قالت أم حبيبة لعائشة قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت عائشة: غفر الله لك ذلك كله وحللك منه ، فقالت أم حبيبة : سررتني سرك الله
العناصر الأساسية:
العنصر الأول: مهاجرة الحبشة وإنصاف الرسول .
العنصر الثاني: عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة .
العنصر الثالث: الهدي النبوي في التسامح والتجاوز عن زلات الناس .
الموضوع:
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه وتعالى: { لتجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }
أيها الإخوة الكرام : هذه الآيات من سورة المائدة نزلت تمتدح المسلمين من أهل الحبشة ..
وأهل الحبشة هم أولئك الذين آووا المسلمين المستضعفين من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد كان المسلمون المستضعفون قد استأذنوا رسول الله صلي الله عليه وسلم في الخروج من مكة فرارا بدينهم وذلك في سادس الأعوام من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن رسول الله لهم ووجههم إلى الهجرة إلى الحبشة ..
فقيل ولم الحبشة ؟!
فقال عليه الصلاة والسلام: ‘لأن بها ملك لا يظلم عنده أحد “
مهاجرة الحبشة كانوا رجالاً ونساء منهم رملة بنت أبي سفيان والتي يقال لها أم حبيبة وكانت قد أسلمت وسبقت بإسلامها أخواها (معاوية وعتبة ) وسبقت بإسلامها أباها أبا سفيان ( صخر بن حرب) رضي الله تعالى عنهم أجمعين ..
هاجرت أم حبيبة وفرت بدينها مع زوجها (عبيد الله بن جحش)
هاجرت أم حبيبة مع زوجها ، فركبت البحر إلى الحبشة ، فأمنت على دينها ونفسها لكنها ابتليت في تلك البلاد الغريبة في زوجها ( عبيد الله بن جحش الأسدي) وذلك أنه تأثر بديانة الناس في الحبشة فترك الإسلام وتنصر ولم يزل يدين بغير الإسلام ويشرب الخمر حتى هلك في تلك البلاد ..
أما أم حبيبة فتمسكت بدينها ، وثبتت على الحق الذي هي عليه
وبقيت أم حبيبة هناك وحيدة بلا زوج تسكن إليه ، وبلا عائل يعولها , وفي كفالتها صغيرة لها يقال لها (حبيبة) ..
وهنا تدخل بحكمته ورحمته وحسن رعايته رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة
يخطب منه (أم حبيبة)
فما كان من النجاشي ملك الحبشة إلا أن أرسل إلى أم حبيبة فبشرها بأن رسول الله يخطبها ، فجبر خاطرها ، وفرحت ، وقبلت ، ووكلت وليا لها يقال له (خالد بن سعيد بن العاص) أما النجاشي ملك الحبشة فكان وكيل رسول الله على العقد ، فدعا النجاشي المسلمين إلى قصره فأشهر زواج رسول الله بأم حبيبة وقضى عن رسول الله أربعمائة دينار مهرا لأم حبيبة لتكون أم حبيبة أكثر أمهات المؤمنين صداقا ..
وصنع النجاشي ملك الحبشة في ذلك اليوم وليمة كبيرة أكل منها جميع المسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ..
ثم إن النجاشي جهز أم حبيبة بمال وثياب وزينة وزفها في سفينة في البحر من الحبشة إلى المدينة حيث رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وفي ذلك الزواج المبارك بين رسول الله وبين أم حبيبة أنزل الله قوله: {{ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾}
كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم في قريش ( أبو سفيان ) فلما تزوج رسول الله ( أم حبيبة ابنة أبي سفيان) عند ذلك انطفأت نار أبي سفيان ، ولانت عريكته ، واسترخت شكيمته في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما آذى رسول الله بعد ، ولا أغار عليه ، ولا جهز لحربه ..
بل جعل أبو سفيان يفاخر بتلك المصاهرة بينه وبين رسول الله ويقول : (ذلك الفحل لا يقدع أنفه) وهذا يقال للخاطب إن كان كريما ، وليس أحد من الناس أكرم من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..
كما انطفأت نار العداوة بين أبي جهل وبين رسول الله بزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين أم سلمة ذلك أنها من بني عمومة أبي جهل المخزومي ..
كما انطفأت نار العداوة أيضا بين خالد بن الوليد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بزواج رسول الله بأم المؤمنين ميمونة بنت الحارث إذ أنها خالة خالد ..
كما توقف بنو المصطلق عن المكر وعن الكيد للمسلمين بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين جويرية بنت الحارث ،
وكما توقف بنو النضير أيضا عن غدرهم وعن عداوتهم للمسلمين بعد زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين صفية..
وذلك قول الله عز وجل: {{ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَٱللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾}
قدمت أم حبيبة رضي الله عنها المدينة ورسول الله بخيبر ، فانضمت راشدة إلى أمهات المؤمنين ، ولما رجع رسول الله من خيبر بنى بها ، ودخلت أم حبيبة البيت النبوي من أوسع الأبواب فتلقت العلم مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمعت منه الحديث ، وحفظت عنه ، وروت رضي الله عنها خمسة وستين حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
عاشت أم حبيبة في البيت النبوي تحت كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنوات ، لم تكن إلا هادئة ، مسالمة ، محبة لله ، ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، شاكرة لله تعالى الذي اختارها زوجة لرسوله في الدنيا والآخرة..
ومن أدل المواقف على ذلك :
موقفها من أبيها حين نقضت قريش صلح الحديبية ، وبلغ قريشا أن رسول الله سيغزو مكة ، عندها قدم أبو سفيان المدينة يعتذر ويكلم رسول الله ، ويكلم أبا بكر ، وعمر ، فما قبلوا منه اعتذاراً ، فلم يكن أمام أبي سفيان إلا ابنته ( أم حبيبة) قال أكلمها تشفع لي عند محمد ( صلى الله وسلم على نبينا محمد)
فدخل عليها فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم، ما كان من أم حبيبة إلا أن طوت الفراش لئلا يجلس عليه ، فتعجب أبو سفيان من صنيعها !!
فقالت : ما كان لك أن تجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم..
وفيها وفي أمثالها صدق قول الله عز وجل {{لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَـٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}}
وبعد أربع سنوات من زواج رسول الله بأم حبيبة توفي النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت أم حبيبة في بيت النبوة مسالمة ، هادئة ، عابدة ، قانتة ..
لكنها قبل وفاتها دعت أمهات المؤمنين واحدة واحدة يدخلن عليها فتتحلل منهن وتستغفر لهن ، وهن يتحللن منها ويسغفرن لها ، وتسامحهن ، ويسامحنها ..
قالت أم حبيبة لعائشة قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت عائشة: غفر الله لك ذلك كله وحللك منه ، فقالت أم حبيبة : سررتني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك وتحللت منها ، وأرسلت إلى صفية ، وحفصة ، وزينب ، جويرية ، فاستغفرت لهن ، واستغفرن لها ، وتسامحن فيما بينهن حتى توفيت رضي الله عنها سنة 44 من الهجرة ودفنت في البقيع مع بقية أمهات المؤمنين..
رضي الله عنه أم حبيبة وعن جميع الطيبات الكريمات أمهات المؤمنين زوجات الحبيب النبي محمد صلى الله عليه وسلم..
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم إنه ولي ذلك والقادر عليه..
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث أن نقول : إن أعظم درس مستفاد من حديث اليوم عن أم حبيبة رضي الله عنها ، وعن موقفها من أمهات المؤمنين في آخر أيامها هو ( سعي الإنسان لبراءة الذمة )
أرسلت أم حبيبة إلى أمهات المؤمنين فتسامحت معهن لتخرج من الدنيا طاهرة نقية لا تحمل وزرا ولا مظلمة..
قالت لكل واحدة منهن : قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقيل لها : غفر الله لك ذلك كله وحللك منه ..
أن تسعى لتخرج من هذه الدنيا وليس من وراء ظهرك مظلوما ظلمته ، ولا ضعيفا قهرته ، أن تخرج من الدنيا وليس بينك وبين أحدهم مظلمة في عرض أو مال هذا وربي أعظم إنجاز تختم به حياتك..
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
«” مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ “» .
سعي الإنسان لبراءة ذمته من مظالم العباد :
هو آخر ما سمعه الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ، ألا ومن كنت قد شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليستقد منه ، لا يقولن رجل : إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني ، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له ، أو حللني ، فلقيت الله وأنا طيب النفس .. “
وفي الختام أود أن أقول :
إن الدنيا بنعيمها ومنافعها وأموالها لا تساوي شيئا ، فلا تعادوا أحدا ، ولا تظلموا أحدا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ..
وفي المواقف كلها ضعوا نصب أعينكم قول النبي عليه الصلاة والسلام : ” لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ “.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسامحنا ، وأن يتجاوز عن زلاتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه ..
——————————————————————————
جمع وترتيب : الشيخ / محمد سيد حسين عبد الواحد.
إمام وخطيب ومدرس أول .
إدارة أوقاف القناطر الخيرية.
مديرية أوقاف القليوبية . مصر
Source link