عنوان سعادة العبد في هذه الدنيا والآخرة بثلاثة أمور: إذا أنعم الله على العبد وجب عليه أن يشكر – إذا أذنب العبد استغفر لذنبه – فإذا ابتُلي هذا العبد صبر”.
معاشر المؤمنين، هناك سؤال يجب على كل مسلم ومسلمة أن يطرحه على نفسه ليستلم الجواب، لا أنه يضع السؤال، ثم بعد ذلك يتساهل بالجواب، فما من سؤال إلا وهو يحتاج إلى الجواب، ولا بد أن يكون الجواب على الصواب، وإلا كان ذلك من الغش، «ومن غشَّنا فليس منا»[1]، فكيف إذا كنت غشاشًا لنفسك، فإنها من أعظم المصائب.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ ** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
هذا السؤال هو أن يخاطب كل واحدٍ منا نفسه: هل هو سعيد في هذه الحياة أم أنه عن السعادة بمعزلٍ؟ وفي هذه الوقفة أُبين هذا الأمر ثم أضع الأسباب والعلاج، مستمدًّا ذلك من الله الواحد القهار، مبتغيًا من الله الأجر والثواب، {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس: 21].
معاشر المؤمنين، إن كثيرًا من الناس قد يكون ذا ثروة هائلة، لكنه ليس بسعيد، وقد يكون ذا شهرة كبيرة، لكنه أيضًا ليس بسعيد وقد يكون ذا علاقات اجتماعية رائعة، لكنه لا يجد للسعادة بابًا، وقد يكون ذا أسرة تُحبه ويُحبهم، لكنه أيضًا ليس بسعيد، وقد يكون ذا أسفار ورحلات وتَجوال، يمتطي آخر الموديلات، لكنه يشعر بالضجر والاكتئاب، ودائمًا في همٍّ وقلق واضطراب، قد يكون كذلك ذا منصب مرموق، لكنه لم يجد في ذلك شفاءً ودواءً، وقد يكون كثير الضحك والمزاح، يُضحك الناس في المجالس ويتناقل الناس أخباره في هذا الباب، في باب الضحك والمزح واللطائف والنِّكات، لكنه يعاني من قلق واضطراب داخلي، إذًا ما السعادة وكيف نحقِّقها؟
السعادة شيء نفسي، والسعادة قوة داخلية تشع في النفس سكينةً وطمأنينة، والسعادة مدد إلهي يضفي على النفس بهجة وسرورًا، والسعادة صفاءٌ قلبي ونقاء وجداني وجمال روحي، السعادة شعور عميق بالرضا والقناعة، السعادة ليست سلعة معروضة في الأسواق تُباع وتُشترى بالأموال، فيشتريها الأغنياء ويُحرم منها الفقراء، لكنها لكل من سعى لها مِن واهبها المولى سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر21].
السعادة هي راحة نفسية، السعادة في أن تدخل السرور على قلوب الآخرين، السعادة في تعديل التفكير السلبي إلى التفكير الإيجابي المثمر، هذه بعض معاني السعادة وبعض تعريفاتها، وهذا من كلام المجرِّبين من أقوال العلماء والفقهاء، ومديري الشركات من العرب وغيرهم.
لقَّب بعضهم نفسه بالمحروم على كثرة ما عنده من الثراء والشهرة العريضة، فهو أمير وابن خليفة، لكنه يتلقب باسم المحروم، على أن كل شيء مِن مُتع الدنيا لديه، لكنه لم يجد للسعادة طعمًا ولا شعورًا ولا راحة.
أما الخطوات العملية لتحقيق السعادة، فاسمع يا من تريد أن تكون سعيدًا في هذه الدنيا، وسعيدًا أيضًا في الآخرة، افتح قلبك عبد الله، وافتح أذنيك، وكن مركزًا مع العبارة، عسى الله أن ينفعك بعبارة يصلح الله بها أحوالك في الدنيا والأخرى.
عرفت هواها قبل أن أعرِف الهوى ** فصادف قلبًا خاليًا فتمسَّكا
1ـ الخطوة الأولى لتحقيق السعادة: الإيمان بالله:
فلا حياةٌ لمن لا إيمان له فحياة من غير إيمان هي حياة ادعاء، والدعاوي ما لم تقيموا عليها بينات أبنـاؤها أدعيـاء.
قال الشاعر:
إذا الإيمان ضاع فلا حيــــاة ** ولا دنيا لمن لم يحي دينًا
ومن رضي الحياة بغير دين ** فقد جعل الفناء لها قرينًــا
وأردت بهذا الأمر؛ لأن كل سعادة المسلم مرتكزة عليه، وهذا بشهادة رب العالمين، فكلامه حق، ولازم الحق حقٌّ، أما أقوال البشر، فيعتريها النقص، يعتريها أيضًا القصور، ويدخل عليها عيوب، فأردت اقتناص ذلك من قوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل97].
2- وأما الخطوة الثانية وإن كانت هي مكملة للخطوة الأولى، فهو العمل الصالح، فالإيمان يدعو إلى العمل الصالح، وليس لنا من دليل إلا ما تقدم في الآية الأولى، وهي قوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل97].
فلا بد أن يكون تلازم بين الإيمان والعمل الصالح، فيا من تهتف بالسعادة بيديك القرار، لكن هذا القرار يحتاج إلى شجاعة وإقدام، فلا يكون الواحد بمثابة البعير يشتكي العطش وهو يحمل خزانات من الماء على ظهره.
ومن العجائب والعجائب جمــــةٌ ** قربُ الشفاء وما إليه وصولُ
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأُ ** والماء فوق ظهورها محمولُ
3- ومن الركائز المهمة والخطوات السليمة: التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، وتحقيق العبودية المطلقة، وإن كان هذا من ترادف المعاني، لكن لا بد من انفصال أمر التوحيد؛ لأن به تُشرح الصدور، وتتنور العقول، وترتاح النفوس، وتطمئن القلوب حينما تكون عبدًا موحدًا، فلا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا من الله، ولا تتوكل إلا على الله، فالهمُّ كله في الله سبحانه وتعالى.
فليتك تحلو والحياة مريـــرةٌ ** وليتَك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ** وبيني وبين العالمين خــرابُ
إذا صحَّ منك الوُدُّ فالكلُّ هيِّنٌ ** وكل الذي فوق التراب تـرابُ
4- الخطوة الرابعة: الإيمان بالقضاء والقدر، وبما أنزل الله سبحانه وتعالى من المصائب والابتلاءات، ففوِّض الأمر، وسلِّم لأقدار الله سبحانه وتعالى، فلا تنزعج أبدًا.
دَعِ المقاديرَ تجري في أعنَّتهـا ** ولا تبيتنَّ إلا خالي البــــــالِ
ما بين ومضةِ عينٍ وانتباهتِها ** يغيِّر الله من حالٍ إلى حالِ
وما أكثر الابتلاءات والمصائب، فلا بد أن تحقق أصلًا من أصول الإيمان، وهو الإيمان بالقضاء والقدر، فلا يكون إيمان في القلوب حتى تظهر آثارُه عند نزول هذه الأقدار، سواء كان ذلك ابتلاءات في الأموال، أو في الأهل والأولاد، أو عبارات نابية من أشخاص، أو أي شيء من الكوارث التي أَحاطت بك، فاعلم أن ذلك بتقدير من الله، فكن راضيًا مسلمًا؛ لتدفع عن نفسك القلق والاكتئاب، ولتدخُلَ حصانة السعادة الإلهية، فكم من رجل أخذته لوعة ماله حينما فقَد، فوفَّى ذلك بنفسه، وكم من رجل قد تعلَّق بحبيب أو حبيبة ففارَقه، فأُصيب بالجنون، أو على أقل الأحوال أن يكون مهسترًا، فلو كان الإيمان بالقضاء حاصلًا عنده في ذلك، لَما حصل له مثل هذا، وقد قال عليه الصلاة والسلام وهو يلقن هذه الأمة درسًا: «أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبيك يومًا ما»[2].
5- الخطوة الخامسة: وهي مرادفة للرابعة الصبر، لا بد أن يكون لك رداء وأنت تحتاجه على مدار اليوم والليلة، وقد علَّق الله فلاح البرية بأسرها بأربعة أمور، فقال سبحانه: {والْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1ـ 3].
(والعصر إن الإنسان لفي خسر)، هذا على وجه العموم حكم الله على بني الإنسان بخسارة عامة شاملة، ثم حصل استثناء لمن حقق أربعة أمور، قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، والصبر مأخوذ من الصبر وهو الأمر المر الذي لا يستساغ أبدًا، لكنه في عاقبة الأمر يكون أمرًا حميدًا.
الصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقتُه ** لكن عواقبه أحلى من العسل
يقول صلى الله عليه وسلم: «والصبر ضياء»[3].
ويقول عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له»[4].
أما الخطوة السادسة لتحقيق السعادة، فهي التخلص من القلق النفسي الذي يؤدي إلى الاكتئاب، فحاول عبد الله اكتشاف ذلك القلق، ثم عالِجه بحزمٍ وعزمٍ وقوةٍ وشجاعة وإقدام، مهما كلَّفك من التكاليف، فلا بد من راحة النفس، فهذا أمر يسهل عليك في بدايته أن تتخلص من القلق وأسباب القلق وأعظم وسيلة للاستعانة ما ذكره المولى سبحانه وتعالى، فقال: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد28]، وربما كنت تذكر الله بداية فتجد انصرافًا من النفس وعدم اتفاق بين القلب واللسان، لكنه بالمداومة يسهل الأمر ويتوسع ما كان ضيقًا.
ولرُبَّ نازلةٍ يضيق بها الفتـــى ** ذرعًا وعند الله منها المخرجُ
نزلت فلما استحكمَت حلقاتها ** فُرجت وكنت أظنها لا تفـرجُ
فالذكر عباد الله تطمئن به القلوب، وتنشرح به الصدور، ويتميز فيه كثير من الأمور لمن كان صادقًا في هذا الذكر، فلا يكون آخر التجارب، ولا يكون تجربة في حدِّ ذاته، لكنه هو الحلُّ الوحيد، ليكُن لك مجلس ذكرٍ، ليكُن لك مجلسًا تصلي فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وعدنا حينما قال لأبي بن كعب وقد أخبره أو وافقه على الإكثار من ذكره قال: «إذًا تُكفى همَّك، ويُغفر لك ذنبك» [5].
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ** ونترك الذكر أحيانًا فننتكسُ
ومن أعظم خطوات السعادة أن تعرف حقيقة هذه الدنيا، وأنها مليئة بالأشواك والتنغيصات؛ لأنها جُبلت على مثل هذا، {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران185]، فلا تعظِّم ما حقِّر، ولا تعطيها أكبرَ من حجمها فهي كما قيل:
طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها ** صفوًا من الأقذار والأكدار
فالناس في هذه الدنيا ما بين غني وفقر، وجوع وشِبع، وعطش وارتواء، وحياةٍ وموت، وراحة واكتئاب، وهكذا أمر هذه الدنيا، ثم بعد ذلك الموت، وليس هو آخر ما يكون، فهناك حسابٌ وعقاب وسؤال وجواب، فهذه الدنيا إنما هي كما قال ربنا: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك2].
الخطوة الثامنة: حدِّد أهدافك في هذه الحياة، فقد قال بعض المجربين: أهدافك عنوان سعادتك، ولا بد أن تكون هذه الأهداف أهدافٌ إيجابية، ما يعود عليك بالنفع الدنيوي والنفع الأخروي، وإياك أن تفكر أو تخطط لأمر سلبي مشين، فيه قلة حياء، أو يصادم أمر رب الأرض والسماء، فبمجرد التفكير تجد بلبلة واهتزازًا في قلبك، وكذلك أيضًا تجد انقلابًا في موازين حياتك، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد11].
فبمجرد انصراف قلبي يحصل التغيير السماوي، وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد11]، وقال سبحانه: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة57].
الخطوة التاسعة: لا تحزن على ما فات، ولا تقلق على ما لم يأتِ بعدُ، وفوِّض أمرك إلى الله الواحد القهار، لتجد راحة وطمأنينة، وكن دائمًا مكررًا: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن، وضِلعِ الدَّين وغلبة الرجال)[6].
فالهمُّ لأمر مستقبل والحزن على أمرٍ فائتٍ، فلا تكثر من ذكر الماضي، لا تندبوا الأموات، فتخرجهم من قبورهم، ولا تستبقوا الأحداث، فعِشْ يومك، واجعل برنامجًا ليومك لتسعد في هذا اليوم، ولا تنظر إلى غابر الأزمان، ولا إلى قيام الساعة، هذا فيما يتعلق بأمر المعيشة والأرزاق، أما ما يتعلق بأن الإنسان يفتح له رصيدًا من الخير الديني أو الخير الدنيوي، فلا بأس أن يخطط لحياته ومستقبله ما يعود على نفسه وعلى أهله وأولاده بالنفع والخير في هذه الدنيا؛ قال بعض الصالحين: إن من كمال عقل الرجل تدبير أمر معيشته.
وأخيرًا وليس بأخير، فإنما هي نقاط يسيرة الزَم تقوى الله عز وجل، إن أردت أن تسعد فالزم تقوى الله سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق2].
ومعنى تقوى الله فعل المأمور وترك المحذور، فعانِق الطاعة معانقةً صحيحة، وابتعد عن المعصية وإن كانت صغيرة فإياك ثم إياك.
خلِّ الذنوب صغيرهـــــــا ** وكبيرها ذاك التقـــــى
واصنع كماشٍ فوق أرض ** الشوك يحذر ما يـــرى
لا تحقرنَّ صغيــــــــــــرةً ** إن الجبال من الحصى
معاشر المؤمنين، يذكر الإمام ابن القيم الجوزية[7] رحمه الله تعالى أن عنوان سعادة العبد في هذه الدنيا والآخرة بثلاثة أمور، فمن لزم هذه الثلاثة، سهل عليه الإتيان ببقية أسباب انشراح الصدر، وخطوات السعادة الأبدية التي تكون سعادة حقيقة لا سعادة وهمية زائلة، أما السبب الأول، فيقول: إذا أنعم الله على العبد وجب عليه أن يشكر، وأما الثاني إذا أذنب العبد استغفر لذنبه، وأما الثالث: فإذا ابتُلي هذا العبد صبر، فتكمل سعادة ابن آدم بهذه الثلاثة الأمور، فهي عنوان السعادة والنجاح[8]، فإذا فتح الله عليك باب نعمة؛ ليرى ربك سبحانه الشكر، وليس معنى ذلك أن تقول باللسان: لك الحمد والشكر، هذا جزء من أجزاء الشكر، فالشكر بالقلب يكون القلب معظمًا لأمر الله، هذا القلب يمتلئ بحب الله سبحانه وتعالى؛ كما قال عز من قائل: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح13].
فالشكر شكر القلب، ثم شكر اللسان؛ جاء من حديث أنس في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها»[9].
فالشكر والحمد ثناءٌ على الله بالقلب وثناء على الله باللسان، ثم بعد ذلك شكر الجوارح، تقوم الجوارح طائعة لأمر الله من صلاة من صيام نوافل، من زكاة من صدقة، فالمرء يستظل بصدقته يوم القيامة، شكر الجوارح مساعدة ذوي الحاجة، التسبيح بالأنامل، كذلك أيضًا إتعاب هذا الجسد فيما يعود عليه من الراحة، وذلك بأن ترغب جسدك في طاعة الله، وإياك أن تركن إلى الدعة والفتور، فإن أردت بذلك راحة النفس أو راحة الجسد، فما في ذلك إلا غشٌّ لهذا البدن، كان أحد الصالحين يتعب نفسه، فيقول له أبوه: لا تتعب نفسك يا ولدي، فيقول: يا أبتي راحتها أريد.
موت النفوس حياتها ** من شاء أن يحيا يمت
ويقول الإمام الشافعي[10] رحمه الله تعالى يقول هذا الإمام العظيم:
سأتعب نفسي أو أصادف راحة ** فإن كمال النفس في تعب النفس
ويقول سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9ـ 10].
فهذه الركيزة الأولى مما ذكره هذا الإمام الهمام، وذلك إذا بسط الله عليك النعمة، فليرى ربُّك سبحانه شكرها.
وأما الثانية: عند الذنب لا بد من استغفار، ولا بد من توبة نصوح؛ لتجد راحة واطمئنانًا كما قال ربنا: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10ـ12].
تستغفر لذنبك وتستغفر للمسلمين، فلو قلت: أستغفر لي وللمسلمين والمسلمات، كان لك بكل مسلم حسنة، فإذا كان عدد المسلمين مليار مثلًا، كان لك مليار حسنة، بمجرد عبارة يسيرة أن تقول: اللهم اغفر لي وللمسلمين والمسلمات، وهكذا أيضًا ربي اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات، كم يكون لك من الأجر والثواب والحسنات[11].
وأما الأمر الثالث، وهو الصبر عند البلاء، وقد تقدم بسط قليل من ذلك في الخطبة السابقة، أو الأولى، فحتى لا يضرب الكلام بعضه في بعض فلا نريد إعادته.
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لكل ما يحبه ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا للبر والتقوى.
[1] رواه مسلم (101) عن أبي هريرة رضي الله عنه. [2] حسن موقوف وصحيح مرفوع: جاء من حديث أبي هريرة وابن عمرو وابن عمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين
1ـ حديث أبي هريرة: أخرجه الترمذي (4/ 360، رقم 1997)، وقال: غريب، وقد روى هذا الحديث عن على عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح عن على موقوف. وأخرجه الطبري في تهذيب الآثار (مسند على ص 285، رقم 443)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 260، رقم 6595).
2 حديث ابن عمرو: أخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 214، رقم 5120). قال الهيثمي (8/ 88): فيه محمد بن كثير، وهو ضعيف.
3ـ حديث ابن عمر: أخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 213 رقم 5119) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 88): فيه جميل بن زيد، وهو ضعيف. وتمام (2/ 209، رقم 1546) والقضاعي (1/ 430، رقم 739).
4ـ حديث على المرفوع: أخرجه الطبري في تهذيب الآثار (مسند على ص 283، رقم 438) والدارقطني في الأفراد (كما في أطراف ابن طاهر 1/ 187، رقم 254)، وتمام (2/ 206، رقم 1539)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 260، رقم 6596). والضياء (2/ 56، رقم 436)
5ـ حديث على الموقوف: أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 260، رقم 35876)، والبخاري في الأدب (1/ 447، رقم 1321)، والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 260، رقم 6593)، والطبري في تهذيب الآثار (مسند على ص 284 رقم 438). قال الترمذي (4/ 360): الصحيح عن على موقوف.
وصححه الألباني في صحيح الجامع (178) وغاية المرام (472) وقال: وخلاصته أن الحديث من طريق ابن سيرين صحيح مرفوعًا بلا ريب والله أعلم.
[3] جزء من حديث أخرجه مسلم (223) وأحمد (22953) والترمذي (3517) والنسائي (2437) وابن ماجه (280) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. [4] رواه مسلم (2999) عن صهيب رضي الله عنه. [5] حسن صحيح: رواه الترمذي (2457) وغيره وصححه الألباني في: صحيح الترغيب (1670) وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (14) [6] رواه البخاري (2736, 5109, 6002, 6008) وبعضه عند مسلم (2706) من حديث أنس رضي الله عنه.قال النووي في شرح مسلم (9/ 26): الكسل: هو عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة مع إمكانه.
وأما العجز: فعدم القدرة عليه، وقيل: هو ترك ما يجب فعله، والتسويف به، وكلاهما تستحب الإعاذة منه، وأما استعاذته من الهرم فالمراد به الاستعاذة من الرد إلى أرذل العمر، وسبب ذلك ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس والضبط … وأما استعاذته من الجبن والبخل، فلما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات، والقيام بحقوق الله تعالى وإزالة المنكر … وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الأخلاق )).
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 1/ 207): الضلع هو الاعوجاج والمراد به هنا ثقل الدين وشدته، وغلبة الرجال: أي شدة تسلطهم كاستيلاء الرعاع هرجًا ومرجًا.
[7] ابن القيم: هوا لإمام الجليل الحافظ أحد المحققين علم المصنفين نادرة المفسرين / محمد بن أبي بكر بن سعد الزرعي الدمشقي الحنبلي أبو عبد الله شمس الدين الشهير بابن قيم الجوزية (691ــ 751) أنظر البداية والنهاية (14/ 234) والرد الوافر للدمشقي (ص68) ومقدمة كتابه الفوائد (13ـ 22). [8]انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب ص (11). [9] رواه مسلم (2734) عن أنس بن مالك رضي تالله عنه.وفي الباب عن عقبة بن عامر و أبي سعيد و عائشة و أبي أيوب و أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين.
[10] الإمام الشافعي: هو محمد بن إدريس بن العباس بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي ـ أبو عبدالله ـ الإمام عالم العصر فقيه الملة نسيب الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عمه فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب وهو أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة سنة (150ﻫـ767ﻡ) وحمل إلى مكة وهو ابن ست سنين, وقصد مصر سنة (199ﻫ) فتوفي بها سنة (204ﻫ ـ804ﻡ).أشهر كتبه الأم في الفقه والمسند في الحديث, وأحكام القرآن, والرسالة في أصول الفقه. ينظر: تذكرة الحفاظ (1/ 329), وتهذيب التهذيب (9/ 25) وسير الأعلام (10/ 5 ترجمة (1) ومقدمة الأم للشافعي [10] الإمام أحمد: هو الإمام حقا وشيخ الإسلام صدقا وأحد الأئمة المتبوعين عند أهل السنة والجماعة أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي ثم البغدادي , أصله من البصرة [164ﻫ ــ 241]أنظر: مقدمة المسند (1/ 38) وما بعدها تحقيق شعيب, وسير أعلام النبلاء (11/ 77ـ 334/ ترجمة: 78).
[11] لقوله صلى الله عليه وسلم: { من استغفر للمؤمنين و للمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن و مؤمنة حسنة } وهو حديث حسن, رواه الطبراني في مسند الشاميين (2155) والهيثمي في المجمع (17598) وهو في كنز العمال (2067)وحسنه الألباني في: صحيح الجامع: (6026) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
____________________________________________________
الكاتب: الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري
Source link