الاحتساب مفهوم واسع وشامل لكل جوانب الحياة، يجعل من العادات عبادات بإذن الله، وذلك عند استحضار النية فيها، وطلب الأجر والمثوبة من الله
الاحتساب لغة:
من حسب، وهو العدّ، قال تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]،ومنه قولهم: احتسب فلان ابنه إذا مات كبيرًا، وذلك أن يعدَّه في الأشياء المدَّخرة له عند الله.
ويكون بمعنى:
الكفاية، كما قيل: فتملأ بيتنا إقطًا وسمنًا وحسبك من غنى شبع وري. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3].
فقوله: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} أي: يسوق الله الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ومن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل أمور دينه ودنياه {فَهُوَ حَسْبُهُ} فالله كافيه جميع ذلك، وإذا كان الأمر في كفاية العزيز الرحيم، وكفالة الغني القوي، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه سبحانه: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي: وقتًا ومقدارًا، لا يتعداه ولا يقصر عنه.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]. يكفيك الله ما يؤذيك ويكفي من اتبعك، هو القائم بمصالحك ومهماتك، فقد سبق لك من كفايته لك ونصره ما يطمئن به قلبك: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] أعانك بمعونة سماوية، وهو النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين بأن قيضهم لنصرك. ومن أسماء الله تعالى: الحَسِيْب وهو الكافي.
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]. لما جاء للمسلمين من جاءهم وقال لهم: {إن الناس قد جمعوا لكم} أي: أبو سفيان ومن معه، جمعوا لكم، وهموا باستئصالكم، تخويفا لهم وترهيبا، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله واتكالا عليه: {وقالوا حسبنا الله} الله كافينا كل ما أهمنا {ونعم الوكيل} المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم.
أما اصطلاحا:
قال الكفوي: الاحتساب: هو طلب الأجر من الله تعالى بالصبر على البلاء مطمئنة نفس المحتسب غير كارهة لما نزل بها من البلاء.
والاحتساب يجمع الإخلاص والصبر وروح المبادرة إلى العمل الصالح، سواء كان النفع ذاتياً يتعلَّق بالعبد، أو كان النفع متعدياً يستهدف الآخرين، وهو في ذلك متبعاً هدي النبي – صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الأثير: الاحتساب في الأعمال الصالحة وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو منها، قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] والاحتساب أن يَعُدّ الإنسان صبره في المكاره وعمله الطاعة ضمن ما له عند الله – عز وجل – ، فإن اكتفاء الإنسان بالله تعالى وثقته به واتكاله في نصرته على عونه، نوع من الاحتساب، كما أن رضا العبد بما قسم له مع الاكتفاء به. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة: 59].
والحِسْبَة احتساب الأجر عند الله، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه).
والمراد: صام (إيمانا) أي: تصديقا، و(احتسابا) أي: طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه.
عن أبي قتادة – رضي الله عنه -، قال – صلى الله عليه وسلم -: «وصيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يُكِّفر السنة التي قبله» (رواه البخاري).
وفي قصة أم حارثة – رضي الله عنها – لما استُشهِد ابنها حارثة، قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: «فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب» (رواه البخاري). أي مع الصبر أطلب الأجر من الله.
ومما سبق يتضح أن أنواع الاحتساب ثلاثة:
1- احتساب الأجر من الله تعالى عند الصبر على المكاره، وخاصة فقد الأبناء إذا كانوا كبارًا. عن أسامة – رضي الله عنه – قال: أرسلت ابنة النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه أن ابنًا لي قبض فأتنا، فأرسل يُقرئ السلام ويقول: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكلٌّ عنده بأجل مسمًّى، فلتصبر ولتحتسب…» (متفق عليه). ولتحتسب: أي تنوي بصبرها طلب الثواب من الله ليحسب لها ذلك من عملها الصالح.
وجاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «(يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة» (رواه البخاري).
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: «ما من مسلم له ولدان مسلمان يصبح إليهما محتسبًا إلا فتح الله له بابين، يعني من الجنة، وإن كان واحد فواحد».
2- احتساب الأجر من الله تعالى عند عمل الطاعات يُبتغى به وجهه الكريم، كما في صوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، وكذا في سائر الطاعات. عن أبي مسعود البدري – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة، وهو يحتسبها، كانت له صدقة». وجاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معه حتى يُصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أُحُد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط» (متفق عليه).
قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – : «أيها الناس، احتسبوا أعمالكم، فإن من احتسب عمله، كتب له أجر عمله وأجر حسبته».
3- احتساب المولى – عز وجل – ناصرًا ومعينًا للعبد عند تعرضه لأنواع الابتلاء من نحو منع عطاء أو خوف وقوع ضرر، ومعنى الاحتساب في هذا النوع الثالث الاكتفاء بالمولى – عز وجل – ناصرًا ومعينًا والرضا بما قسمه للعبد إن قليلًا وإن كثيرًا. قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]، المعنى فإن تولى يا محمد هؤلاء الذين جئتهم بالحق فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله فقل: حسبي الله (يعني) يكفيني ربي لا إله إلا هو لا معبود سواه، عليه توكلت وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت، وإليه وإلى نصره استندت لأنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس وهو رب العرش العظيم. وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما يصيب المسلم من نَصَب ولا وَصَب، ولا هم، ولا حَزَن، ولا أذى، ولا غم – حتى الشوكة يشاكها – إلا كفَّر الله بها من خطاياه». قال خبيب – رضي الله عنه – عندما أراد قتله بنو الحارث بن عامر بن نوفل:
فلست أبالي حين أقتل مسلمًا ** على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشــأ ** يبارك على أوصال شِلْوٍ ممــزّع
وقدوة المحتسب وقوة الاحتساب تستمدُّ من التأسي بإمام المحتسبين عليه الصلاة والسلام
فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يشتد عليه المرض ويوعك أشد من غيره، والوعك: أذى الحمى ووجعها في البدن، وقيل: الألم الذي يجده المرء من شدة التعب. جاء عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يوعك فوضعت يدي عليه، فوجدت حرَّه بين يدي، فوق اللحاف. فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك!. قال: «إنا كذلك، يضعف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر». قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟. قال: «الأنبياء»، قلت: يا رسول الله! ثم من؟. قال «ثم الصالحون. إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحوّيها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء» (رواه مسلم وابن ماجة واللفظ له).
وكذلك كان حال الأنبياء صبر واحتساب رغم شدة البلاء، عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: كأني أنظر إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (متفق عليه).
قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156].
أي: تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء. وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرّة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة.
ثم تأمل الجزاء العظيم والثواب الكريم لأهل الصبر والاحتساب في الآية التي بعدها، حيث قال سبحانه: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157].
قال قتادة: من استطاع أن يستوجب لله في مصيبته ثلاثا (الصلاة والرحمة والهدى) فليفعل ولا قوة إلا بالله. فإنه من استوجب على الله حقًّا بحق أحقه الله له، ووجد الله وفيًّا.
بين الاحتساب والعمل التطوعي:
الاحتساب لفظة شرعية تعني طلب الأجر من الله، فهي عبادة تستلزم الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما العمل التطوعي يعني القيام بالعمل الخيري بدافع الإنسانية فقط، قد يحصل فيه الاحتساب وطلب الثواب وقد يغيب ذلك.
*الاحتساب مفهوم واسع وشامل لكل جوانب الحياة، يجعل من العادات عبادات بإذن الله، وذلك عند استحضار النية فيها، وطلب الأجر والمثوبة من الله، كما في بعْث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل – رضي الله عنه – إلى اليمن؛ وفيه قال معاذٌ: «أمَّا أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» (رواه البخاري).
أما ثمرات الاحتساب وآثارها على العبد هي:-
• الاحتساب دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام، يكون في الطاعات فيجعل العبد قرير العين، مسرور الفؤاد بما يدخره عند ربه؛ فيتضاعف رصيده الإيماني وتقوى روحه المعنوية، كما أن الاحتساب يبعد المرء عن الرياء والسمعة، ويزيد من ثقته بربه، كما يجعل الطاعة خالصة لوجه الله تعالى، وليس لها جزاء حينئذ إلا الجنة.
• الاحتساب دليل الرضا بقضاء الله وقدره، ودليل على حسن الظن بالله تعالى، يكون الاحتساب في المكاره فيضاعف أجر الصبر عليها، ويدفع الحزن ويجلب السرور ويحوّل ما يظنه الإنسان نقمة إلى نعمة.
• الاحتساب طريق حصول الراحة وانشراح الصدر والسعادة في الدارين، كما أنه طريق موصل إلى محبة الله ورضوانه، ومن ثمَّ الفوز بالجنة والنجاة من النار.
________________________________________________________
الكاتب: أنور الداود النبراوي
Source link