أي الذي قصصناه عليك في شأن عيسى عليه السلام هو الحق الذي لا مَعْدل عنه ولا محيد، وإنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}
{{إِنَّ هَذَا}} الإشارة إلى ما تقدم من أخبار عيسى {{لَهُوَ}} ضمير فصل، ودخلت عليه لام الابتداء لزيادة التقوية التي أفادها ضمير الفصل؛ لأن اللام وحدها مفيدة تقوية الخبر، وضمير الفصل يفيد القصر، أي: هذا القصص لا ما تقصه كتب النصارى وعقائدهم.
وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: المؤكد الأول: (إن)، التي هي للتوكيد، والمؤكد الثاني: (اللام)، والمؤكد الثالث: (هو)، ضمير فصل، الذي يفيد الحصر والتوكيد.
{{الْقَصَصُ}} «الْقَصَصُ» اسْمٌ لِمَا يُقَصُّ، يُقَالُ: قَصَّ الْخَبَرَ قَصًّا إِذَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْقَصُّ أَخَصُّ مِنَ الْإِخْبَارِ فَإِنَّ الْقَصَّ إِخْبَارٌ بِخَبَرٍ فِيهِ طُولٌ وَتَفْصِيلٌ وَتُسَمَّى الْحَادِثَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُخْبَرَ بِهَا «قِصَّةً» أَيْ مَقْصُوصَةً أَيْ مِمَّا يَقُصُّهَا الْقُصَّاصُ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يَنْتَصِبُ لِتَحْدِيثِ النَّاسِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ «قَصَّاصٌ » قَالَ تَعَالَى: {{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} } [يوسف:3]
{{الْحَقُّ}} أي الذي قصصناه عليك في شأن عيسى عليه السلام هو الحق الذي لا مَعْدل عنه ولا محيد، وإنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
{{وَمَا مِنْ}} صرّح فيه بمن الاستغراقية تأكيداً للرد على النصارى في تثليثهم.
{{إِلَهٍ}} بمعنى: مألوه، والمألوه هو المعبود محبة وتعظيماً، ولا يصدق هذا حقا إلا على الله عز وجل.
{{إِلَّا اللَّهُ}} لا معبود بحق إلا هو تعالى.
** وفيه أن في سلامة العقيدة الراحة التامة؛ لأنك إذا سلمت عقيدتك وآمنت بأنه ما من إله إلا الله، فإنك لن تتجه إلى من سوى الله، ولا شك أن هذا راحة، فانحصار الهدف والمقصود من أكبر أسباب راحة الإنسان، وإذا تعددت الأهداف والمقاصد تبلبل الإنسان، ولهذا يذكر عن عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه قال: “من بورك له في شيء فليلزمه”، أي شيء يبارك لك فيه، وترى أنك مطمئن إليه سواء كان سيارة أو بيتاً أو زوجة أو صاحباً فالزمه، فإنه خير من أن تنتقل إلى غيره.
{{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ}} الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده، و(الـ) هنا تفيد الاستغراق أي جميع أنواع العزة ثابتة الله سبحانه وتعالى.
{{الْحَكِيمُ}} في خلقه وتدبيره.
والآية أفادت تقوية الخبر عن الله تعالى بالعزة والحكم، والمقصود إبطال إلهية المسيح على حسب اعتقاد المخاطبين من النصارى، فإنهم زعموا أنه قتله اليهود وذلك ذلة وعجز لا يلتئمان مع الإلهية، فكيف يكون إله وهو غير عزيز وهو محكوم عليه، وهو أيضا لإبطال لإلهيته على اعتقادنا؛ لأنه كان محتاجا لإنقاذه من أيدي الظالمين.
وفيه إشارة إلى وصفي الإلهية وهما: «القدرة» الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء، و «العلم» المعبر عنه بالحكمة فيما صنع والإتقان لما اخترع، فلا يخفى عنه شيء. وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى.
وكل عزيز إذا اقترن في عزته بالحكمة والحكم كملت عزته، وذلك لأن العزيز إذا غلب ولم يكن له حكمة أدته غلبته إلى الطيش وعدم ضبط النفس، فإذا اجتمعت العزة والحكمة كمل الموصوف بهما.
والحكيم مشتق من الحكم والإحكام، فهو سبحانه وتعالى الحاكم ولا حاكم غيره، وهو المحكم أي المتقن لما حكم به سواء كان الحكم كونياً أو شرعياً، والحكمة أو الإحكام الذي بمعنى الإتقان هو وضع الشيء في موضعه اللائق به بحيث لا يقال: إن هذا غير لائق أو هذا غير موافق، بل يكون موافقاً مطابقاً لما تقتضيه المصلحة.
والحكم نوعان: حكم كوني، وحكم شرعي.
فالحكم الكوني: ما قضى به الله قدراً .
والحكم الشرعي: ما قضى به شرعاً .
والفرق بينهما ظاهر؛ الحكم الشرعي يتعلق فيما يحبه الله عز وجل فعلاً أو تركاً، فإن نهى عن شيء فهو يحب تركه، وإن أمر بشيء فهو يحب فعله. ويمكن أن يتخلف الحكم الذي حكم الله به شرعا.
أما الحكم الكوني فيتعلق فيما يحبه وما لا يحبه، ولا يمكن أن يتخلف، فلا بد أن يكون.
** وفيه أن واجبنا نحو أحكام الله الكونية والشرعية التسليم والرضا والقناعة وأن لا نطلب سواها؛ لأننا نعلم أنها مبنية على الحكمة، ولهذا كان السلف الصالح -رضي الله عنهم- بل كل مؤمن إذا قضى الله ورسوله أمراً لم يكن لهم الخيرة من أمرهم، حتى إنهم يجيبون إذا سئلوا عن الحكمة بقال الله وقال رسوله، فعائشة رضي الله عنها لما سألتها المرأة: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: “كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة”، والمؤمن حقا، والعابد حقا هو الذي يقتنع بما لا يعرف حكمته كما يقتنع بما يعرف حكمته، هذا هو المؤمن حقا، أما الذي لا يقتنع بحكم الله إلا إذا عرف حكمته فهو في الحقيقة ليس عابداً الله على وجه الكمال، بل هو عابد لهواه، إن تبينت له الحكمة اقتنع، وإن لم تتبين لم يقتنع ولهذا نرى أن في إيجاب رمي الجمرات -وهي الحصى- في مكان معين.. نرى أن فيها مع إقامة ذكر الله عز وجل الذي نص عليه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تمام العبودية وكمالها؛ لأن كون الإنسان يحمل حصى يرميها في مكان معين تعبداً الله هو من كمال العبودية، أما كون الإنسان -مثلاً- يصلي أو يتجنب الزني خوفاً من الله ورجاء لثوابه في الصلاة فهذا واضح الحكمة فيها، لكن كونه يرمي حجرات -حصيات- في مكان معين قد لا تتضح الحكمة فيها لولا أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أنها لإقامة ذكر الله وفيها تمام العبودية .
{{فَإِنْ تَوَلَّوْا}} أعرضوا عن الإقرار بالوحدانية والتنزيه عن الصاحبة والولد وقَبولِ الحقِّ الذي قصَصْنا عليك بعد ما عاينوا تلك الحُججَ النَّيرة والبراهينَ الساطعة.
{{فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}} عبر عن العقاب بالعلم الذي ينشأ عنه عقابهم، ونبه على العلة التي توجب العقاب، وهي الإفساد، ولذلك أتى بالاسم الظاهر دون الضمير فلم يقل: “عليم بهم”.
وأتى به جمعاً ليدل على العموم الشامل لهؤلاء الذين تولوا ولغيرهم، لأن الإعراضَ عن التوحيد والحقِّ الذي لا محيدَ عنه بعد ما قامت به الحججُ إفسادٌ للعالم.
ودل على أن توليهم إفساد أي إفساد. وفيه من شدة الوعيدِ ما لا يخفى، فالمفسد الله عليم به، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر، الذي لا يفوته شيء.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link