الأحاديث تردَّد دائمًا على مسامعنا في المناهج الدراسية، أو في الخطب والدروس والمواعظ بروايات معينة، لا يحفظ المسلمون غيرَها؛ فمثلًا حديث ((بُني الإسلام على خمس)) لا يُعرَف إلا برواية ((شهادة أنْ لا إله إلا الله…)) الحديث، رغم أن هذه الأحاديث في الصحيحين مذكورةٌ بروايات متعددة؛ فإذا نصَّ حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم على أول مباني الإسلام تارة أنها شهادةُ أن لا إله إلا الله، وتارةً أن يُوحَّد الله، وتارة أن يُعبَد اللهُ ويُكفَر بما دونه – فهِمْنا من ذلك أن الثلاثة الأوجُهِ لنفس الحقيقة، لا تنفك إحداها عن الأخرى.
وإليك أخي القارئ الأحاديث:
• حديث جبريل: عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلًا» ))، وفي رواية أبي هريرة: (( «الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيمَ الصلاة المكتوبة…))، وفي رواية: ((لا تشرك بالله شيئًا، وتقيم الصلاة…» ))؛ [متفق عليه].
• حديث بُني الإسلام: عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «بُني الإسلام على خمسة: على أن يوحَّد الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج» ))، وفي رواية: (( «على أن يُعبَد الله ويُكفَر بما دونه، وإقامِ الصلاة…» ))، وفي رواية: (( «شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة…» ))، وفي رواية: ((إيمانٍ بالله ورسولِه، والصلاة الخمس…))؛ [متفق عليه].
• حديث وفد عبدالقيس: عن ابن عباس قال: “إنَّ وفد عبدالقيس لما أتَوُا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن القوم؟)) أو: ((مَن الوفد؟))، قالوا: ربيعة، قال: ((مرحبًا بالقوم – أو بالوفد – غيرَ خزايا ولا نَدامى))، فقالوا: يا رسول الله، إنا لا نستطيع أن نأتيَك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحيُّ من كفار مُضَر، فمُرْنا بأمرٍ فَصْلٍ نُخبر به مَن وراءنا ونَدخل به الجنة، وسأَلوه عن الأشربة، فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تُعطوا من المغنَمِ الخُمس))، ونهاهم عن أربع…”.
وفي رواية: (( «آمرُكم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله – ثم فسَّـرها لهم فقال – شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة…)» ).
وفي رواية: (( «آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله – وعقَد بيده هكذا – وإقام الصلاة» …)).
وفي رواية: (( «الإيمان بالله: شهادة أن لا إله إلا الله» )).
ولمسلمٍ: ( «(آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة» …))؛ [متفق عليه].
وهنا نرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أجابهم في مقام البيان الواضح المحكَم لما يَلزَمهم من الدين: “فمُرنا بأمر فَصْلٍ نخبر به مَن وراءنا وندخل به الجنة”؛ وليس مقام ضرب الأمثال أو تَعْداد فروع الدين المجردة.
• حديث الأعرابي: عن أبي أيوب أن أعرابيًّا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فأخذ بخِطام ناقته أو بزِمامها، ثم قال: يا رسول الله – أو يا محمد – أخبرني بما يُقرِّبني من الجنة وما يُباعدني من النار، فكف النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم نظر في أصحابه، ثم قال: « ((لقد وُفِّق)) أو: ((لقد هُدي))، قال: ((كيف قلتَ؟))، فأعاد، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((تَعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتَصِل الرَّحِم. دع الناقة))» ؛ [متفق عليه].
• حديث معاذ: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن، فقال: «((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأَعْلِمْهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تُؤخذ من أغنيائهم وتُردُّ على فقرائهم))» .
وفي رواية: « ((فليكن أوَّلَ ما تدعوهم إلى أن يوحِّدوا الله تعالى، فإذا عرَفوا ذلك…))» .
ولمسلم: « ((فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل، فإذا عرفوا الله…))» الحديث؛ [متفق عليه].
لقد أورد البخاري هذا الحديثَ وحديثَ « ((حقُّ الله على العباد))» في “كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي أمَّتَه إلى توحيد الله تبارك وتعالى”.
ويَظن البعض أن (كتاب التوحيد) من صحيح البخاري خاص بتوحيد القول فقط، وأن (كتاب الإيمان) خاص بتوحيد العمل، ولكن هذه الترجمة تدلُّ على غير ذلك.
وإليك شرحًا نفيسًا للحافظ ابن حجر رحمه الله، قال: “واستُدل بقوله: ((فإذا عرفوا الله)) بأنَّ معرفة الله بحقيقة كُنهِه ممكنةٌ للبشر، فإن كان ذلك مقيدًا بما عَرَّف به نفسه من وجوده وصفاته اللائقةِ من العلم والقدرة والإرادة مثلًا، وتنزيهِه عن كل نقيصة كالحدوث، فلا بأس به. فأمَّا ما عدا ذلك، فإنه غيرُ معلوم للبشـر، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾} [طه: 110].
فإذا حُمِل قولُه ((فإذا عرفوا الله)) على ذلك، كان واضحًا؛ مع أن الاحتجاج به يتوقف على الجزم بأنه صلى الله عليه وسلم نطَق بهذه اللفظة، وفيه نظر؛ لأن القصة واحدة، ورُواة هذا الحديث اختلفوا: هل ورَد الحديث بهذا اللفظ أو بغيره؟ فلم يَقُل صلى الله عليه وسلم إلا بلفظٍ منها.
ومع احتمالِ أن يكون هذا اللفظ مِن تصرف الرواة: لا يتم الاستدلال[1]، وقد بينتُ في أواخر (كتاب الزكاة) أن الأكثر روَوْه بلفظ: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك))، ومنهم مَن رواه بلفظ: ((فادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك))، ومنهم مَن رواه بلفظ: ((فادعهم إلى عبادة الله، فإذا عرفوا الله)).
ووجه الجمع بينها أن المراد بالعبادة: التوحيد، والمراد بالتوحيد: الإقرار بالشهادتين، والإشارة بقوله: ((ذلك)) إلى التوحيد، وقوله: ((فإذا عرفوا الله))؛ أي: عرَفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة الإقرار والطَّواعية؛ فبذلك يُجمَع بين هذه الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة، وبالله التوفيق”[2].
فانظر رحمك الله إلى عظيم فَهمِ الحافظ في جمعه بين ألفاظ الروايات المختلفة، وبيان دلالتها على التوحيد العمَلي وركن الانقياد (التزام الشرائع) فيه، وفَهمِه الناصع لحقيقة التلازم بين مدلولات (لا إله إلا الله – التوحيد – إفراد الله بالعبادة).
• حديث أُمرت أن أقاتِل الناس: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( «(أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصَم منِّي ماله ونفسه إلا بحقِّه، وحسابه على الله))» .
وفي رواية: ((حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به)).
وفي رواية ابن عمر: « ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة))» ؛ [متفق عليه].
• وعن أبي مالك، عن أبيه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ((من قال: لا إله إلا الله، وكَفَر بما يُعبدُ من دون الله، حرُم ماله ودمه، وحسابه على الله))، وفي رواية: ((من وحَّد الله))» ؛ [مسلم].
• حديث وفاة أبي طالب: عن سعيد بن المسيَّب، عن أبيه قال: “لما حضرت أبا طالب الوفاةُ، جاءه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل، وعبدالله بن أبي أميَّة بن المغيرة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « ((يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهدُ لك بها عند الله))» ، فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبدالمطلب؟”؛ [متفق عليه].
فتأمَّل كيف فَهِم رؤوسُ الكفر من قريش معنى كلمة التوحيد وتضمُّنَها الكفرَ بملَّتهم، ولو كانت مجردَ كلمة، لَما رَعَدت أنوفُهم لها.
• حديث الشُّعَب: قال البخاري: “باب أمور الإيمان، وقولِ الله تعالى {: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾} [البقرة: 177]، { ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ } [المؤمنون: 1]”.
ثم ساق حديثَ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)))» [3].
ولمسلم: « ((الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان))» ؛ [متفق عليه].
فجاء حديث الشُّعَب موافقًا لآية البِر، كما هو موافقٌ لقوله تعالى: {﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾} [النساء: 36]، وكذلك لآيتي (الأنعام) و(الإسراء).
فوائدُ من حديث وفد عبدالقيس:
لقد نال هذا الحديث الجليل من اهتمام الشرَّاح قدرًا عظيمًا؛ إذِ النبي فسَّر هنا الإيمانَ بأمور الإسلام في الأحاديث الأخرى، ثم إنه صلى الله عليه وسلم حدَّ لهذه الأمور حدًّا معدودًا، ثم وقع في العدد تفاوتٌ فيما قد يَظهر للسامع، كما صدَّر ابنُ حجر عرضه لأقوال العلماء بسؤاله: وعلى هذا فيقال: كيف قال: ((أربع)) والمذكورات خمس[4]؟
إن المحكَم في الحديث هو أن النبي صلى الله عليه وسلم دَعاهم إلى الإيمان بالله وحده، الذي هو عبادة الله لا شريك له، وهو معنى لا إله إلا الله؛ ثم أمَرهم بأعمال الإيمان التي تقوم على هذه القاعدة، ومعلوم أن الإيمان أصله التوحيد، وشرائعُ الإسلام من لوازمه.
ثم إن وفد عبدالقيس من خيار الوفد الذين قَدِموا على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذا خاطبَهم الرسول بما هم أهله، وقدَّم الإجمالَ بالعدد قبل التفسير؛ لكي تتشوَّف النفس إلى التفصيل، ثم تَسكُن إليه، ويحصل حفظها للسامع، فإذا نسي شيئًا من تفاصليها طالب نفسَه بالعدد، فإذا لم يستوفِ العدد الذي في حفظه، علم أنه قد فاته بعضُ ما سمع؛ كما ذكر الحافظ.
إنه لا إشكال في الحديث إذا فُسِّر بأمثاله من الأحاديث التي فصَّلَت أركان الإسلام، لما قد تبين من أن النبي فسَّر هنا الإيمان بما فسر به الإسلام في حديث جبريل – جوابًا بالحد عن المحدود – إذ قال: “الإسلام أن تفعل كذا”، وعَدَّ خمسَ خصال في حديث جبريل هي أركان الإسلام، وهي هي المذكورة هنا: “الشهادتان، إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، صوم رمضان”، سِوى الحج؛ للعلَّة التي ذكرها العلماء (أنه لم يكن قد فُرض بعد).
فعُلِم أن الأربع هنا هي الخَمسُ هناك، سوى الحج، وأن النبيَّ أجملها أولًا في الإيمان بالله وحده؛ لأنه مِلاكُها، وهي شرائعه.
ومعلوم أن الشيء المركب من أجزاء تكون هيئته الاجتماعية مبنيَّة على تلك الأجزاء؛ كما بيَّن ابنُ تيمية[5]، وعَدَّ أولَ الأربع التوحيدَ مثلما بين أيضًا في حديث جبريل ومعاذ والأعرابيِّ وغيرِها – وهو الصادق المصدوق، الذي يُصدِّق كلامه بعضُه بعضًا – لأن التوحيدَ هو الأصلُ الذي عليه يقوم ما بعده.
وفي هذا يقول ابن حجر: وقد أجيبَ عن ذلك بأنه (أي: الإيمانَ) باعتبار أجزائه المفصَّلةِ أربع، وهو في حد ذاته واحد، والمعنى أنه اسمٌ جامع للخصال الأربع التي ذَكَر أنه يأمرهم بها، ثم فسرها، فهو واحدٌ بالنوع، متعددٌ بحسب وظائفه، كما أن المنهيَّ عنه – وهو الانتباذ فيما يُسرِع إليه الإسكار – واحدٌ بالنوع، متعدد بحسب أوعيته.
وهنا سؤال: لمَ خصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه المبانيَ بكونها هي الإسلام وهي الإيمان، دون غيرها من الواجبات؟
“فالتحقيق أن النبي ذكَر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقًا، الذي يجب لله عبادةً محضة على الأعيان، فيجب على كل مَن كان قادرًا عليه ليعبد الله بها مخلصًا له الدين، وهذه هي الخَمس (أي: المباني الخمس)، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب المصالح، فلا يعمُّ وجوبُها جميعَ الناس”[6].
ولعل هذا التحقيق يفسِّر لمَ أَمَرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخُمُس، مع أنه لم يوجِب ذلك على كلِّ من بايَعه؛ وذلك أن هذا تعيَّن في حقهم، فصار من شرائع الإيمان التي عليهم، ولهذا تَبِع ذِكرَ المباني الأربعة ذِكرُ الخُمُس؛ تفصيلًا للمأمور به أولًا من الإيمان بالله وحده، وهذا مأخذُ البخاري في ترجمته (باب أداء الخُمُس من الإيمان)، ولا ضيرَ بعد ذلك في كون أداء الخمس زائدًا عن العدد الموعود به، كما قال ابن التين: لا يَمتنع الزيادة إذا حصَل الوفاء بوعد الأربع.
قال ابن حجر: ويدل على ذلك لفظُ رواية مسلم من حديث أبي سعيد الخدري في هذه القصة: ((آمركم بأربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأَعطوا الخُمس من الغنائم)).
ولابن تيميَّة توجيهٌ بديع في اختصاص حديث وفد عبدالقيس بتفسير الإيمان على هذا النحو دون سائر الأحاديث؛ إذ يقول: “ففَسَّر الإيمانَ هنا بما فسر به الإسلام [في حديث جبريل]؛ لأنه أراد بالشهادتين هنا أن يَشهد بهما باطنًا وظاهرًا، وكان الخطابُ لوفد عبدالقيس، وكانوا من خيار الناس، وهم أول مَن صلى الجمعة ببلدهم بعد جمعة أهل المدينة، كما قال ابن عباس: أولُ جُمُعة جُمِّعَتْ في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعةٌ بجُواثى – قرية من قرى البحرين – وقالوا: يا رسول الله، إنَّ بيننا وبينك هذا الحيَّ من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهرٍ حرام، فمُرنا بأمر فصْلٍ نعمل به وندعو إليه مَن وراءنا – وأرادوا بذلك أهل نَجْد؛ من تميم وأسَد وغَطفان وغيرهم، [و]كانوا كفارًا[7] – فهؤلاء كانوا صادقين راغبين في طلب الدين، فإذا أمَرَهم النبي صلى الله عليه وسلم بأقوالٍ وأعمال ظاهرة فَعَلوها باطنًا وظاهرًا، فكانوا بها مؤمنين”[8].
ومقصوده رحمه الله أن الرسول فسَّر الإيمان هنا بمباني الإسلام دون غير ذلك من الأحاديث؛ لأن هذه المبانيَ إذا أتى بها العبد على تمامها – أي: باطنًا وظاهرًا – فقد حَصَّل الإيمان، وكانت هي أمور الإيمان في حقه، وهذا حال وفد عبدالقيس.
وهذا التوجيه يفسر لِمَ لَمْ يذكر أمورًا (كالحج) وذكر أمورًا أخرى (كالخُمس واجتناب الأشربة)؛ إذ الرسولُ أمرَهم بما يجب في حقِّهم مما يَصيرون به مؤمنين إذا التزَموه.
وحاصله أن المعنى: هل تدرون ما الإيمانُ بالله في حقكم؟ فإن قال قائل: لِمَ لَمْ تُجروا اللفظ على إطلاقه؟ فالجواب: لوجود قرينة: ((وأن تُعطوا الخمس من المغنم))، فالكلام على إيمانٍ خاص بهم.
فهذا آخرُ ما ظهَر في هذا الحديث الجليل، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
[1] الحافظ رحمه الله يرد على المتكلمين الذين حصروا التوحيد الواجبَ على العباد في “المعرفة”؛ استنادًا إلى هذه الرواية؛ ولهذا فهو يَنفي الاستدلال الجازم بلفظةٍ واحدة مع الإعراض عن سائر الروايات، وإلا فإنه في العبارة التالية ذكَر وجه الجمع؛ مما يدل على استدلاله بالروايات المختلفة، حتى ولو كانت من تصرف الصحابة؛ لأن فهم الصحابة حجَّة لنا؛ لا سيما في أصول الدين.
[2] فتح الباري: ك/ التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، ح (7372)، 13/ 354.
[3] البخاري: ك/ الإيمان، ح (9).
[4] الإيمان بالله مع الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخُمس؛ يراجع فتح الباري: ك/ الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان، ح (53)، 1/ 132 – 134.
[5] مجموع الفتاوى: 7/ 11، 404.
[6] الفتاوى: 7/ 314.
[7] أي: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعملوا بالدين ويدعوا إليه من لم يؤمن بعدُ من قومهم.
[8] الفتاوى: 7/ 552 – 553؛ الأوسط: 443 – 444.
Source link