منذ حوالي ساعة
تتفاوت الدول في وضعها من حيث الغِنى والفقر، والقوة والضعف، فبينما نجد دولًا غنية، نجد دولًا أخرى فقيرة، وكذلك الحال بالنسبة لعاملَي القوة والضعف…
تتفاوت الدول في وضعها من حيث الغِنى والفقر، والقوة والضعف، فبينما نجد دولًا غنية، نجد دولًا أخرى فقيرة، وكذلك الحال بالنسبة لعاملَي القوة والضعف، لقد كان هذا دائمًا هو الوضع بالنسبة للجنس البشري بوجه عام، وبالرغم من أن هذا كان هو الحال بالنسبة لهذه الدول، فإنه لم يَنَلْ في الماضي قدرًا كبيرًا من الاهتمام، أما اليوم، فقد أصبحت مسألة تحسين وضع الدول الفقيرة والضعيفة من أكثر مشاكل العصر إلحاحًا.
لا شكَّ أن جديدًا طرأ على الموقف، وإلا فلماذا يلقى اليوم هذا الاهتمام الجديد؟
الواقع أنه طرأ في الآونة الأخيرة تطوُّران على جانب كبير من الأهمية؛ الأول: أن الفقر لم يعُدْ محتملًا بالنسبة للشعوب الفقيرة؛ ذلك لأنها أصبحت لا تنظر إليه كأمر لا مفرَّ منه، ففي الماضي كان الجنس البشري عامة على استعداد لتقبُّل الفقر؛ نظرًا لعدم وجود أي بديل واضح يحل محله، ولكن دول العالم أثبتت أخيرًا أنه يمكن القضاء على هذا الفقر الواسع النطاق.
أما التطور الثاني الذي طرأ على الموقف، فهو أنه للمرة الأولى تكاد تكون كافة الشعوب المتأخرة تقريبًا قد حقَّقت لنفسها استقلالًا وطنيًّا، وقد كان الاستقلال في الماضي مقصورًا على الشعوب القوية أو الغنية أو كليهما، أما الشعوب الضعيفة والفقيرة، فإن مساهمتها في حقل المدنية لم يتعدَّ كونها رعايا أو اتباعًا أو مستعمَرين، ونظرًا لأن هذا كان وضعهم، لم يكن لديهم القوة التي تمكِّنهم من الاحتجاج على هذا الوضع أو السلطة، والمطالبة بالتخفيف من حِدَّةِ الموقف.
إن من الأمور المتعارف عليها دوليًّا أن أولى الخطوات التي تتخذها إحدى الدول المتأخرة في طريق التقدم تكون في العادة أصعب هذه الخطوات، وحتى إذا توافر التنظيم الاقتصادي السليم، بدا وكأنه ليس هناك طريق للبدء في عملية التنمية؛ ذلك لأن التنظيم يتطلب رأسَ مالٍ يستند إليه، رأس مال بنوع خاص هو الذي تفتقر إليه الدول في أولى مراحل النمو.
فإن رأس المال يعتبر من أكثر المصادر النادر توافرها في الدول المتأخرة؛ وذلك نظرًا لأن حجمه يعتمد على حجم المدَّخرات، وحجم المدخرات ضئيل؛ نظرًا لفقر هذه الدول، إن الادخار يعني الامتناع عن الاستهلاك، ومن الصعب على الشعب أن يمتنع عن الاستهلاك في الوقت الذي لا يكون لديه من مقومات التقدم إلا القليل، وهذا على ما يبدو يضع الدول المتأخرة في دائرة مغلقة لا مخرج منها؛ ذلك أن هذه الدول لا تستطيع تحقيق التقدم ما لم تتمكن من زيادة استثماراتها الرأسمالية، وذلك أمر لا يمكن تحقيقه ما لم تقُم بزيادة مدخراتها، الأمر الذي يصعب تحقيقه أيضًا؛ نظرًا للفقر المدقع الذي تعيش فيه.
ذلك هو مظهر واحد من مظاهر المشكلة التي تعانيها هذه الدول، من أجل الحصول على القدر الكافي من رأس المال في بداية المرحلة، ولكن هناك أيضًا مظهر آخر؛ وهو اعتماد الدول المتأخرة على السلع الرأسمالية المستوردة، فالدول المتأخرة ترغب في تحقيق التقدم، كما أن عليها أن تقوم بتوفير المزيد من المدخرات، فإن عليها أيضًا أن تقوم بزيادة حجم تجارتها الخارجية؛ حتى تستطيع عن طريق بيع مزيد من الصادرات أن تقوم بشراء مزيد من السلع الرأسمالية الأجنبية، ولكن كما هو الحال بالنسبة لأي نوع آخر من الإنتاج، فإن زيادة حجم الإنتاج من أجل التصدير يتطلب استثمار رأس المال، وهذا يقودنا إلى دائرة مغلقة أخرى؛ ذلك أن الدولة لا بد أن تقوم بمزيد من الاستثمار لكي تحقق التقدم الذي تنشُده، وهذا الاستثمار يتطلب المزيد من السلع الرأسمالية المستوردة، ومثل هذه الواردات تعتمد على الصادرات الإضافية، التي لا يمكن زيادة حجمها دون استثمار مزيد من رأس المال في الصناعات التصديرية.
إن على الدول المتأخرة أن تسعى إلى الخروج من هاتين الدائرتين المغلقَتَين في وقت واحد؛ دائرتي نقص المدخرات، ونقص الصادرات، وهذا يتطلب زيادة ضخمة وسريعة؛ أولًا: في دخل الدولة حتى يمكنها تحقيق مدخرات إضافية، وثانيًا: في حصيلتها من العملة الأجنبية التي تحصل عليها عن طريق تجارة الصادرات، علمًا أن عملية زيادة الدخل لا بد أن تكون سريعة، إذا ما أُريد ادخار الجزء الأكبر منه، فإذا تمَّت هذه الزيادة بطريقة بطيئة، فإن الدولة لن يكون لديها مُتَّسَع من الوقت لكي تكيِّف مستويات المصروفات الاستهلاكية والمدخرات، هذا ولا بد أن يكون حجم الزيادة في الدخل طبقًا لمستوى الرخاء، الأمر الذي يَحُول دون تحقيق المدخرات.
هذا، ولا بد أن يكون حجم الزيادة في الدخل ضخمًا؛ حتى تكون المدخرات والاستثمار من الضخامة بحيث يكون لهما أثرٌ فعَّالٌ على تقدم الدول.
وهناك ثلاث طرق ممكنة للخروج من هاتين الدائرتين المغلقتين:
أولاها: الحصول على مساعدة أجنبية على نطاق ضخم للغاية، وقد تمتعت بعض الدول بالحصول على مبالغ ضخمة من المساعدة الأجنبية، غير أن هذه المساعدة – في معظم الحالات – تعتبر محدودة بالنسبة لموارد الدول القابلة لهذه المساعدة.
أما الفرصة الاستثنائية الثانية، فتنشأ عندما تكتشف دولة من الدول مصادرَ طبيعية ذات قيمة كبرى تصلح للتصدير، وقادرة على اجتذاب القدر الكافي من رأس المال الأجنبي لاستغلاله؛ لذلك فإن الدولة في استطاعتها أن تزيد من حجم صادراتها، دون أن يكون عليها أن تقوم بعمليات الاستثمار في صناعاتها التصديرية؛ وذلك لأن هذا النوع من الاستثمار تقوم به الدول الأجنبية.
أما النوع الثالث من الفرص، وهو النوع الذي من المحتمل جدًّا أن ينشأ في المجال الطبيعي للنشاط التجاري لدولة من الدول، فهو حدوث انتعاش في أسعار صادراتها الرئيسية.
غير أن هذا النوع من الانتعاش لا يمثل أكثر من فرصة يمكن للدولة أن تستغلها لصالحها، أو تنبِذها كُليةً، هذا ويمكن استغلال هذه الفرصة بطريقة مفيدة، إذا كانت الدولة تقوم بالفعل بادخار جزء كبير من المتحصلات التي تتحقق خلال فترة الانتعاش، وإذا كانت تسعى وراء استثمار هذه المدخرات بطريقة منتجة.
يقول ريموند فروست في كتابه المجتمع المتأخر: يمكن القول بأن هذا الجدل ينطبق أيضًا على الفرصة التي تُتاح عن طريق اكتشاف مصادر الثروة المعدنية، واستغلالها عن طريق رأس المال الأجنبي، فمثلًا: نجد أن المتحصلات الناتجة عن اكتشاف البترول واستغلاله يمكن الاستفادة منها بطريقة منتجة، أو بدلًا من ذلك تبديدها فيما يُنفَق على الاستهلاك من مصروفات مرتفعة، وكذلك استثمارها في المشروعات غير المدروسة.
Source link