الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومن والاه، أمَّا بعدُ:
فالمراد بالإضلال الأول هو عدم إيمان العبد وعدم استجابته، وهو عدم محض لا خالق له، فالعبد هو من أحدث الذنب الأول بعدم رغبته في الهداية، ولم يخلقه الله؛ لأنه ليس بشيء، ولكنه علمه وكتبه وشاءه، فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى، وليس محلاً له، ولا يليق به.
أما الإضلال الثاني: فهو الذنب الثاني، أحدثه االله عقوبة على ترك العبد الاستجابة لله ولرسوله، فيعاقبه الله على ذنبه – العدم – عقوبة على رد الحق، أو الإعراض عنه، فيصرف عنه، ويحال بينه وبينه، ويقلِّب قلبه عنه، فهو إضلال العقوبة، وهو من عدل الله تعالى في عبده، فيخلق فيه سيئات وجودية؛ لعصيانه الحجة الرسالية، فيستحق العقوبة التامة.
أما كلام الإمام ابن القيم فقال في كتابه “شفاء العليل”(ص: 30-31) – في معرض كلامه على مراتب القضاء والقدر… وهي أربع مراتب: المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها، والمرتبة الثانية: كتابته لها قبل كونها، المرتبة الثالثة: مشيئته لها، الرابعة: خلقه لها -:
“… وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } [الجاثية: 23]، قال ابن عباس: علم ما يكون قبل أن يخلقه، وقال أيضًا: على علم قد سبق عنده، وقال أيضًا: يريد الأمر الذي سبق له في أم الكتاب. وقال سعيد بن جبير ومقاتل: على علمه فيه، وقال أبو إسحاق: أي على ما سبق في علمه أنه ضال، قبل أن يخلقه. وهذا الذي ذكره جمهور المفسرين. وكذلك ذكر البغوي وأبو الفرج بن الجوزي قال: على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي.
وعلى الوجه الأول فالمعنى: أضله الله عالماً به وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره قبل خلقه وبعده، وأنه أهل للضلال، وليس أهلا أن يهدي، وأنه لو هدى لكان قد وضع الهدى في غير محله؛ والرب تعالى حكيم إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها. فانتظمت الآية على هذا القول في إثبات القدر والحكمة، التي لأجلها قدر عليه الضلال، وإعطاء الخير من يستحقه ومنعه من لا يستحقه. وهو سبحانه كثيرًا ما يذكر ذلك مع إخباره بأنه أضل الكافر كما قال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 125]، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[البقرة: 26]، وقال تعالى: { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [البقرة: 258]، : {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108]، { اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [الزمر: 3]،{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]، {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 34] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 59]. وقد أخبر سبحانه أنه يفعل ذلك عقوبة لأرباب هذه الجرائم، وهذا إضلال ثان بعد الإضلال الأول؛ كما قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155]، وقال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ* وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109، 110] وقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [الصف: 5]، وقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون} [الأنفال: 24]، أي إن تركتم الاستجابة لله ورسوله عاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم فلا تقدرون على الاستجابة بعد ذلك. قال ابن عباس فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا يوم أخذ ميثاقهم، حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرهًا، وأقرُّوا باللسان وأضمروا التكذيب “. اهـ. مختصرًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (14/ 331-337): “… إن ما يُبتلى به العبد من الذنوب الوجودية – وإن كانت خلقًا لله – فهو عقوبة له على عدم فعله ما خَلقه الله له، وفَطره عليه؛ فإن الله إنما خلقه لعبادته وحده لا شريك له ودله على الفطرة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة”، وقال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
فهو لما لم يفعل ما خُلق له، وما فطر عليه، وما أمر به: من معرفة الله وحده، وعبادته وحده= عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي؛ قال تعالى للشيطان: { اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء: 63] – إلى قوله – {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 201، 202].
فقد تبين: أن إخلاص الدين لله: يمنع من تسلط الشيطان ومن ولاية الشيطان التي توجب العذاب؛ كما قال تعالى {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فإذا أخلص العبد لربه الدين كان هذا مانعًا له من فعل ضد ذلك، ومن إيقاع الشيطان له في ضد ذلك. وإذا لم يخلص لربه الدين، ولم يفعل تسلط الشيطان عليه حتى يزين له فعل السيئات، وكان إلهامه لفجوره عقوبة له على كونه لم يتق الله؛ وعدم فعله للحسنات ليس أمرًا وجوديًا حتى يقال: إن الله خلقه! بل هو أمر عدمي. لكن يعاقب عليه لكونه عدم ما خلق له، وما أمر به. وهذا يتضمن العقوبة على أمر عدمي. لكن بفعل السيئات لا بالعقوبات – التي يستحقها بعد إقامة الحجة عليه.
وإن كان الله خالق أفعال العباد، فخلقه للطاعات نعمة ورحمة، وخلقه للسيئات له فيه حكمة ورحمة وهو – مع هذا – عدل منه؛ فما ظلم الناس شيئا ولكن الناس ظلموا أنفسهم، وظلمهم لأنفسهم نوعان: عدم عملهم بالحسنات، فهذا ليس مضافًا إليه. وعملهم للسيئات: خَلَقَه عقوبةً لهم على ترك فعل الحسنات التي خلقهم لها وأمرهم بها؛ فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل.
ومن تدبر القرآن: تبين له أن عامة ما يذكره الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، وقال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل: 8-10]، وهذا وأمثاله بذلوا فيه أعمالاً عاقبهم بها على فعل محظور وترك مأمور. وتلك الأمور إنما كانت منهم، وخلقت فيهم؛ لكونهم لم يفعلوا ما خلقوا له، ولا بد لهم من حركة وإرادة. فلما لم يتحركوا بالحسنات حركوا بالسيئات عدلاً من الله؛ حيث وضع ذلك موضعه في محله القابل له – وهو القلب الذي لا يكون إلا عاملاً – فإذا لم يعمل الحسنة استعمل في عمل السيئة؛ كما قيل: نفسك إن لم تشغلها شغلتك.
لكن أول الذنوب الوجودية: هو المخلوق، وذاك عقوبة على عدم فعل العبد لما خلق له ولما كان ينبغي له أن يفعله، وهذا العدم لا يجوز إضافته إلى الله، وليس بشيء حتى يدخل في قولنا: “الله خالق كل شيء”، وما أحدثه من الذنوب الوجودية فأولها: عقوبة للعبد على هذا العدم، وسائرها: قد يكون عقوبة للعبد على ما وجد، وقد يكون عقوبة له على استمراره على العدم؛ فما دام لا يخلص لله العمل فلا يزال مشركًا، ولا يزال الشيطان مسلطًا عليه.
ثم تخصيصه سبحانه لمن هداه – بأن استعمله ابتداء فيما خُلق له، وهذا لم يستعمله – هو تخصيص منه بفضله ورحمته؛ ولهذا يقول الله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، ولذلك حكمة ورحمة هو أعلم بها كما؛ خص بعض الأبدان بقوى لا توجد في غيرها، وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية وغير ذلك من حكمته”. اهـ. مختصرًا
إذا تقرر هذا علم أن الإضلال الأول ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى.
أما خلق الله لأفعال عباده: فالله تعالى خالق كل شيء للعبد هيأته من حين مولده إلى مماته، وقصده ونيته وخطراته وعلمه، إلى غير ذلك والله أعلم.
Source link