«نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»
د. زكريا الكبيسي
عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» [1].
بيان غريب الحديث:
♦ ((نضَّر)): قال الإمام الخطَّابي (388هـ) رحمه الله: (معناه الدُّعاء له بالنَّضارة، وهي النِّعمة، والبهجة، يُقال بتخفيف الضَّاد وتثقيلها، وأجودهما التَّخفيف)[2]، قلت: والنَّضارة حسن الوجه والبريق؛ أي: إنَّ النور يعلو وجوههم، ورواية التشديد أكثر من التخفيف[3].
أهم ما يستفاد من الحديث: يحتوي هذا الحديث على معان كثيرة؛ منها:
♦ يستفاد منه أنَّ لنقلة السنة وهم – أهل الحديث – نضارة في الوجوه؛ ببركة دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم؛ يقولُ الإمامُ سُفيان بن عُيينة (198هـ) رحمه الله: (ما مِنْ أحدٍ يطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة؛ لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((نَضَّر اللهُ امرأ سَمِعَ مِنَّا حَدِيْثًا فَبَلَّغَهُ))[4].
♦ فيه حثٌّ على حفظ الأحاديث الصحيحة، وروايتها وتبليغها للنَّاس؛ قال الإمام الطِّيبي (743هـ) رحمه الله: (وإنَّما خَصَّ حافظ سنَّته ومبلغها بهذا الدُّعاء؛ لأنَّه سعى في نضارة العلم وتجديد السُّنة، فجازاه في دعائه له بما يناسب حاله في المعاملة)[5].
♦ وفيه حث لسامع حديثه وناقله أن يؤديه كما سمعه، وهي مسألة تتعلق بما يُعرف في علوم الحديث بالضبط، وقد دعا له إذا فعل ذلك.
♦ وفيه حث على التفقه وعلى استنباط معاني الحديث، واستخراج المكنون من سره[6].
وللحافظ ابن حبان (354هـ) تبويبات نفيسة على حديث: ((نضَّر الله))، بناها على اختلاف ألفاظه وطرقه، وهي:
♦ ذكر دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم لمن أدَّى مِنْ أمته حديثًا سمعه.
♦ ذكر رحمة الله جل وعلا من بلَّغ أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم حديثًا صحيحًا عنه.
♦ ذكر البيان بأن هذا الفضل إنما يكون لمن أدَّى ما وصفنا كما سمعه سواء من غير تغيير ولا تبديل فيه.
♦ ذكر إثبات نضارة الوجه في القيامة لمن بلَّغ للمصطفى صلى الله عليه وسلم سنَّة صحيحة كما سمعها[7].
قلت: في ضوء تبويبات ابن حبَّان نفهم أنَّه يدخل في ظاهر هذا الخطاب من أدى صحيح حديث رسول الله دون سقيمة، بل يخشى الذين يروون الأحاديث السقيمة أنْ يدخلوا في جملة الكذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانوا عالمين بها ولا يبينون سقمها[8]؛ لأنَّه يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعًا، أو غلب على ظنه وضعه، فمن روى حديثًا علم أو ظنَّ وضعه، ولم يبين حال روايته وضعَه، فهو داخل مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حدَّث عنِّي بحديثٍ يُرى أنَّه كذب فهو أحد الكاذبين))، ولهذا قال العلماء: ينبغي لمن أراد رواية حديث أو ذكره أن ينظر، فإن كان صحيحًا أو حسنًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعله، أو نحو ذلك من صيغ الجزم، وإن كان ضعيفًا فلا يقل: قال أو فعل أو أمر أو نهى، وشبه ذلك من صيغ الجزم، بل يقول: روي عنه كذا أو جاء عنه كذا، أو يروى أو يذكر أو يحكى، أو يقال أو بلغنا، وما أشبهه ذلك والله سبحانه أعلم[9].
[1] أخرجه: عبدالرزاق في تفسيره (783)، وابن أبي شيبة في مصنَّفه (696)، وزهير بن حرب في العلم (113) وأحمد (4157)، وابن ماجه (232)، والترمذي (2657)، واللفظ له، وابن أبي عاصم في السنة (1086)، والبزَّار (2014)، وأبو يعلى في معجمه (219)، وفي المسند له (5126)، والشاشي في مسنده (275)، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (11)، والطبراني في الأوسط (1307)، وأبو الشيخ في أمثال الحديث (204)، والبيهقي في الشعب (1607)، وفي معرفة السنن والآثار له (44)، وفي دلائل النبوة له (6 /540)، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (188)، والخليلي في الإرشاد (2 /698)، وقال الترمذي عقيبه: (حسن صحيح)، وصححه ابن حبان (66)، وأبو نعيم في الحلية (7 /331).
[2] معالم السنن 4 /187.
[3] ينظر: فيض القدير 6 /283.
[4] شرف أصحاب الحديث؛ للخطيب (22).
[5] شرح المشكاة 2 /683.
[6] معالم السنن4 /187.
[7] صحيح ابن حبان، قبيل(66)، و(67)، و(68)، و(69).
[8] ينظر: الصارم المنكي؛ لابن عبدالهادي: 179.
[9] ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم 1 /231.
Source link