قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) }
{{قُلْ}} أمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالصدع بالإنكار على أهل الكتاب، بعد أن مهد بين يدي ذلك دلائل صحة هذا الدين، ولذلك افتتح بفعل الأمر {{قل}} اهتماما بالمقول، وافتتح المقول بنداء {{يا أهل الكتاب}} تسجيلا عليهم.
وقد جاء النداء تارة: {{يا أهل الكتاب}} دون {{قل}} ، وجاء هنا {{قل}} . فبدون {{قل}} هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب إلى الانقياد.
ولما قصد الغض منهم ذكر {{قل}} تنبيهاً على أنهم غير مستأهلين أنْ يخاطبهم بنفسه، وإنْ كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}} أمره أن يناديهم بـ {{أهل الكتاب}} للمبالغة في التوبيخ والاستنكار وتقبيح حالهم؛ لأن علمهم بالكتاب كان يتقاضاهم الإيمان، وأن يذعنوا للحق، فلا يناسب مَنْ ينتسب إلى كتاب الله أنْ يكفر بآياته، بل ينبغي طواعيته وإيمانه به، إذْ له مرجع من العلم يصير إليه إذا اعترته شبهة. فإنه لَا يستوي من يعلم ومن يجهل؛ فإن كانوا مع علمهم بأخبار النبوات يكفرون، فهو دليل على فساد قلوبهم.
وأطلق { {أهل الكتاب}} على المدح تارة، وعلى الذّم أخرى. فأهل القرآن والسنة لا ينطبق إلا على المدح، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحو: {{يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}} [البقرة:79] وقد يراد به ما أنزل الله. وأيضاً فقد يصحُّ أنْ يُقال على سبيل الذمّ والتهكم، كما لو قيل: يا أهل الكتاب لمن لا يعمل بمقتضاه.
{{لِمَ}} استفهام استنكاري {تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} هي العلامات التي نصبها الله دلالة على الحق. وهي إما القرآن، وإما دلائل صدق الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فالآيات هنا هي الآيات القرآنية التي من جملتها ما تُليَ في شأن الحجِّ وغيرِه وما في التوراة والإنجيلِ من شواهد نبوَّتِه عليه السلام، والكفر بها هو عدم الإذعان لأحكامها وإنكار صدقها، ومنازعة أهل الحق في معانيها.
أو آيات الله تعالى هي الأمارات التي ساقها الله سبحانه وتعالى لإثبات الحق في الرسالة المحمدية، فهم لإيغالهم في الجحود والإنكار لَا يكتفون بإنكار الحق، بل ينكرون الدليل الذي قام عليه، وثبت به، وهم بذلك يغلقون قلوبهم، فلا يصل إليها نور الحق، وإذا كانوا ينكرون كل دليل يصلهم بالهداية، فقد سارعوا إلى الكفر.
{{وَاللَّهُ}} إظهارُ اسم الجلالةِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ وتهويلِ الخطبِ.
{{شَهِيدٌ}} صيغةُ مبالغةِ للتشديد في الوعيد. كما أن أعمالهم كثيرة، وإذا كثر المشهود عليه كثرت الشهادة.
{{عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} } جملة حالية فيها تهديد ووعيد.. أي عالم علم المعاين الحاضر القائم الحاكم على ما يعملون دائما، سواء أكان العمل عمل القلب أم كان العمل عمل الجوارح. وإذا كان شهيداً على ما يعملون فسوف يجازيهم عليه في الدنيا وفي الآخرة بما يستحقون.
** وفيه: أنه سبحانه لا يحاسب العبد على ما حدث به نفسه، كما روى البخاري عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ» ) قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
فحديث النفس -أي الوساوس التي تكون في الصدر- لا يؤاخذ عليها الإنسان إلا إذا عمل، وركن إليها، واعتقدها، وجعلها من أعمال القلب. فحينئذ يحاسب عليها، وكذلك إذا نطق بها لسانه، أو عمل بمقتضاها بجوارحه، فحينئذ يحاسب عليها .
{{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}} أمرٌ بتوبيخهم بالإضلال إثرَ توبيخِهم بالضلال، فإن ذلك العنوانَ {أَهْلَ الْكِتَابِ} كما يستدعي الإيمانَ بما هو مصدِّقٌ لما معهم يستدعي أيضا ترغيبَ الناسِ فيه، فصدُّهم عنه في أقصى مراتبِ القَباحةِ والوقاحة.
والتكريرُ للمبالغة في حمله -عليه السلام- على تقريعهم وتوبيخِهم، وتركُ عطفِه على الأمر السابقِ للإيذان باستقلالهم بالقصد.
{{لِمَ تَصُدُّونَ}} قطْعَ قولِه تعالى: {{لِمَ تَصُدُّونَ}} عن قوله تعالى: {{لِمَ تَكْفُرُونَ}} للإشعار بأن كلَّ واحدٍ من كُفرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها مستقِلةٌ في استتباع اللائمةِ والتقريعِ.
{{عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}} وسمي الدين سبيلاً لله لأنه موصل إليه {{مَنْ آمَنَ}} فهم لَا يكتفون بكفرهم، بل يبغون في غيرهم إبعاده عن الحق، فيصدون عن سبيله، فجمعوا بين الضلال والإضلال.
والمعنى: لِمَ تصرِفون الناس عن سبيل الله تعالى وهو سبيل النور وسبيل الحق، فالصد هو الصرف والمنع، والحيلولة بين الشخص والوصول إلى الأمر.
وإنما ذكر {{مَنْ آمَنَ}} مع أنهم يصدون من آمن حتى يرتد عن إيمانه، ويصدون كذلك من لم يؤمن حتى لا يدخل في الإيمان؛ وذلك لأن صد من آمن أشد عدواناً من صد من لم يؤمن؛ لأن من آمن يصدونه ليكون مرتداً، ومن لم يؤمن يصدونه عن سبيل الله من أجل أن يبقى على كفره والبقاء على الكفر أهون من الردة كما هو ظاهر.
** وفيه إثبات أن الشياطين ليست شياطين الجن فقط، فكما أن للجن شياطين يصدون عن سبيل الله، ففي الإنس أيضاً شياطين يصدون عن سبيل الله، وإلى هذا يقول الله تبارك وتعالى: {{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}} [الأنعام:112]
{{تَبْغُونَهَا}} أي تبغون السبيل فأنث ضميره لأن السبيل يذكر ويؤنث، والبغي الطلب أي: تَطْلُبُونَ لَهَا، فحذف اللام، مثل: {{وَإِذا كالُوهُمْ}} [المطففين:3] يُقَالُ: بَغَيْتُ لَهُ كَذَا أَيْ طَلَبْتُهُ.
{{عِوَجًا}} الْعِوَجُ بكسر العين وفتح الواو: الْمَيْلُ وهو ضد الاستقامة، وهو اسم مصدر عوج كفرح، ومصدره العوج كالفرح. وقد خص الاستعمال غالبا المصدر بالاعوجاج في الأشياء المحسوسة، كالحائط والقناة. وخص إطلاق اسم المصدر بالاعوجاج الذي لا يشاهد كاعوجاج الأرض والسطح، وبالمعنويات كالدين.
والقصد الميل وَالزَّيْغُ فِي الدِّينِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَمَا خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِوَاءِ، أي: تريدون أن تكون ملتوية غير واضحة ولا بيّنة في أعين المهتدين، كما التوت نفُوسُكم، وحالت عيونكم، فلم تدرك الحق مستقيما بعد أن قامت بيناته.
وقيل: تصدون عنها بالتكذيب كبرا وحسدا، وإلقاء الشبهات الباطلة مكابرة وبغيا والكيد للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمؤمنين بغيا وعدوانا.. فتبغونها عوجا: أي لِم تصدون عنها قاصدين بصدكم أن تكون معوجة في نظر من يؤمن لكم ويغتر بكيدكم.
والعوج عن شريعة الله يشمل معنيين: المعنى الأول في الأوامر، والثاني في النواهي. أما في الأوامر فاعوجاجها إما بالتهاون بها والتفريط، وإما بالإفراط فيها والغلو فالناس بالنسبة لأوامر الله ثلاثة أقسام: قسم وسط، وقسم مُفرِط، وقسم مُفرّط، يعني غال متجاوز للحد. فالوسط هو المستقيم. والمفرط عوج، والزائد عوج أيضاً. هذا في الأوامر.
أما في النواهي فالعوج هو انتهاكها وارتكابها، هذا عوج؛ لأن الصراط المستقيم في النواهي أن تدعها، وأن تتجاوزها. فإذا أنت فعلتها وانتهكتها فهذا هو العوج فيها. فهؤلاء اليهود والنصارى أهل الكتاب يريدون من الناس العوج في الأوامر وفي النواهي في الأوامر بالتفريط والتهاون، أو بالغلو والإفراط. وفي النواهي بانتهاكها، والتهاون بها.
{{وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}} والحال أنكم شهداء عالمون بالحق علم من يعاين ويشاهد ويحكم بأنه الحق والصواب، فهو جحود عن علم، وكفر ليس عن جهل، وإيغال في الكفر بالصد عن سبيل الله، وبينات الحق بين أيديكم وأماراته مُعلِنَة له في أيديكم.
{{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}} اعتراضٌ تذييليٌ فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ، ونفي مؤكد لعدم إهمال الله تعالى عملهم، وعدم غفلته عنهم ومما يضمرون ويفعلون، وقد تأكد النفي بالباء الزائدة التي تفيد توكيد النفي، وكان ذلك النفي المؤكد لبيان عاقبة أعمالهم، فإذا كان ما يفعلون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فإنهم مجزيون به، محاسبون عليه.
قيل: لما كان صدُّهم للمؤمنين بطريق الخُفْية خُتمت الآيةُ الكريمة بما يحسِمُ مادةَ حيلتهم من إحاطة علمِه تعالى بأعمالهم،، كما أن كفرَهم بآياتِ الله تعالى لمّا كان بطريق العلانيةِ خُتمت الآية السابقةُ بشهادته تعالى على ما يعملون.
إلا أن التهديد هنا أغلظ في التوبيخ لما فيه من إبطال اعتقاد غفلته سبحانه، لأن حالهم كانت بمنزلة حال من يعتقد ذلك.
والغفلة من الصفات السلبية؛ لأن صفات الله قسمان: ثبوتية وسلبية؛ يعني شيء ثابت لله، وشيء منفي عنه. فهنا الصفة سلبية نفت عن الله تعالى: الغفلة. والقاعدة عند أهل السنة أن الصفات السلبية تتضمن شيئين :
الأول: انتفاء هذه الصفة التي نفاها الله عن نفسه.
والثاني: ثبوت الكمال في ضدها؛ لأنها ما نفيت عنه إلا لأنه كامل، فيكون قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} متضمناً لنفي الغفلة عن الله، والثاني ثبوت كمال المراقبة؛ لأن من كان كامل المراقبة فإنه ليس عنده غفلة، فتكون هذه الآية مثبتة لله تعالى كمال المراقبة، كما قال تعالى: {{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا}} [الأحزاب:٥٢]
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
Source link