ثُمَّ نَبْتَهِلْ – خالد سعد النجار

{ثُمَّ نَبْتَهِلْ} نلتعن، أي: ندع بالالتعان، وأصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء بالتضرع واللعن وغيره.. فالابتهال مشتق من «الْبَهْلِ» وهو الدعاء باللعن

{بسم الله الرحمن الرحيم }

 

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}

{{فَمَنْ حَآجَّكَ}} جادلك وخاصمك يا محمد، وسميت المجادلة محاجة؛ لأن كل واحد من المتجادلين يدلي بحجته من أجل أن يغلب الآخر ويحجه، ومنه الحديث الشريف: «(تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى)» [مسلم]، أي: طلب كل واحد منهما أن يَحُجَّ الآخر.

{{فِيهِ}} أي في عيسى، والمراد بالمحاجة في عيسى ليس في ذاته؛ لأن عيسى معلوم أنه بشر لكن في شأنه وقضيته. وهذه الآية وما قبلها كلها نزلت في وفد نصارى نجران.

  {{مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ}} يعني بعد أن علمت قضيته وشأنه وتيقنت بأنه عبد الله ورسوله، فالذي يحاجك فيه ادعه للمباهلة.

{ {فَقُلْ تَعَالَوْاْ}} أي أقبلوا، اسم فعل لطلب القدوم، وهو في الأصل أَمْرٌ مِنْ تَعَالَى يَتَعَالَى إذا قصد العلو، فكأنهم أرادوا في الأصل أمرا بالصعود إلى مكان عال تشريفا للمدعو، ثم شاع حتى صار لمطلق الأمر بالقدوم أو الحضور.

{{نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ}} دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء؛ وذلك أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول لهم: “إن أنا دعوت فأمّنوا”

وفي مسلم: وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} } دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: «(اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي)»

وهذا أعز ما يكون عند الإنسان في الدنيا، نفسه وأبناؤه وزوجاته يحضرون ويحضر الخصم أيضاً نفسه وأبناؤه ونساؤه.

قال الزمخشري: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة.

وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل، وألصقهم بالقلوب. وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم «حماة الحقائق»، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم، وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس يفدون بها، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام، وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لأنه لم ير واحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

{ثُمَّ نَبْتَهِلْ} نلتعن، أي: ندع بالالتعان، وأصل الابتهال الاجتهاد في الدعاء بالتضرع واللعن وغيره.. فالابتهال مشتق من «الْبَهْلِ» وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقا لأن الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول.

{ {فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}} منا أو منكم.. أي: يقول كل منا: لعن الله الكاذب منا أو منكم في أمر عيسى.

وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران، قال ابن اسحاق: لما أتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الخبر من الله، والفَصْلُ من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إنْ رَدّوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك؛ فقالوا: يا أبا القاسم، دَعْنَا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خَلَوْا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبدَ المسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرَفْتم أن محمدًا لنبيٌّ مرسل، ولقد جاءكم بالفَصْل من خَبَر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعَن قوم نبيًا قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صَغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعُوا الرجلَ وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتوا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجعَ على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضًا.

قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(ائْتُونِي الْعَشِيَّة أبعث معكم القوي الأمين)» ، فَكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قَطّ حُبّي إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فَرُحْتُ إلى الظهر مُهَجّرا، فلما صلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم نَظَر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يَزَلْ يلتمس ببصره حتى رأى أبا عُبَيدة بن الجَرَّاح، فدعاه: « (اخْرُجْ معهم، فَاقْضِ بينهم بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ).» قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة، رضي الله عنه.

وفي البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ قَالَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ لَا تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا قَالَا إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا [أي أقَرَّا بالخراج] وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا. فَقَالَ: (لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ) فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ) فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ)»

وفي مسند أحمد: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- «قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ قَالَ فَقَالَ: (لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ فِي النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا) » [قال شعيب الأرنؤوط: صحيح]

والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع؛ لأن الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى: {{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون} } [التوبة:29].

قال القرطبي: هذه الآية من أعلام نبوة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنه دعاهم إلى المباهلة فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أعلمهم كبيرهم العاقب أنهم إن باهلوه اضطرم عليهم الوادي نارا فإن محمدا نبي مرسل، ولقد تعلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى؛ فتركوا المباهلة وانصرفوا إلى بلادهم على أن يؤدوا في كل عام ألف حُلَّة في صَفَر وألف حلة في رجب فصالحهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ذلك بدلا من الإسلام.

والمباهلة هي أَن يجتمع القوم إِذا اختلفوا في شيء فيقولوا: “لَعْنَةُ الله على الظالم منا”.

وهي مشروعة لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وإلزام الحجة من أعرض عن الحق بعد قيامها عليه، والأصل في مشروعيتها هذه الآية وتسمى «آية المباهلة»

قال ابن القيم رحمه الله:

” السُّنَّة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حُجَّةُ اللهِ ولم يرجعوا، بل أصرُّوا على العناد أن يدعوَهم إلى المباهلة، وقد أمر اللهُ سبحانه بذلك رسولَه، ولم يقل: إنَّ ذلك ليس لأُمتك مِن بعدك “

وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:

” ليست المباهلة خاصة بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع النصارى، بل حكمها عام له ولأمته مع النصارى وغيرهم؛ لأن الأصل في التشريع العموم، وإن كان الذي وقع منها في زمنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في طلبه المباهلة من نصارى نجران فهذه جزئية تطبيقية لمعنى الآية لا تدل على حصر الحكم فيها”.

** ويشترط للمباهلة شروط، من أهمها:

–  إخلاص النية لله تعالى؛ وأن يكون الغرض من المباهلة إحقاق الحق ونصرة أهله وإبطال الباطل وخذلان أهله. فلا يكون الغرض منها الرغبة في الغلبة للتشفي وحب الظهور والانتصار للهوى ونحو ذلك .

–  أن تكون المباهلة بعد إقامة الحجة على المخالف، وإظهار الحق له بالأدلة الواضحة والبراهين القاطعة.

– لا يجوز أن تكون في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الاختلاف.. فلا تجوز المباهلة إلا بعلم يقيني؛ لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم}

– أن يتبين من أمر المخالف إصراره على الباطل وعناده للحق وانتصاره للهوى؛ فإن المباهلة تسعى بالمبطل إلى لعنة الله وغضبه، ولا يجوز أن يُدعى بذلك إلا لمن يستحقه من المشاقين المعاندين.

جواز الدعاء بالله على من خالف الحق لكن بالوصف لا بالشخص؛ لأن الكاذبين وصف، أما الشخص فلا يجوز الدعاء عليه حتى لو كان كافراً.

–  أن تكون في أمر هامٍّ من أمور الدين، ويرجى في إقامتها حصول مصلحة للإسلام والمسلمين، أو دفع شر المخالف. أما الأمور التي ليست بهامة فلا ينبغي للإنسان أن يعرض نفسه للخطر.

قال أحمد بن إبراهيم في “شرح قصيدة ابن القيم”:

” وأما حكم المباهلة: فقد كتب بعض العلماء رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار وكلام الأئمة، وحاصل كلامه فيها: أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعا وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة، والسعي في إزالة الشبه، وتقديم النصح والإنذار، وعدم نفع ذلك، ومساس الضرورة إليها “.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 


Source link

عن Mohamed Alsharif

شاهد أيضاً

خطر الإلحاد (2) – طريق الإسلام

منذ حوالي ساعة السفر إلى بلاد الكفار للدراسة أو غيرها دون التقيد بالضوابط الشرعية -القراءة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *