علة حديث: (الحجر الأسود من الجنة) وحديث: (يأتي الحجر يوم القيامة له عينانِ يُبصِر بهما ولسانٌ ينطِقُ به)
ثبت في فضل الحجر الأسود أحاديث صحيحة، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الحجر الأسود في طوافه، ويُقَبِّله، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قبَّل الحجر الأسود وقال: (إني أعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك ما قبَّلتُك)، وروى عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (8877) وأحمد بن حنبل في مسنده (4462) والنسائي في سننه (2919) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( «(إِنَّ مَسْحَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ يَحُطَّانِ الْخَطَايَا حَطًّا» ))، رواه عبد الرزاق عن معمر وسفيان الثوري، وأحمد عن هُشَيم، والنسائي من طريق حماد بن زيد، كلهم عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن عُبيد بن عُمير عن ابن عمر، وبعضهم قال: عن عبد الله بن عُبيد عن أبيه، والصواب أنه سمع أباه يسأل ابن عمر كما بينه أحمد في روايته وغيره، والثوري وحماد بن زيد ممن رويا عن عطاء بن السائب قبل اختلاطه، فهذا الحديث صحيح، وممن صححه: ابن خزيمة في صحيحه (2729) والألباني، وحسنه الأرناؤوط في تحقيق مسند أحمد (8/ 32).
وقد ورد في فضل الحجر الأسود حديث رواه الترمذي (878) من طريق جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «(نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن، فسوَّدته خطايا بني آدم)» ، وصحَّحه الترمذي، وضعَّفه شيخنا حسن بن حيدر الوائلي؛ لأن في سنده عطاءَ بن السائب الكوفي، وهو مختلِط، وروى عنه هذا الحديث جرير بن عبد الحميد بعد اختلاطه، وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده (3046) من طريق عفَّان عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب به مرفوعًا بلفظ: (الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضًا من الثلج، حتى سودته خطايا أهل الشرك)، والعلماء مختلفون في حماد بن سلمة هل روى عن عطاء بعد اختلاطه أو قبله؟ والأصح أنه روى عنه قبل الاختلاط وبعده كما ذكره ابن المديني وابن حجر، وسيأتي بيان ذلك، ثم إن في رواية حماد بن سلمة عن غير ثابت ضعفًا، وإن كانت رواية عفَّان عن حماد أقوى من رواية غير عفان عن حماد، سمعت شيخنا حسن حيدر يقول: “الحديث ضعيف لهذه العلة، ولعل الحديث موقوفٌ من قول ابن عباس، والظاهر أن الحجر الأسود من الأرض لا من الجنة، والله أعلم”.
قلت: حديث نزول الحجر الأسود من الجنة مختلَف في تصحيحه، فصحَّحه الترمذي وابن خزيمة في صحيحه (2733) والضياء المقدسي في المختارة (275)، وقال السخاوي في المقاصد الحسنة (ص: 299): “شواهده كثيرة”، وضعفه أبو الحسن القطَّان في كتابه بيان الوهم والإيهام (4/ 279، 280) و (5/ 732)، وصححه من المعاصرين الألباني، وصحَّح أول هذا الحديث شعيب الأرناؤوط لشواهده، وضعَّف بقية الحديث لعدم وجود شاهد له؛ قال الأرناؤوط في تحقيق مسند أحمد (5/ 14): “قوله: (الحجر الأسود من الجنة) صحيح بشواهده، وأما بقية الحديث فليس له شاهد يُقوِّيه، وإسناد الحديث ضعيف لاختلاط عطاء بن السائب، وقال الإمام أحمد: كان يرفع عن سعيد بن جبير أشياءَ لم يكن يرفعها، وقال أبو حاتم: رفع أشياء عن الصحابة كان يرويها عن التابعين”، ثم تراجع شعيب الأرناؤوط عن تصحيح أول الحديث: (الحجر الأسود من الجنة)، ورجَّح ضعفه كما في تحقيق مسند أحمد (21/ 380) وقال: “هذا الحديث لا يصح إلا موقوفًا، والله تعالى أعلم”.
وللحديث شواهدُ عن غير ابن عباس، عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وعائشةَ وأنس، وجميع هذه الشواهد لا يصح منها شيء مرفوعًا، يُنظر: علل الحديث لابن أبي حاتم (3/ 221)، مجمع الزوائد للهيثمي (3/ 242)، نزهة الألباب في قول الترمذي وفي الباب لحسن بن حيدر الوائلي (3/ 1492 – 1494)، الإيماء إلى زوائد الأمالي والأجزاء لنبيل جرار (7/ 82).
تنبيه: روى الطوسي في مستخرجه على جامع الترمذي (4/ 112) من طريق محمد بن الأزرق عن حُصين عن مجاهد قال سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من الثلج فما سوَّده إلا خطايا بني آدم)، قال الذهبي في كتابه المغني في الضعفاء (2/ 592): “محمد بن صالح المدني الأزرق، قال ابن حبان: لا يحتج بأفراده، ووثقه غيره”، وقد أخطأ الأزرق أو غيره في هذا الإسناد فجعله عن ابن عمر وإنما هو عن ابن عمرو، وجعله مرفوعًا وإنما هو موقوف، قال ابن أبي شيبة في مصنفه (14146): حدثنا ابن فُضَيل عن حُصين عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: (لقد نزل الحجر من الجنة وإنه أشد بياضًا من الثلج فما سوَّده إلا خطايا بني آدم)، وإسناده صحيح، فهذا الأثر ثابت من قول عبد الله بن عمرو لا عن عبد الله بن عمر، وقد صح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه كان يجزم بذلك كما في مصنف ابن أبي شيبة (14149).
وقد روي أن (الحجر الأسود من الجنة) عن بعض الصحابة والتابعين:
قال الإمام أحمد في مسنده (13944): حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال: حدثنا قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (الحجر الأسود من الجنة)، وهذا إسناد صحيح، لكنه موقوف، وقال ابن أبي شيبة في مصنفه (14145): حدثنا وكيع عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الحجر من حجارة الجنة، ولولا ما مسه من أنجاس أهل الجاهلية ما مسه من ذي عاهة إلا برأ)، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى صدوق سيء الحفظ جدًا، وهذا الأثر موقوف على ابن عباس، وروى نحوه الأزرقي في أخبار مكة (1/ 328) عن عثمان بن ساج عن يحيى بن أبي أنيسة عن عطاء عن عبد الله بن عباس موقوفًا، وإسناده ضعيف جدًّا، ابن ساج فيه ضعف، وابن أبي أَنيسة متروك الحديث، ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده (938) من طريق أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس موقوفًا، والقتات ضعيف، وروى الفاكهي في أخبار مكة (9) بإسناد ضعيف عن عبد الله بن عثمان بن خُثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الحجر والمقام من جوهر الجنة)، ومجموع هذه الطرق عن ابن عباس تدل على أنه من قوله، وليس مرفوعًا عن النبي عليه الصلاة والسلام، وتدل هذه الروايات على ضعف رواية عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا.
وقد ورد ما يدل على أن هذا القول من الإسرائيليات، قال عبدالرزاق الصنعاني في مصنفه (8915): عن ابن جُريج قال: حدثني عطاء عن عبد الله بن عمرو وكعب الأحبار أنهما قالا: (لولا ما يَمْسَحُ به ذو الأنجاس من الجاهلية ما مسَّه ذو عاهة إلا شُفي، وما من الجنة شيء في الأرض إلا هو)، وإسناده صحيح، وقال ابن أبي شيبة في مصنفه (14147): حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة قال: سُئل كعبٌ عن الحجر الأسود فقال: (حجرٌ من حجارة الجنة)، وإسناده صحيح إلى قتادة لكنه لم يسمع من كعب، وقد بيَّن الواسطة بينهما البيهقي في شعب الإيمان (6992) فرواه من طريق الأشعث بن نزار الجهني عن قتادة عن أبي شيخ الهُنائي عن كعب الحَبر قال: سئل عن الحجر الأسود قال: (حجر من أحجار الجنة)، والهُنائي تابعي ثقة كما قال ابن حجر والذهبي، وقال ابن أبي شيبة (14144): حدثنا أبو الأحوص عن سِمَاك عن خالد بن عَرعَرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال لابنه: ابغني حجرًا، قال: فذهب ثم جاء وقد رَكِبَهُ فقال: من أين هذا؟! قال: (جاءني به من لم يتَّكل على بنائك، جاءني به جبريل من السماء)، وإسناده حسن، ويحتمل أن يكون هذا الأثر بمعنى حديث: (الحجر الأسود من الجنة)، ويحتمل أن يكون مخالفًا لمعناه، فلم يقل: جاء به جبريل من الجنة، بل قال: من السماء، فيحتمل هذا اللفظ أن يكون الحجر الأسود من السماء أي: من الجنة أو من بعض الكواكب أو نيزكًا أنزله الله من السماء ليكون في ركن بيته المعظَّم، ثم قول علي موقوف عليه، وليس مرفوعًا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ونقل ابن عبد البر في الاستذكار (4/ 202) عن عبد الله بن وهب قال: حدثني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: (الرُّكن حجرٌ من حجارة الجنة)، وإسناده صحيح عن سيد التابعين سعيد بن المسيب.
فهذه الروايات تدل على أن أصل حديث: (الحجر من الجنة) ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما عن كعب الأحبار وعن بعض الصحابة والتابعين، ولعلهم أخذوا ذلك عن كعب، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ)) رواه البخاري (3461) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وروى البخاري (7362) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعِبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ))، ولم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الحجر الأسود من الجنة، بل جاء ما يدل بمفهومه على أن الحجر الأسود ليس من الجنة، ففي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا))، فتأمل، والله أعلم.
وقد ضعَّف حديث: (الحجر الأسود من الجنة) غير واحد من المعاصرين، منهم الدكتور ماهر الفحل في تحقيقه لصحيح ابن خزيمة (4/ 382)، والباحث عبد الله بن عبد الحليم، قال في كتابه جامع الروايات (11/ 10): “هذه الأسانيد فيها عطاء بن السائب، وهو صدوق، ولكنه اختلط اختلاطًا شديدًا، والذي يروي عنه حماد بن سلمة، والراجح أن رواية وُهَيب وحماد بن سلمة وأبي عوانة عنه في جملة ما يدخل في الاختلاط”.
وقال الدكتور تركي الغُمَيْز في كتابه تحقيق جزء من علل ابن أبي حاتم (ص: 8): “هذا الإسناد فيه عطاء بن السائب، وكان قد اختلط كما نص على ذلك جماعة من الأئمة، منهم ابن عيينة وأحمد وابن معين والنسائي وأبو حاتم وغيرهم، قال أحمد: من سمع منه قديمًا فسماعه صحيح، ومن سمع منه حديثًا لم يكن بشيء، سمع منه قديمًا: سفيان وشعبة، وسمع منه حديثًا: جرير وخالد وإسماعيل وعلي بن عاصم، وكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها، وقال ابن معين: اختلط، وما سمع منه جرير وذَوُوهُ ليس من صحيح حديثه، وقال أيضًا: وجميع مَن سمِع مِن عطاء سمِع منه في الاختلاط إلا شعبة والثوري، وقال أبو حاتم: وقديم السماع من عطاء: سفيان وشعبة، وفي حديث البصريين عنه تخاليط كثيرة؛ لأنه قدم عليهم في آخر عمره [يُنظر: تاريخ الدوري (2/403)، الجرح والتعديل (6/332)، تهذيب الكمال (20/86)، شرح علل الترمذي (2/734)، تهذيب التهذيب (3/103)، الكواكب النيرات (ص319)]، وقد روى هذا الحديث عن عطاء بن السائب ثلاثة وهم: حماد بن سلمة، وجرير بن عبد الحميد، وزياد بن عبد الله النميري البصري، فأما جرير وزياد فإنما سمعا من عطاء بعد الاختلاط – كما سبق – ومع ذلك فزياد ضعيف، وأما حماد بن سلمة فقد اختلف الأئمة النقاد في وقت سماعه من عطاء بن السائب هل كان قبل الاختلاط أم بعده؟ فلم يذكره أحمد والبخاري والنسائي وأبو حاتم وغيرهم فيمن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وذكره بعضهم فيمن سمع بعد الاختلاط، وذكر يعقوب بن سفيان أن سماعه قديم، وذكر ابن الجارود أن حديثه عنه جيد، وقال الدارقطني: دخل عطاء البصرة مرتين، فسماع أيوب وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح، واختلف النقل في هذا عن ابن معين، فعنه أنه لم يسمع من عطاء قبل الاختلاط غير شعبة وسفيان كما سبق، وقال أيضًا: كل شيء من حديث عطاء بن السائب ضعيف إلا ما كان عن شعبة وسفيان، ونُقل عن ابن معين أن حمادًا ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وذكره – أيضًا – فيمن حديثه عن عطاء مستقيم، فالله أعلم، قال ابن حجر: والظاهر أنه سمع منه مرتين: مرة مع أيوب، كما يُومئ إليه كلام الدارقطني، ومرة بعد ذلك لما دخل إليهم البصرة، وسمع منه مع جرير وذويه، وهذا الذي ذكره ابن حجر نقله ابن المديني عن يحيى بن سعيد أن أبا عوانة وحماد بن سلمة سمعا منه قبل الاختلاط وبعده، وكانا لا يفصلان هذا من هذا. [يُنظر: الضعفاء للعقيلي (3/398)، والمصادر السابقة]، وإذا كان الأمر كذلك، فيبقى حديث حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب غير ثابت، على أن هذا الحديث قد جاء ما يدل على أن عطاء لم يتقنه، فإنه لم يتابع عليه متابعة مستقيمة يمكن الاحتجاج بها، وإنما تُوبع من وجوه ضعيفة، كما أنه قد خُولف فيه، ولولا خشية الإطالة لفصلت ذلك، ثم إن معنى هذا الحديث قد رُوِيَ عن جماعة من أصحاب ابن عباس بألفاظ مختلفة، وعامتها موقوفة على ابن عباس، مما يدل على أن أصل هذا الحديث موقوف غير مرفوع، كما رُوِيَ في هذا المعنى عن جماعة من الصحابة، ولا يثبت منها شيء مرفوع، وبعضها موقوف، والذي يظهر لي أن هذا المعنى لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله مما حدَّث به كعب الأحبار وغيره من أهل الكتاب، ثم أخذه عنهم بعض الصحابة والتابعين، والله أعلم”، انتهى كلام الدكتور تركي الغميز.
وفي مسند أحمد حديث يتعلق بهذا الباب مختلف في لفظه وصحته ومعناه، رواه أحمد (20650) من حديث رافع بن عمرو المزني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( «الْعَجْوَةُ وَالصَّخْرَةُ مِنَ الْجَنَّةِ» ))، وفي رواية لأحمد (20341) قال: (العجوة والشجرة)، وفي رواية لأحمد (20344) قال: (العجوة والصخرة) أو قال: (العجوة والشجرة في الجنة)، ورواه الطبراني في الكبير (4456) بلفظ: (الشجرة والعجوة من الجنة)، ورواه الحاكم في المستدرك (7449) وصححه بلفظ: (العجوة والصخرة والشجرة من الجنة)، وضعفه الألباني لاضطرابه، وصححه الأرناؤوط في تحقيق المسند (34/ 249) وقال: “قيل في معنى الصخرة: صخرة بيت المقدس، ويمكن أن يراد بها الحجر الأسود، فقد ثبت عن أنس من قوله: (الحجر الأسود من الجنة)، ولا يصح رفعه”، وقال المناوي في فيض القدير (4/ 376): “(الصخرة) صخرة بيت المقدس، (والشجرة) الكرمة أو شجرة بيعة الرضوان، (من الجنة) في مجرد الاسم والشبه الصوري غير أن ذلك الشبه يكسبها فضلًا وفخرًا، والعجوة ضرب من أجود تمر المدينة”.
والذين صححوا حديث: (الحجر الأسود من الجنة) بعضهم جعله على ظاهره، وأنه حجر من الجنة حقيقة، صيره الله في الأرض بما يناسب الدنيا، قال ابن عبد البر في الاستذكار (4/ 201، 202): “روي في الحجر الأسود آثار عن السلف منها عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو ووهب بن منبه وكعب الأحبار وغيرهم أن الحجر الأسود من الجنة … كل ما ذكرنا في الحجر الأسود قد جاء عن السلف على حسب ما وصفنا، وهو الصواب عندنا، وأولى من قول من شذ فقال: إنه من حجارة الوادي، وبالله التوفيق”، قلت: نقل ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث (ص: 413) عن محمد ابن الحنفية أنه سئل عن الحجر الأسود فقال: (إنما هو من بعض هذه الأودية)، فالخلاف قديم في هذا، فمحمد ابن الحنفية تابعي جليل، وهو ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال التوربشتي في شرح مصابيح السنة (2/ 604): “هذا يحتمل أن يراد منه ما دل عليه الظاهر، ويُحتمل أن يؤول على ما يستقيم عليه المعنى من باب الاتساع، ولسنا نرى – بحمد الله- خلاف الظواهر في السنن إلا إذا عارضه من السنن الثوابت ما يحوج إلى التأويل، أو وجدنا اللفظ في كلامهم بين الأمر في المجاز والاستعارة، فسلكنا به ذلك المسلك، وإذ قد عرفنا من أصل الدين بالنصوص الثابتة أن الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مباينة لما خُلِق في هذه الدار الفانية وقد وجدنا الحجر أصابه الكسر حتى صار فلقًا، وذلك من أقوى أسباب الزوال لم نستبعد فيه مذهب التأويل بأن نقول: جعل الحجر لما وضع فيه من الأنس والهيبة واليُمن والكرامة كالشيء الذي نزل من الجنة، وأراد به مشاركته جواهر الجنة في بعض أوصافها، ومثله قول صلى الله عليه وسلم: (العجوة من الجنة)، وقد علمنا أنه أراد بذلك مشاركتها ثمار الجنة في بعض ما جعل فيها من الشفاء والبركة بدعائه صلى الله عليه وسلم بذلك فيها، ولم يرد ثمار الجنة نفسها، للاستحالة التي شاهدنا فيها كاستحالة غيرها من الأطعمة، ولخلوها عن النعوت والصفات الواردة في ثمار الجنة”، وقال ابن الأمير الصنعاني في التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 410، 411): “(الحجر الأسود من الجنة) أي: أنه أخرجه إليه من أحجارها، وقيل: إنه تمثيل لا حقيقة، وأنه لما له من الشرف واليُمن يشارك جواهر الجنة، ويحتمل أنه من الجنة أي يؤول إليها بأن يُرفع من الدنيا عند خرابها إلى الجنة … وقال القاضي: احتمال إرادة الظاهر غير مدفوع عقلًا ولا سمعًا. قلت: بل لا يروج سواه ولا يترجح غيره“، انتهى كلام الصنعاني مختصرًا، فهذا ما يتعلق بحديث: (الحجر الأسود من الجنة) رواية ودراية، واختلاف العلماء في تصحيحه وتوجيهه على القول بصحته، والله أعلم بحقائق الأمور.
وورد في فضل الحجر الأسود حديث آخر تفرد به راو مختلف في توثيقه، وهو عبد الله بن عثمان بن خُثَيم المكي القارئ، فروى ابن خُثيم عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يُبصِر بهما، ولسان ينطقُ به، يشهد لمن استلمه بحق) رواه أحمد في مسنده (2215) والترمذي (961) وحسَّنه وابن ماجه (2944) وابن خزيمة في صحيحه (2735)، وصححه النووي في المجموع (8/ 36) والألباني وشعيب الأرناؤوط ومقبل الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (595)، وقال المناوي في فيض القدير (5/ 345): “فيه عبد الله بن عثمان بن خُثيم أورده الذهبي في الضعفاء وقال: قال يحيى: أحاديثه ليست بقوية”، وأقره ابن الأمير الصنعاني في التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 200)، ورد الغماري على المناوي تضعيفه، ورجَّح صحته في كتابه المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحَي المناوي (5/ 324).
وعبد الله بن عثمان بن خُثَيم ذكره العقيلي في كتابه الضعفاء الكبير (2/ 281) وقال: “كان يحيى وعبد الرحمن لا يُحدِّثان عن ابن خُثيم”، وقال النسائي في سننه (5/ 247): “ابن خُثيم ليس بالقوي في الحديث، ويحيى بن سعيد القطان لم يترك حديث ابن خثيم، ولا عبد الرحمن بن مهدي إلا أن علي بن المديني قال: ابن خُثيم منكر الحديث”، وقال النسائي أيضًا في سننه (8/ 149): “عبد الله بن عثمان بن خثيم لين الحديث”، وضعفه الدارقطني كما في الإلزامات والتتبع (ص: 352)، وقال ابن الجوزي في كتابه الضعفاء (2/ 132): “عبد الله بن عثمان بن خُثيم قال يحيى بن معين: أحاديثه ليست بالقوية”، وقال ابن سعد في الطبقات الكبرى (5/ 487): “كان ثقة، وله أحاديث حسنة”، وقال ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (5/ 268): “أحاديثه أحاديث حسان”، وقال ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار (ص: 141): “كان من أهل الفضل والنسك والفقه والحفظ”، وقال الذهبي في ديوان الضعفاء (ص: 222): “عبد الله بن عثمان بن خُثيم ثقة، قال ابن معين: ليست أحاديثه قوية”، فهذا الراوي مختلف في توثيقه، ومن وثَّقه فإنه يصحح حديثه هذا الذي تفرد به عن سعيد بن جبير في مجيء الحجر الأسود يوم القيامة له عينان ولسان، ومن ضعفه فإنه يضعف حديثه، لا سيما وقد تفرد به عن سعيد بن جبير، والظاهر أن ابن خُثيم حسن الحديث، قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب (ص: 313): “عبد الله بن عثمان بن خُثيم صدوق”، فأحاديثه حسان كما قال ابن عدي، وقد أخرج له مسلم في صحيحه (2294) حديثًا واحدًا فقط في شواهد أحاديث حوض النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، لكن ينبغي التوقف في صحة حديثه هذا في مجيء الحجر الأسود يوم القيامة وله عينان ولسان، لما فيه من نكارة في متنه، فلا يُعرف ذلك في الأحاديث الصحيحة، وإنما جاء ذلك في أحاديث ضعيفة منكرة لا تصلح في المتابعات والشواهد:
روى الطبراني في الكبير (11432) من طريق بكر بن محمد عن الحارث بن غسان عن ابن جُرَيج عن عطاء عن ابن عباس مرفوعًا: (يبعث الله الحجر الأسود والركن اليماني يوم القيامة، ولهما عينان ولسان وشفتان يشهدان لمن استلمهما بالوفاء)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 542): “رواه الطبراني في الكبير من طريق بكر بن محمد القرشي عن الحارث بن غسان وكلاهما لم أعرفه”، قلت: الحارث بن غسان ذكره العقيلي في كتابه الضعفاء الكبير (1/ 218) وقال: “حدَّث بمناكير”، فلا يكون في رواية الطبراني متابعة لعبد الله بن عثمان بن خُثَيم، فإسنادها ضعيف جدًا.
وروى الطبراني في الأوسط (2971) من طريق الوليد بن عَبَّاد عن خالد الحذاء عن عطاء عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَشهِدوا هذا الحجر خيرًا، فإنه يوم القيامة شافع مشفَّع، له لسان وشفتان، يشهد لمن استلمه)، قال الطبراني: “لم يروه عن خالد الحذاء إلا الوليد”، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 242): “رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الوليد بن عبَّاد، وهو مجهول، وبقية رجاله ثقات”، فلا يكون في هذه الرواية شاهدٌ لعبد الله بن عثمان بن خُثَيم، فإسنادها ضعيف جدًا.
وروى أحمد في مسنده (6978) من طريق عبد الله بن المؤمَّل عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قُبَيْسٍ، له لسان وشفتان)، ورواه ابن خزيمة في صحيحه (2737): وزاد في آخره: (وهو يمين الله التي يصافح بها خلقه)، قال ابن الجوزي في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 85): “هذا لا يثبت، قال أحمد: عبد الله بن المؤمل أحاديثه مناكير، وقال علي بن الجنيد: شبه المتروك”، وقال الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة (4/ 221): “إسناده ضعيف، عبد الله بن المؤمل ضعيف”، وضعَّفه أيضًا ماهر الفحل في تحقيقه وتعليقه على صحيح ابن خزيمة (4/ 384)، ولعل أصل حديث عبد الله بن المؤمَّل قول التابعي مجاهد بن جبر، أخطأ عبد الله بن المؤمَّل فجعله عن النبي عليه الصلاة والسلام بإسنادٍ لم يُتابع عليه، قال عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (8882): عن ابن جُريج قال: قال مجاهد: (الركن والمقام يأتيان يوم القيامة أعظم من أبي قُبَيس، لكل واحد منهما عينان ولسانان وشفتان، تشهدان لمن وافاهما بالوفاء)، فهذه الروايات لا ترتقي لتقوية حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، فأسانيدها ضعيفة جدًا؛ لما فيها من تفرد ضعفاء ومجاهيل، فالظاهر ضعف حديث مجيء الحجر الأسود يوم القيامة له عينان يُبصر بهما، ولسان ينطقُ به، فقد تفرد به عبد الله بن عثمان بن خُثيم عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس، وكل من يضعِّف ابن خُثيم من أئمة الحديث فإنه يضعِّف حديثه هذا كيحيى بن معين وعلي بن المديني والنسائي والعُقيلي والدارقطني، وهو الأظهر، والله أعلم.
وأختم هذا البحث بهذه الفائدة المهمة:
اعلم أن الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام:
1- صحيح بلا خلاف بين أهل الحديث، فيجب قبولُه.
2- موضوع بلا خلاف بين أهل الحديث، فيجب ردُّه.
3- ضعيف بلا خلاف بين أهل الحديث، ومعنى كونه ضعيفًا أنه لم يغلب على ظن المحدثين أن النبي عليه الصلاة والسلام قاله، فيَتوقفون في قبوله ورده، ولا يجزمون بنسبة الحديث الضعيف إلى النبي عليه الصلاة والسلام وإن كان معناه صحيحًا، لكن بعض الأحاديث الضعيفة ضعفها غير شديد، واحتمال صحتها غير بعيد، كمرسَل التابعي وما عنعنه المدلِّس، فالمرسَل قد يكون التابعي الذي أرسله سمعه من صحابي أو من تابعي ثقة سمعه من صحابي فيكون الحديث صحيحًا، وقد يكون المدلِّس عنعن في روايته مع صحة سماعه أو يكون الراوي الذي أسقطه ثقة، فمثل هذه الأحاديث التي ضعفها غير شديد يرى بعض العلماء العمل بها في فضائل الأعمال، ويرى بعضهم العمل بها إن لم يكن في المسألة غيرها، وذهب بعضهم إلى عدم العمل بها مطلقًا، وبعض الأحاديث الضعيفة ضعفها شديد، فتكون أقرب إلى الرد.
4- مختلف في تصحيحه وتضعيفه بين أهل الحديث، للاختلاف في توثيق أو تضعيف بعض الرواة، وللاختلاف في كون علة ما تؤثر في صحة الحديث أو لا، وللاختلاف في اعتبار بعض المتابعات والشواهد التي فيها ضعف ونكارة وتفرد، فيرى بعضهم أنها تفيد الحديث تقوية، وبعضهم يرى أنها لا تقوي الحديث، ولا تزيده إلا ضعفًا، فمن أخذ بأحد القولين اجتهادًا أو تقليدًا فلا إنكار عليه؛ لأن مبنى التصحيح والتضعيف على غلبة الظن، وقد يصل العالم أو الباحث إلى اليقين في حكمه بصحة حديث أو ضعفه؛ لقرائن تحتفُّ بالحديث عند جمع طرقه، والنظر في متنه وأسانيده؛ قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 585): “تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن”.
وهذان الحديثان: (الحجر الأسود من الجنة) و (يأتي الحجر يوم القيامة له عينان يُبصر بهما ولسان ينطقُ به) هما من القسم الرابع المختلَف في تصحيحه وتضعيفه، فمن صححهما من علماء الحديث – وهو يعلم الخلاف فيهما – فإنما صححهما على ما يغلب على ظنه، ولا يمكن أن يجزم بأن النبي عليه الصلاة والسلام قالهما، ومن ضعفهما فعلى ما يغلب على ظنه بحسب ما ظهر له من عِلَلٍ فيهما، ولا يجزم بإنكارهما، والله قادرٌ على كل شيء، والله ورسوله أعلم.
Source link